وقف على قبر شهيد حتى صار الشهيد والأسطورة

حجم الخط

كتب أنطوان نجم في “المسيرة” – العدد 1745

مع بشير في إنقاذ وجودنا الحرّ

أقول مسبقًا إنّني لا أبالغ في ما أكتب عنه ولا أنمّق. كلامي على بشير الجميّل، بعد كلّ هذه السنوات على انتقاله إلى الحياة الخالدة، واقعيّ، موضوعيّ، صادق كلّ الصدق على الرغم من عاطفتي الخاصّة تجاهه. العاطفة شيء والحقائق التاريخيّة شيء آخر.

لا شكّ في أنّ لبشير شخصيّة كارزميّة محبّبة. وطَلعته أمام الناس جذّابة. تعامل معهم ببساطة، تنضح تواضعًا على الرغم من عنفوان صارخ يرشح منه عفوًا. كان ذا حدْس رهيف، لطالما استخدمه في اتّخاذ قرار. ولكنّ هذا ليس كلَّ بشير. بشير الذي عرَفه الناس في الداخل والخارج، خصوصًا منذ العام 1980، بشير الأسطورة، هو، أيضًا، ذاك الذي صقلته الأحداث، وعرف أن يغرُف من رفاقه العاملين معه، على أصعدة السياسة والفكر السياسيّ والعسكريّ، وطرائق التحليل، والعمل مع المسؤولين السياسيّين في الداخل والخارج، في أعلى درجات المسؤوليّة أو في أدناها. ولطالما شعر الناس العاديّون أنّ بشير يتعامل معهم على أساس قيمتهم الإنسانيّة الحقّة.

عاش بشير معاناة شعبه بكلّ كيانه. واستوعب ما كان يحصل. وقام بما عليه بجرأة نادرة. جميع الذين عايشوه كانوا مدهوشين من أسلوب اقتحامه الظروف والأوقات العصيبة، وفهمِه لما يجري، وإدراكه، بعد المداولات، ما ينبغي القيام به.

1975-1982، سنوات سبع من نضال لم يعرف الكلل، تُوّجتْ بانتصار الوجود الحرّ على محاولات خنقَه وتمزيقه واستعباده.

كنتُ عضوًا عاملًا وفاعلًا في حزب الكتائب اللبنانيّة منذ العام 1952. ولكنّني لم أكن أعرِف بشير، ولم ألتقه ولا مرّة قبل خريف العام 1975.

عصر يوم الخميس الواقع فيه 27 تشرين الثاني 1975، إتّصل بي رفيقي وصديقي الكبير جوزيف أبو خليل، هاتفيًّا، ليعلمني أنّه آتٍ لزيارتي الليلة برفقة الشيخ بشير الجميّل. وصل الرجلان في أوّل السهرة. دار الحديث حول مواضيع الساعة.

وكان المسيحيّون قد لاحظوا أنّ حادثة، مثل حادثة بوسطة عين الرمّانة، أنتجت، بسرعة هائلة يكاد يستوعبها الوعي، وعلى نحوٍ غريب عجيب مريب، تداخلًا إختلاطيًّا بين مطالب إسلاميّة، عمرها من عمر إنشاء الكيان، واستراتيجيّة فلسطينيّة مسلّحة تقول إنّها تهدف إلى تحرير فلسطين، ودعوات اليسار إلى محاربة «الإمبرياليّة» الأميركيّة والغربيّة في لبنان.

دام اللقاء حوالى ثلاث ساعات، كان فيها بشير مستمعًا وطارحًا أسئلة، أكثر ممّا كان متكلّمًا.

بين هذا اللقاء ومطلع شهر كانون الأوّل 1975، إستفحلت الأزمة، وراح الخراب ينتشر في لبنان.

مساء يوم الجمعة الواقع فيه 5 كانون الأوّل 1975، إتّصل بي بشير، هاتفيًّا، وأعلمني أنّه في طريقه إلى منزلي، وليس في رفقته أحد.

فور وصوله، دخلنا في بحث عمّا يمكن عمله لإنقاذ لبنان – الكيان، فإنقاذ المسيحيّين ممّا يُدبّر لهم، خصوصًا بعدما ورد في توصيات لجنة الإصلاح السياسيّ، بتاريخ 14 تشرين الثاني 1975، المنبثقة من «لجنة الحوار الوطنيّ» بـ»إلغاء الطائفيّة السياسيّة». وكان ردّ حزب الكتائب بالرفض. وبحثنا، أيضًا، في زيارة الشيخ بيار الجميّل غدًا، السبت الواقع فيه 6 كانون الأوّل 1975، إلى سوريا، وتأثيرِها على مجرى الأحداث. دام لقاؤنا حتى الساعة الواحدة والربع من صباح السبت. وكان بشير دقيقًا في أسئلته واستيضاحاته ومناقشاته.

عند انتهاء اللقاء، قال بشير: عليّ أن أصعد إلى بكفيّا إمّا من طريق أنطلياس، وإمّا من طريق المون لاسال ـ عين سعاده – بعبدات. قلت له: طريق مون لاسال – عين سعاده موحشة جدًّا في مثل هذه الساعة. ومخيّم تل زعتر قريب منها. وأصررتُ على تفادي هذه الطريق. فقرّرَ، عندئذ، «كِرْمالي»، كما قال، سلوك طريق أنطلياس.

