عصا رهبان قزحيا ورأس السلطنة (2)

حجم الخط

 

كتب ميشال يونس  في “المسيرة” – العدد 1745

إمَّا الحياة وإمَّا الممات ليسَ إلاَّ!

عصيان وتمرُّد رهبان محارس قزحيا على سلطةٍ طارئة دخلتها تجربة التاج وعصا الرئاسةِ مدعومةً من قاصدٍ رسوليٍّ أوروبيٍّ لا يفقه سطرًا واحدًا من حكاية رهبانٍ إمتلكوا أراضي تنازلَت لهم عنها وحوش البريَّةِ، لا يسكنها إلاَّ ناذرو أياديهم لمخالبِ العوسجِ والصَّخرِ المُفتَّتِ ترابًا وغرسًا وزرعًا، فلم يكن في حسبانِ أبي الرهبان أنَّ أبناءه القزحياويين سيتواجهون مع رؤساء من لحمهم ودمهم وسبطهم الرهبانيّ!

مذكَّراتُ بحثٍّ وتحرٍّ وتوقيف واعتقال صدرت تطالبُ بإلقاء القبضِ على خمسةٍ  وثلاثين من رهبان قزحيا تمَّ اعتبارهم الأكثر استشراسًا في رفض الأمر المفروض فرضًا. هذه المُذكَّرات “الجرمية” الهجينةِ أوكِلتَ أوامرُ تنفيذها لعساكر الإنكشاريةِ العثمانيّة، فتم تعميم أسماء الرهبان المطلوبين الرافضين أمر طاعةٍ ليست من الرب، جاهرت برفض تيجان حُكمِ بني عثمان.

نُشرت أسماءُ العُصاةِ يومها كما يلي:

– الرهبان الكهنة: جبرائيل موسى السبعلي. الياس أيطو. يوحنا أيطو. حزقيال أيطو. جرمانوس أيطو. حزقيال البشرواي. يعقوب الحصروني. بطرس الصغابيّ. أنطونيوس التولاوي!

– الرهبان الأخوة: الياس الصغابي. عبدالله الصغابي. عبدالله الباني. عمنايل أيطو. الياس أيطو. سمعان الحصروني. مبارك حوقا. مبارك البزعوني. عبد الأحد العربه. نافيطس السرعلي. نعمة الله الحدثي. رفايل الكفوري. مرتينوس العربه. مخايل طرابلسي. بطرس فراديسي. مخايل إهدن. جرجس العربه. برنردوس الباني. وصاف الباني. عمنايل بشراني. عبد الأحد بشراني. ماتيا بشراني. برتلماوس  الحصروني. إسحاق طرابلسي. إندراوس صغابي. حنانيا تولاوي!

المواجهة

غروب شمس 26 أيلول 1877 وقعت المنازلة المحتومة بين ارتفاع الصليب الرهباني اللبناني وبين المتصرف التركيِ رستم باشا داخل سرايا إهدن الكائنة في دارة مدير الناحية أسعد بك كرم. خمسةٌ وتسعون مِن رهبان قزحيا ذوي الهِمَم والشِّمم صعدوا من واديهم نسورَ حريَّةٍ وكرامةٍ وسيادة، متحصّنين بآيةِ تذكير الرب يسوع لهم: “سيُسلِّمُ الأب إبنه والأخ أخاه إلى الموت لأجل اسمي”.