رنّ هاتف منزلي صباح السبت باكرًا جدًّا. كان بشير على الخطّ.

قال: هل عرفت بما جرى؟

قلت: لا!

قال: هناك مذبحة رهيبة في بيروت.

قلت: كيف؟ بين مَن ومَن؟

قال: بين جماعتنا والآخرين. والسبب مقتل أربعة كتائبيّين على طريق المون لاسال -عين سعاده. نزل ذوو الضحايا ورفاقهم إلى بيروت، وبدأوا القتل على الهويّة. ما يجري رهيب. ولستُ قادرًا على إيقاف المجزرة. لا أحد يصغي إليّ. وكاد يُعتدى عليّ.

وهكذا عرفتُ بما سمّي «السبت الأسود».

وأغلق الهاتف بعدما شكرني لأنّني أنقذته من الموت، كما قال.

ولمّا كان الشيء بالشيء يُذكر، يهمّني أن أروي ما يأتي: إتّصل بي بشير قبل ظهر يوم الثلاثاء في 14 أيلول 1982 ليعلِمني بأنّه سيجتمع، كعادته، بأبناء الأشرفيّة بعد ظهر هذا اليوم. فليس من الضروريّ أن تكون (أنا أنطوان) موجودًا. وهذا ما حصل. فاستشهد. وبدوره أنقذني.

كان بشير في الثانية والعشرين من العمر عندما وقّع العماد إميل بستاني، قائد الجيش اللبنانيّ في عهد الرئيس شارل حلو، «إتّفاق القاهرة» مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة في 3 تشرين الثانيّ 1969.

وعى بشير أخطار هذا الإتّفاق، خصوصًا بعد تنبيهات ريمون إدّه وتحذيراته. وما أعطاه زخمًا كبيرًا في اقتناعه بضرورة الدفاع عن الخطر المحدق بمجتمعه المسيحيّ، كان اختطافه من قِبَل فلسطينيّي مخيّم تل زعتر في 25 آذار 1970، واحتجازه مدّة ثماني ساعات.

سافر إلى مصر في العام نفسه، والتقى الرئيس جمال عبد الناصر الذي أسرّ إليه بحلمه «بعالم عربيّ مسلم بالكامل». فتوجّس بشير شرًّا، وهو مَن يعلم أنّ مثل هذا التوجّه يجعل مسيحيّي لبنان ذمّيّين. والذمّيّون، يقول بشير، «يأكلون ويشربون ويعملون ويتوالدون. هذا ما يوجز حياتهم. أمّا سياسيًّا فلا حقوق لهم». وأضاف: «أن نكون مواطنين أحرارًا في بلدنا بالذات أو لا نكون، فذلك يعني إمّا أن نخضع وإمّا أن نهاجر وإمّا أن نقاتل».

إعتقد الناس، في نهاية العام 1976، أنّ الحرب انتهت. فكثر الكلام والتعليق على ما سُمّي «حرب السنتَين». وأملوا أن يخيّم السلام.

ولكن على أيّ أساس؟

ما من مطلب رئيسيّ تحقّق. وما من مشكلة رأت لها حلًّا. وما من أحد، من البارزين في الساحة، بلغ خطًّا مُرْضيًا بالنسبة إليه.

وحده الرئيس حافظ الأسد، سيّدُ مَن برع في الإمساك باستراتيجيّة متعدّدة الخيوط، ومتناقضةِ الإتّجاهات، في الظاهر، والمتلاقيةِ الأبعاد، في النهاية، بدا وكأنّه حقّق الخطوة الأولى من مشروعه. إلّا أنّ نجاح الأسد اصطدم بصلابة الرئيس سركيس، فوقف عند هذه العقدة. قال الرئيس سركيس: «فَهُمْ (أي السوريّون) غاضبون لأنّي لم أستسلم قط أمامهم. وعلى الرغم من وجود ثلاثين ألف جنديّ سوريّ، رفضتُ أن أوقّع مع دمشق أيّ معاهدة من أيّ نوع كان».

ومنذ العام 1977، أخذتُ على عاتقي أن أقرأ ما يتيسّر لي من أبحاث وكتب، ممّا أعتبرُه مرجعًا في موضوع يهمّ مقاومَتنا. ألخّصه بأسطر، أو بصفحات قليلة، وأرسله إلى بشير للإطّلاع عليه. فبشير، ككلّ القادة في الظروف الإستثنائيّة، يعيش دوّامة مسؤوليّات. فهو غير قادر، عمليًّا، على الإطّلاع على ما يستجدّ على هذا الصعيد، ويكون ضروريًّا لنضاله اليوميّ.

كان بشير يكتفي، أحيانًا، بقراءة الملخّص. وأحيانًا أخرى، يطلبّ إليّ بعض اﻹيضاحات اﻹضافيّة. وهكذا لخّصت عددًا من الدراسات واﻷبحاث والكتب.

واستمرّت الحرب عبر أحداث متقطّعة ومتنقّلة، لتنقلب، بعدئذٍ، إلى حروب، أهمّها وأعنفها وأخطرها، وقتئذٍ، «حرب المئة يوم» في العام 1978، التي شنّها السوريّون ضدّ بيروت الشرقيّة، والمناطق المسيحيّة جنوب العاصمة وشرقها وشمالها، والمتن وكسروان… وكأنّ فوّهة جهنّم انفتحت، وأخذت تبصق نيرانها على البشر والحجر. ورافق هذا اللهيبَ تهديدُ الإذاعة السوريّة، في 3 تمّوز، بأنّ موعد الحسم قد اقترب.

في خضم هذه الحرب، أطلقت «القوّات اللبنانيّة»، من منطقة «العذرا» في فتوح كسروان، «إذاعة لبنان الحرّ» التي بدأت بثّها يوم السبت في 30 أيلول 1978.

تمحور عملي في «إذاعة لبنان الحرّ» على تعليقات سياسيّة وأحاديث فكريّة مستوحاة، إمّا ممّا يجري من أحداث، وإمّا ممّا له صلة بمستقبل لبنان.

مرّت منطقة الشرق الأوسط بمفصلَين مهمَّين في العام 1979.

في شباط، انتقلت إيران من «إمبراطوريّة بهلويّة» إلى «نظام إسلاميّ شيعيّ»، لم يُبطئ في جعل جاذبيّته تشعّ في بقاع الشيعة أينما وُجدوا، خصوصًا غربَ مركز الثورة الخمينيّة، أي العراق والخليج ولبنان…

وفي 26 آذار، وقّعت مصر وإسرائيل معاهدة سلام هزّت ما اعتبره العرب ثوابت الخرطوم، منذ هزيمة العام 1967، وكسرت كبرياءهم. فأسرع مؤتمر لوزراء الخارجيّة والاقتصاد العرب، في 31 آذار، إلى التوصية بقطع العلاقات السياسيّة والدبلوماسيّة مع الحكومة المصريّة.

عاد حديث التوطين، في مطلع العام 1979، يُشغل الآذان والأذهان. وشاع، أيضًا، أنّ تقريرًا، رُفع إلى رئيس الجمهوريّة الياس سركيس، يفيد عن صفقات ضخمة، تمّ، خلالها، شِراء أراض واسعة بين نهرَي الليطاني والزهراني، ممّا حدا بمجلس البطاركة الكاثوليك للتعبير عن قلقه، في بيان على أثر ختام أعمال دورته العادية الثانية التي عُقدت في دير سيّدة اللويزة.

ويوم السبت الواقع فيه 24 شباط 1979، عقدت الكتائب اللبنانيّة خلوة في دير سيّدة البير. وفي ختامها، صدر بيان يعلن «الإصرار على وحدة لبنان القائمة على التنوّع الإيجابي المبدِع والموحِّد، وذلك بموجب نظام سياسيّ ملائم، وهذا يتضمّن رفضًا تاريخيًّا قاطعًا لشتّى طموحات التوطين والتقسيم». وأضاف البيان: «غنيّ عن القول إنّ التوطين، عدا عن أنّه يكرّس تقسيم الأرض والشعب في بلادنا، يدفن قضيّة فلسطين إلى الأبد.»

بعد أسبوع من تصريح لعبد الحليم خدّام، في 11 نيسان 1979، في مقابلة مع جريدة «اللوموند» الفرنسيّة، مؤكّدًا بقاء القوّات السوريّة في لبنان، مدّدت جامعة الدول العربيّة عمل «قوّات الردع العربيّة» أم لا، ومركِّزًا على أنّ الجيش السوريّ دخل لبنان من غير إذن جامعة الدول العربيّة، وأنّه سيبقى في لبنان ما دامت المصالح العربيّة العليا تتطلّب ذلك.

من 5 أيّار حتى 12 أيلول 1979، حصلتْ، على نحو متقطّع ومروِّع، إشتباكات بين أرمن برج حمّود – النبعة، من جهة، وكتائبيّين وأحرار، من جهة أخرى، سقط فيها قتلى وجرحى عديدون من الفريقَين. ولم تهدأ الأمور إلّا بعد اجتماع عقده القادة المعنيّون، في دار بطريركيّة الأرمن في إنطلياس، يوم الخميس الواقع فيه 13 أيلول 1979.

في ضجيج الإشتباكات، قال لي بشير يوم السبت الواقع فيه 8 أيلول: إنّ ما يجري هو «ربط نزاع» مع الأرمن. نريد منهم موقفًا واضحًا: أهم معنيّون، أم لا، بالدفاع عن مصير المسيحيّين؟ ولماذا يدّعون الموقف الحياديّ؟ ما الذي يبرّره؟ إنّ واجبهم أن يشاركوا في الدفاع عن وجود المسيحيّين ومصيرهم وحرّيّاتهم، كما نفعل نحن. ثمّ، لماذا لا يندمجون في الحياة المسيحيّة العامّة، ويصرّون، واقعيًّا، على تشكيل «غيتو» أرمنيّ خاصّ بهم، وكأنّهم لا ينتمون إلى المجتمع المسيحيّ؟

قلتُ له: الموضوع أعمق ممّا تتصوّر، ويفترض هدوء أعصاب ورويّة. وعلينا أن نفهم مرّة واحدة ونهائيّة أن لا أحد يحقّ له أن يتحكّم بأحد. ولا أحد أُعطي حقّ السيطرة والتوجيه. ولا تنتظر من أحد إلّا رد فعل طبيعيًّا ضدّ كلّ ما يوحي أنّه يتجاهل خصائصه أو يُسقطها من حسابات الأخذ والعطاء.