وصل الميامين الأشداء وعيونهم تبرقُ برباطة جأش دانيال النبي المُلقى في جبِّ الأسود، فدخلوا على المتصرف فاستقبلهم بنظراتٍ ماكرة وهو يتغربل ويتكنفش كالطاووس مستهزئًا بهم وبتحصيلهم كرامة الرهبانية ولبنان، ثم خاطبهم متوعِّدًا مُحقِّرًا: “أنا طلبتُ إثني عشر راهبًا بالأسماء والباقين يرجعون وكورتهم”. فأجابه قيدومهم الأب جبرايل السبعلي: “إن كان من بيننا مذنبون فنحن جميعًا مذنبون ولا نرجع إلاَّ كلنا”.. فتهوَّس جناب دولتِه وضربه بالكرباج، وبلمحة بصر طحش الأب جبرايل الشديد البأس الهائل القوة ونتعَ رستم باشا ورفعه إلى ما فوق رأسه ثم خبطه في الأرض واضعًا مداسه على صدره الباشوي دائسًا على نياشينه وأوسمته، معاجلاً رأسه بضربة عصا فجَّت نافوخه وشجَّت هيبة السلطنة العثمانية. حينها هدرت أصوات الرهبان هدير مياه نبع الندامة فكسروا قناديل السرايا وفكَّوا زنانيرهم الجلدية وأشبعوا الباشا وعشراتٍ عشرات من أزلامه جلدًا ولطمًا ولبطًا، حتَّى علَّمت قبضات رهبان الأرز على عتبات الباب العالي ووصلت مفاعيلها إلى السلطان عبد الحميد الثاني. وحين تأهَّب مغاوير الأساكيم للعودة إلى معقلهم باغتتهم قوة مساندةٍ عديدها مئاتٌ من الإنكشارية تمكنت من اعتقال الرهبان الشيوخ كِبارِ الفخر والعمر فتم أسرهم في سجن السرايا!

الإجتياح
صبيحة 27 أيلول 1877 كانت أسوار قلعة قزحيا مشهدًا تطبيقيًا لأسوار القسطنطينية يوم اقتحمها أجدادُ همجية سلاطين الإجتياحات العمياء التدميرية. جحافل يتجاوز عديدها الألف من أحطِّ وأحقر الأخلاق وأكثرها خِسَّةً ودناءة، اجتاحوا وادي الطُّهرِ والزُّهدِ ومملكة النور والميرون والبخور وارتكبوا في أقداسه ما ارتكبته ذريتُهم في آيا صوفيّا.. وما جرى في ذلك النهار القزحياوي المبشوم بالمسامير وطعنِ الحِراب يلخِّصه كتابٌ رفعه رهبان جبة بشراي مُدبَّج التعابير بسخريةٍ تنطوي على مئات الجراح النفسية، وبمرِّ عتابِ رعيَّةٍ رهبانيَّة قزحياويةٍ تخلَّى عنها في ضيقها أعيان المارونية من دينهم إلى دنياهم. وهذا نصُّ الكتاب :”إنَّ الرهبان الأبريا موضوعين في سجن سرايا أسعد بيك كرم ومن هناكَ للمركز. صرنا فريسة وهزءًا لكل عابر طريق أضحى ولا راعي… يستطيع أن يطلب عدالةً لأجلنا. وعدد جمهورنا ستة وأربعين راهبًا في السجن وثلاثين فارّين والدير خالي من الذبيحة والقربان من ظرف ثلاثة أيام. الله يمدُّ بأيام رؤسا الطايفه الذين يحبون العدل والحق… فبناء عليه أردنا تقدمة إعراض لديكم لترسلوا عوام تتسلّم الأديرة….. أغزر الله خير سيادتكم يا رؤسا الطايفه المارونيه ولا يلزم أبلغ…”!

إشتعلت مجامر ثورة الجبل الماروني الشمالي واعتبر أهلوه أن تجاوز حَرَمِ مهابة وادي قزحيا واجتياحها هو تجاوزٌ لأعراض المارونيةِ ذاتِها واجتياحٌ لها، فتمَّ نسخ وتوزيع مناشير نارية اللهجة لاهبة التبليغ هذا فحواها: “إعلام إلى عموم موارنة لبنان، إن الأحوال التعيسة الحاصلين عليها رهبان دير قزحيا شرف موارنة لبنان تُعتبرُ حقًا وبذاتها تلزم موارنة لبنان مع إكليروسهم أن يخرجوا مذهبهم ويدخلوا في مذاهب الأمم الغريبة…”!