المشكلة الكبيرة التي وقعتْ فيها الفكرة القوميّة، أيّ قوميّة، هو رفضها الفروق في «الهويّات المجتمعيّة» في داخل الدولة الواحدة، والسعيُ إلى تذويبها في اعتقاد قوميّ «ما»، حقيقيّ أو وهميّ. «القوميّة» أحاديّة البُعد، ترفض الإعتراف بالآخر المقابل. إنّها مَصْهَرٌ لتذويب وهميّ. لذا سبّبت الفكرة القوميّة، في أوروبّة، مثلًا، حروبًا كثيرة، وآلامًا مبرّحة، وطغيانًا ذهب إلى حدّ فناء آخرين.

لقد كانت الإمبراطوريّات القديمة التقليديّة أرحم من القوميّة وأكثر رأفة. في تلك الإمبراطوريّات كان يُكتفى بالولاء للإمبراطور، أو السلطان، أو الحاكم الأكبر. أمّا خصائص وخصوصيّات الجماعات الداخلة في الإمبراطوريّة فلم تكن، إجمالًا، ذات أهميّة عند الحاكم ما دامت الضريبة تصل إليه بانتظام، أو إذا قام تعارض أساسيّ بين الإمبراطوريّة والجماعة. وعندما اندثرت الإمبراطوريّات بقيت الجماعات المتمايزة الخصوصيّة.

أمّا في عصر القوميّات، فقد قام رفض متبادل مبدئيّ بين الجماعات ذوات الخصوصيّات المتمايزة في الدولة الواحدة، ممّا أدّى إلى زوال أكثر من هويّة مجتمعيّة، وأفضى إلى اضطهاد وطغيان.

إتّصف العام 1980، في لبنان، بمزيد متصاعد من الدمع والدم والدمار. إنتشر الموت والخراب في طول البلاد وعرضها. ونشطتْ أعمال السلب والنهب والسطو. وازداد تعرّض الناس للأذى والخطف والإستيلاء على سيّاراتهم وما يحملون. وراج إنفجار السيّارات الملغومة والعبوات الناسفة وسقوط الأبرياء. وتزايدت الشكوى من «العناصر غير المنضبطة»، هنا وهناك وهنالك، والتي صارت ذريعة يختبئ وراءها المرتكبون ومستغلّو أيّ شيء يمكّنهم من الوصول إلى النفوذ والمال والموقع، ومن القيام بخدمات ببدل أتعاب. وطالِبو مثل هذه الخدمات ليسوا بقليلين.

ما عدنا نعرف مَن يقاتل مَن؟ فقد اختلط الحابل بالنابل في ما بين الفلسطينيّين والشيعةِ والسّنّة وجيشِ لبنان الجنوبيّ (سعد حدّاد) والبعث وحركة 24 تشرين والحركةِ الوطنيّة وأنصارِ الثورة و»المرابطون» والسوريّين القوميّين وأملِ والكتائب والأحرار والمردةِ والردع… وكذلك بين الكتيبة الإيرلنديّة في الجنوب والأهلين، وجيش لبنان العربيّ وكلّ من الجيش اللبنانيّ وقوى الأمن الداخليّ… فضلًا عن عمليّات الإسرائيليّين ضدّ الفلسطينيّين والمُتَفَلَسْطِنين، والعكس بالعكس.

وعلت أصوات الإتّهامات والإتّهامات المضادّة داخل المجموعات على اختلاف أنواعها. كما عاد موضوع توطين الفلسطينيّين إلى الواجهة بقوّة، خصوصًا بعد الذي ورد على لسان هنري كيسنجر، في مؤتمر صحفيّ، قبل أن يُلقي كلمة الإفتتاح في مؤتمر اقتصاديّ، عُقد في العاصمة البريطانيّة في شهر حزيران من هذه السنة. قال: «إنّ حلّ القضيّة الفلسطينيّة يمكن أن يتمّ بتوطين الفلسطينيّين في لبنان والدول العربيّة». كان لكلام كيسنجر وقعه على الرغم من أنّه لم يكن، وقتذاك، في أيّ منصب رسميّ.

ويوم السبت الواقع فيه 27 أيلول 1980، في دير سيّدة البير، عُقد إجتماع موسّع دعا إليه بشير. ترأّسه الدكتور شارل مالك وحضره المسؤولون الرئيسيّون في القوّات اللبنانيّة. في هذا اللقاء، تمّت مناقشة ورقةِ عمل، وضعتُها أنا، وشارك فيها الضابط ميشال عون من ناحية الموضوع العسكريّ فقط. كان عنوان الورقة: «دراسة استراتيجيّة المرحلة المقبلة» بعد 7 تمّوز، ومحورُها فكرة وصول المقاومة اللبنانيّة إلى رئاسة الدولة في شخص بشير الجميّل.

إتّخدنا قرارًا بإيصال بشير إلى الرئاسة في صيف 1982. ووُزّعت المسؤوليّات التنفيذيّة على أشخاص معيّنين.

في أجواء فَتَرَت فيها الإشتباكات العسكريّة، من غير أن تنقطع، وبعد تأليف حكومة الرئيس شفيق الوزّان في 25/10/1980، قرّر وزير الإعلام، ميشال إدّه، تشجيع قيام لقاءات حواريّة بين الأفرقاء اللبنانيّين، عبْر الإعلام المرئيّ، في برنامج أُطلق عليه إسم «الملفّ». وما إن أُنجزتْ منه عدّة حلقات بين 17 تشرين الثاني 1980 وآذار 1981، حتى توقّف بسبب مقدِّمات تفجُّر الوضع الأمني الذي أدّى إلى معارك عُرفت بحرب زحلة. إشتركتُ في «الملف» بناء على طلب بشير. وكان له صداه.

إنفجرت الأوضاع ابتداءً من يوم الأربعاء الواقع فيه 1 نيسان 1981.

تجدّدت الإشتباكات في زحلة. ورافقها قصف مدفعيّ على أحياء المدينة.

في اجتماع طارئ في المجلس الحربيّ، رغبتُ إلى بشير في أن يعتبر أنّ «ما بعد 2 نيسان ليس مثل ما قبل 2 نيسان»، من الناحيتَين الاستراتيجيّة العامّة والسلوك العملانيّ على أرض الواقع. (كان بشير يقضم أظافره. كان قلقًا. وقلقه ظاهر حتى في الإبتسامات التي كان يوزّعها.)

وعلى الرغم من صدور قرار بوقف إطلاق النار عن الرئيس سركيس، بصفته قائدًا لقوّات الردع العربيّة – والتي كانت قد صارت سورّيةً صرفًا – فإن الجيش السوريّ لم يتقيّد به، لا بل أخذت الإشتباكات تشتدّ وتمتدّ لتشمل المنطقتَين الشرقيّة والغربيّة، والضاحيتَين الجنوبيّة والشرقيّة، ومحيطَ القصر الجمهوريّ في بعبدا، ووزارة الدفاع في اليرزة. وتوسّع القصف ليصل إلى شتورة وقرًى في المتن وكسروان…

واستمرّت اجتماعات بشير والمعاونين كافّة ليل نهار طوال الأزمة.

في 21 نيسان 1981، روى بشير ما جرى معه في اللقاء الذي تمّ بينه وبين السفير الأميركيّ جون غنتر دين. قال: فتح السفير شنطته وأراني ما كتبه عنّي. قرأتُ التقرير، فإذا هو موافق لنا أكثر من أيّ وقت مضى. وأضاف السفير شفويًّا: أنت، يا شيخ بشير، رجل نظيف وآدمي. أنت أفضل وطنيّ في هذا البلد.

وخلال الحديث مع السفير، قال بشير: «السوريّ منع التدويل، ومنع التعريب. حتى اللبننة منعها. عندما ضرب السوريّ مناطقنا في 2 نيسان، لم نردّ عليه. لم نضرب المسلم. المسلم لم يعد يلبّي السوريّ. السوريّ، اليوم، في سباق مع الزمن. سعى السوريّ لتسليم التلال إلى البعثيّين الشيعة في منطقة بعلبك. ولكنّهم رفضوا. إتّصل بي بعضهم وأبلغوني ذلك. كان المطلوب أن يقوم 150 فردًا منهم بهذه المهمّة. لكنّهم رفضوا.»

بتاريخ 8 أيّار 1981 قال بشير لـ»فيليب حبيب» ممثِّل الرئيس الأميركيّ: «أنت تمون علينا في أيّ أمر يسهّل لك مهمّتك، باستثناء ما يمسّ وطننا وكرامتنا». وفي 4 حزيران 1982، قال لنا في اجتماع: «لسنا معقّدين تجاه أحد. أستعيد قراري من الجميع. في كلّ مفاوضة، لا نطلب إذنًا من أحد للتفاوض مع إيّ كان، واتّخاذ أيّ موقف. أتفاوض بحسب اقتناعاتي وبلا قيود. لا نقبل أن يجادلنا أحد في قرارنا. لا نسمح لأيّ كان بأن يُملي علينا أيّ شيء».

بتاريخ 17 أيّار 1981، دار بين بشير والسفير الأميركي نقاش أنهاه بشير بقوله: «نحن هنا باقون، وسنبني وطنًا». دام حصار زحلة 91 يومًا. وكان نصرنا مزدوجًا. من جهة، فشل الأسد في تحقيق أهدافه. ومن جهة أخرى، أدخلنا التوازن الدوَليّ في المنطقة لصالحنا.

سافر بشير إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة في آب 1981، بعد انتهاء أزمة زحلة. وقام هناك بلقاءات عديدة، وعلى مختلف المستويات. في أحد هذه اللقاءات، دار حوار مهمّ جدًّا بين بشير وتشارلز كوغن Charles Cogan المسؤول عن مكتب الشرق الأوسط في وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة، أقتطع منه هذه الأسطر الأربعة، وعلى كلّ منّا أن يقيّمها:

كوغن: إذا أعطايناكم مالًا فهل تستطيعون شراء أسلحة؟ إذهبوا إلى كوريا والبرتغال ونحن ندعمكم بالمال.

بشير: نحن لا نريد مطلقًا أن نتعاطى بالمال. ونفضّل أن نأخذ التجهيزات. إمّا إذا كنتم لا تستطيعون ذلك فلا بأس.

كوغن: الذي تقوله واضح جدًّا بالنسبة إلينا. ونحن نعلم تمامًا ما أنت عليه. ولو لم نكن نعلم من أنتَ، ما كنّا أرسلنا في طلبك، ولما كنّا انتظرنا ثلاثة أشهر، ولما كنّا توّاقين لرؤيتك.

ويوم الجمعة الواقع فيه 27/11/1981، إجتمع بشير بالسفير السوفييتيّ ألكسندر سولداتوف، وكان الإجتماع الرابع بينهما. سأل السفير بشير: «كيف تتصوّرون أن تكونوا مقبولين في المستقبل في العالم العربيّ وأنتم طائفة مسيحيّة؟» أجابه بشير: «نحن أبناء هذه الأرض. ونحن باقون هنا. لا نركع ولا «نأشمل». ولا نقبل بوطن مسيحيّ. ساعدونا مع سورية لنتعاون جميعًا على إيجاد حلّ لقضيّتنا. سياسيًّا، لا شيء يمنع أن نتعاون. الخلافات العقائديّة نتركها للتنافس وللحوار والنقاش.»

هذا هو بشير في تعامله المباشر مع أهم دولتَين في العالم. لا كذِب، ولا استرضاء، ولا انبطاح… بل عنفوان وكرامة وأخلاق ووطنيّة، وتعالٍ عن كلّ أنانيّة شخصيّة.

يوم الأحد الواقع فيه 29/11/1981، أحيا بشير إحتفالًا في الذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس حزب الكتائب اللبنانيّة، ألقى فيه خطابًا – مبادرة لحلّ الأزمة اللبنانيّة، مبادرة «منفتحة وقابلة للتنفيذ»، جاء فيها القول الآتي: «نريد رئيسًا وقف، ولو مرّة واحدة، أمام قبر شهيد».

هل يمكن أن نتمنّى في رئيس الدولة صفة أهمّ من هذه الصفة؟

عند انتهاء الخطاب، استمعتُ الى تعليقَين سريعَين وعفويَّين، من بين تعليقات عديدة. قال رجل: «الشيخ بشير هو الرجل الوحيد على الساحة اللبنانيّة الذي يعرف أن يخاطب القلب والعقل معًا. فلا القلب يطغى لكي تنساق الناس وراء إنفعال عاطفيّ، ثمّ يبرد بسرعة بعدما يكون قد خرّب ودمّر، ولا العقل يطغى بشكل يعتبر الناس كأنّها أرقام باردة وجامدة في آلة باردة وجامدة». وعلّقت سيّدة بقولها: «الشيخ بشير شخَّص وعالجَ، وكأنّه الطبيب الجرّاح الذي حدّد بدقّة متناهية مكان العلّة وجاء يستأصل مكان المرض، وكلّه ثقة بما يفعل».

في الحقيقة كان خطابًا رصينًا وجدّيًّا وواقعيًّا وبعيد النظر، وظهر فيه بشير أنّه رجل الإنقاذ.

في توزيع المهمّات في مشروع إيصال بشير إلى الرئاسة، كُلّفتُ بوضع «برنامج الحكم» لسنوات الرئاسة الستّ. وأُعطيتُ الصلاحيّات الضروريّة ﻹنجاز هذا العمل في مدّة أقصاها شهران. وعن الصياغات الفكريّة العائدة إلى نظرتنا إلى لبنان ونظام الحكم فيه، تولّى وضعها الدكتور شارل مالك وأنا. وقد تولّيناها من غير تكليف من أحد، وبمبادرة شخصيّة منّي، خوفًا من أن يداهمنا الوقت.

في 5 حزيران 1982 بدأتُ العمل في «برنامج الحكم».

إعتبرتُ أنّ هذا البرنامج ينبغي أن يتشكّل من قسمَين رئيسَين. يتناول اﻷوّل ما له علاقة بتنظيم الدولة والسياسة. والثاني، ما له علاقة بشؤون اﻹنماء على اختلاف حقولها.

تشكّلت لجان إختصاص عدّة، يهتمّ بكلّ منها منسّق. وتشكّلتْ برئاستي لجنة صياغة نهائيّة من 8 أشخاص، تجتمع يوميًّا في مكتبي، لتدرس ما تنتهي إليه لجان الإختصاص. وكنتُ، في أحيان كثيرة، أجتمع مباشرة مع كلّ من اللجان ﻷحدّد لها التوجّهات المطلوبة بدقّة.

إنّ عملي الموزّع بين لجان الإختصاص، ولجنة الصياغة، وإطلاع بشير، من وقت إلى آخر، على ما توصّلنا إليه، وحضور الإجتماعات العاديّة والإستثنائيّة المتكرّرة، وأحاديث إذاعيّة، وما يطرأ من لقاءات في «لجنة البحوث اللبنانيّة» في جامعة الروح القدس في الكسليك، ومع صحافيّين ومواطنين يأتون إلى بشير يستوضحونه ما يجري، كان يتفاوت بين 12 و18 ساعة يوميًّا. ولربّما تواصل، في بعض اﻷيّام، إلى ما بعد منتصف الليل ﻷعود وأستأنفه في الثامنة صباحًا.

في خلال أسبوع واحد، أُنجز ملفّ عنوانه «فعل إيمان بلبنان». وضعه شارل مالك وأنا. وكنّا بدأنا به منذ فترة. ولكن روح شارل مالك وفلسفته اللبنانيّة كانتا السائدتَين فيه. وهو من 10 عناوين، إضافة إلى الإستهلال والخاتمة. وهي: اﻷسس البنيانيّة، لبنان واجب الوجود، لبنان وطن الحرّيّة واﻹنسان، الولاء للبنان فقط، اﻷخطار اﻷربعة، السياسة التربويّة، حماة لبنان، لبنان مصدر أمان لجيرانه، القانون وحقوق اﻹنسان، المجتمعيّة اللبنانيّة الجديدة. هذا الملفّ كوّنَ الروحيّة العامّة لـ»برنامج الحكم» من غير أن يُعتبر جزءًا مادّيًّا منه.

وتفرّدتُ ببرنامج خاصّ للمرحلة الإنتقاليّة. والمقصود بذلك ما ينبغي أن يقوم به رئيس الجمهوريّة الجديد في اﻷيّام المئة اﻷولى التي تلي تسلّمه مسؤوليّاته الدستوريّة، أي من 23 أيلول إلى 31 كانون اﻷوّل 1982. وشكّل هذا البرنامج ملفًّا خاصًّا. وقد حدّدتُ أهدافه على النحو اﻵتي: طبع العهد بطابع رئيسه، وخلق ردّ فعل شعبيّ إيجابيّ، وتلبية الحاجات الملحّة والممكن تنفيذها بسرعة، وإزالة ما يمكن من عوائق وعقبات لتسهيل مهمّة الرئيس.

سألني بشير عندما قبّلتُه مهنّئًا بعد إعلان نجاحه في 23 آب: «أين أصبح البرنامج يا أنطوان؟»

أجبتُه: «لقد انتهى في الموعد المحدّد لي، وهو ينتظر التنفيذ».

وهناك حدث مهمّ جدًّا هو زيارة بشير مدينة الطائف في المملكة العربيّة السعوديّة، ليل الأوّل من تمّوز 1982، حيث التقى لجنة تتألّف من الأمين العام لجامعة الدول العربيّة ووزيرَي السعوديّة والكويت.

فاوَضَتْه اللجنة على إبقاء 300 مسلّح فلسطينيّ فقط في المخيّمات بهدف حمايتها. فكان موقف بشير الرفض المطلق وبشدّة. وأفادها أنّه هو، رئيس الجمهوريّة، مسؤول عن أمن جميع المقيمين على الأراضي اللبنانيّة، أمواطنين أم غير مواطنين. ولا، ولن يسمح بأيّ شكل من الأشكال بقاء أيّ سلاح خارج القوى المسلّحة اللبنانيّة الرسميّة.

دامت المفاوضات بلا فائدة من الساعة العاشرة والنصف من ليل الخميس 1 تمّوز حتى الساعة الثانية من صباح يوم الجمعة في 2 تمّوز. لم يهتمّ بخسارة الرئاسة. فهل هناك سابقة أو لاحقة مثيلة لموقف مرشّح لرئاسة دولة؟ لذا، عاد بشير ولبنانه مرفوعَي الرأس.

كان ﻻجتماع بشير باللجنة العربيّة في الطائف، وقع مدوٍّ في اﻹعلام وفي ردود فعل المحافل السياسيّة اللبنانيّة المختلفة. فكان عليّ أن أتناول موضوع الساعة. فاغتنمتُ مناسبة إطلالتي اﻷسبوعيّة من «صوت لبنان» في الحلقة 32 من برنامج «محطّة ورأي»، يوم اﻹثنين الواقع فيه 5 تمّوز، للكلام على عواقب مناورات الفلسطينيّين ومماطلاتهم، وتضارب تصريحات زعمائهم. وكان حديثي هذا مكملًا لحديثي في الحلقة السابقة من «محطّة ورأي»، في اﻷسبوع السابق.

في الفترة القصيرة التي تلت ترشيح بشير الجميّل للرئاسة الأولى في 24 تمّوز 1982 فانتخابه في 23 آب 1982 وحتى 14 أيلول 1982، ركّز «المرشّح والرئيس» كثيرًا على فكرة «لبنان القويّ» و»الحكم القويّ».

«عرّف بشير «لبنان القويّ» فقال: «لبنان القويّ بديمقراطيّته هو لبنان القويّ بحرّيّته وبكلّ مؤسّساته… لبنان القويّ بديمقراطيّته، هو لبنان الذي يتمتّع بمجلس نيابي قويّ، وبصحافة قويّة ونظيفة، وبوازرة تربية وبرامج تربويّة قويّة، وبقضاء قويّ، وبجيش قويّ قادر ومؤمن بالقضيّة التي يضحّي من أجلها. لبنان القويّ هو القويّ بكلّ هذه المؤسّسات، وغير مهدّد ومعرَّض للأخطار، ومن دون أن يكون لكلّ واحد منّا «مزراب» إلى الخارج، أو تطلّعات إلى ما وراء الحدود، في حين أن الولاء للبنان مشكوك فيه أحيانًا كثيرة».

و»لبنان القويّ» يديره «حكم قويّ…» «سيكون الحكم قويًّا، وسيرتكز على قواعد دستوريّة وبرلمانيّة. سيكون هناك حكم برأس واحد لا برأسَين…»

«والجيش اللبنانيّ بإمرة رئيس الجمهوريّة، لا بإمرة وزير الداخليّة. الجيش اللبنانيّ بإمرة رئيس. وأنا هو الرئيس. وهو بإمرة قائد الجيش، وقائد الجيش بإمرتي. وهو بإمرة كلّ وزارة الدفاع التي أنا مسؤول عنها».

والتعريف الأقوى والأوضح للحكم القويّ الذي عناه الرئيس بشير الجميّل يكمن في القول الآتي: «هناك دستور لبنانيّ. وسأطبّقه نصًّا وروحًا. وجميع العادات البشعة التي اعتُمدت منذ العام 1943 حتى اليوم لتمييع الدستور، أو لمغالطة نصوصه، أو للتلاعب بها، أو لتفريغ بعض موادّه من أهمّيتها ومدلولها وعمقها وأبعادها، سأضع حدًّا لها. سوف أرجع إلى الدستور لأطبّقه كما وضعه ميشال شيحا.»

وهكذا يرى بشير الجميّل، رئيسُ الجمهوريّة، أن يكون هو المسؤول الأوّل والأساسيّ في حكم الدولة، علمًا بأنّه مقتنع في عمق وجدانه بحقيقة التعدّديّة في المجتمع اللبنانيّ. وقد أعلن ذلك صراحة وعلى نحو مستمرّ.

كلام بشير يعني له أن لا تعارضَ بِنيويًّا بين التعدّديّة المجتمعيّة والنظام المركزيّ الصارم. وهو، من جهة أخرى، مقتنع بأنّه قادر على إقامة «الحكم القويّ» معتمدًا على إخلاصه وصدقه في توطيد الإستقرار والإلفة بين اللبنانيّين وقدرته على النجاح في مهمّته. ألم يردّد غير مرّة «أنا معتاد على تحقيق كلّ أحلامي»؟

سنوات سبع مع بشير- الثلاث الأخيرة منها مكثّفة – تخلّلها عسر ويسر. صعود وهبوط. إنسجام وتباين. تلاقٍ وانقطاع. هدوء ودماثة في الحوار. وصخب وخشونة في التحاجج… وفي كلّ الأحوال، سعيتُ دومًا لأن أكون أنا أنا. فوُفّقتُ، ولو إلى حدّ مقبول.

أمّا»الثقة» فكانت سائدة بيننا ومتبادَلة.

فقد تأكّد لبشير، بالتجربة المحسوسة، إخلاصي للقضيّة ولأصحابها، وبُعدي البعيد من أيّ تطلّع أنانيّ.

واقتنعتُ ببشير بارتضاء عقلانيّ، على الرغم من أخطائه وطموحه اللامحدود المتعِب، وظروف الحروب التي عشنا فيها. فقد كان رجلَ المرحلة الفريد، عابدًا لحرّيّة شعبه وكرامته؛ رجلَ القرار الحرّ والصعب؛ غيرَ المرتهن لأيّ كبير مهما علا شأنه وسلطانه وقساوة سطوته، محطّمَ الحواجز مهما ارتفعت وتضخّمت؛ الواعي أنّه «قد» يقدّم ذاته ضحيّة لـ»قضيّة» مجتمعه. ومع ذلك، لم يتراجع. ولطالما وقف على قبر شهيد، حتى غدا هو «الشهيد»، و«الأسطورة»، بكلّ إستحقاق.

هامش:

– كريم بقرادوني، السلام المفقود، بيروت عبر الشرق للمنشورات، بلا تاريخ، ص 178.

– يروي السيّد صادق الموسوي، وهو إيرانيّ الجنسيّة، أنّه جاء لبنان ليعمل على إقامة «جمهوريّة إسلاميّة» فيه. وسرد تفاصيل أنشطته الكثيفة على هذا الصعيد، منطلقًا من فتوى أصدرها الخميني ومفادها أنّ «النظام اللبنانيّ غير شرعيّ ومجرم». (من ذكريات قائد الحركة الإسلاميّة في لبنان، السيد صادق الموسوي، مجلّة «الشراع»، العدد 1421، تاريخ 21/12/2009، ص21). وسبق له أن اعتبر «الموارنة اليوم» «أقلّيّة كافرة» (مجلّة «الشراع»، العدد 128، تاريخ27/8/1984).

– المصدر نفسه، ص141.

– لهذه اللفظة معنايان. الأوّل، يدلّ على معمل، في الجبال اللبنانيّة، كانت تُحَلُّ فيه شرانق الحرير. والثاني، يشير إلى معنًى تحقيريّ وهو بيت بِغاء، أو ماخور.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

خبر عاجل