جلجلة دير قزحيا
كاهنٌ من آباء التدوين الوجدانيِّ والأرشفة المخترقةِ أعماق الضمائر الحبروية، دوَّن مؤرِّخًا :”دقَّت ساعة الصّفر. وانطلق موكب الذُّل، صباح الأول من تشرين الأول متوجِّهًا إلى بيت الدين: رهبان مُكبَّلون بالسلاسل يُساقون إلى الحبس كالمجرمين، وذنبهم الوحيد أنَّهم “خرجوا على شرعيَّةٍ شكليَّةٍ، بشريعة الإنجيل لا تعترف”. فما كانوا يمرّون بقريةٍ أو مدينةٍ إلاَّ وتسمع صراخ أهلها وبكائهم وعويلهم لما رأوا الإكليروس القانوني، عز الطائفة، رهبان دير مار أنطونيوس قزحيا مُقيَّدين بأيديهم ذاهبين بصحبة أولئك الجنود بحالةٍ ترتجفُ لها الأبدان…”!

الراهب المغوار الأب جبريل السبعلي الخبير بفنون المواجهة والمباغتة استطاع الإفلات مع مجموعةٍ من إخوتِه، فبادرهم إلى توزيعهم مجموعتين، مجموعةٌ تصمد في المنطقة متنكرةً بملابس الفلاحين والرعيان وأصحاب المشاحر مهمتهم إستطلاع آخر أخبار إخوتهم المأسورين، ومجموعةٌ مشى وإياها دروب المخاطر الشديدة ومفارق الكمائن وأدغال التخفّي، حتى وصلوا إلى دير سيدة ميفوق طارحين الصوت على إخوتهم رهبان مقاطعتَي بلاد جبيل والبترون، قارئين عليهم إنجيل يوم جلجلة دير قزحيا. إستهول الإخوةُ ما حلَّ بإخوتهم فقرعوا أجراس النفير الرهباني العام تنادي من قبب الأديار الجبيلية البترونية إلى التأهُّب الكامل للمواجهة الحاسمة، معاهدين الرب بأنَّ لا راحة ولا سكينة راهبٍ بينهم طالما له أخٌ أسيرٌ واقعٌ في براثن التنين العثماني.

تم عقد إجتماعٍ حربيٍّ داخل دير سيدة ميفوق عرض فيه الأب جبرايل السبعلي على أركان الأخوَّة الرهبانية الجبيلية البترونية الأمر، واستعرض وإياهم أنجح خطةٍ تمكِّنهم من فكِّ أسر إخوتِهم المُقتادين من نكبة دير قزحيا. وعند ختمِ الإجتماع الميفوقيّ صدر القرار البطولي التالي: “آراؤنا رأيٌ وحيد، والمواقفُ موقفُ إمّا الحياة أو الممات وليس إلاَّ. ثمٌ لا ندمٌ ولا مَن يأسف”!

من أديار قرطبا وطورزيا وعنايا وميفوق والقطارة وحوب وكفيفان وسيدة معونات جبيل، تعسكر رجال أنطونيوس الكبير لمواجهة أبالسة العثمليِّة الغاصبة، أساكيمهم دروعٌ وحصون وبيارق تُلوِّحُ لشفاعة شهداء رهبانيتهم، وانحدروا من أعاليهم كتيبةً حربيةً تشابه عساكر السماء، والتصميمُ نذرٌ فدائيٌ لا عودة عنه، والهدف واحدٌ لا ثاني له: أو تحرير إخوتهم القزحياويين أو الإستشهاد معهم حتى الموت!

تحت قيادة الأب جبرايل السبعلي والأب حزقيال البشراوي والأب جرمانوس العاقوري والأب جرجس الترتجاني، وصلت وحدات الصدم الرهباني إلى أرض المواجهة فتوزَّعت إلى فرقتين قتاليتين: فرقة أقامت كميناً مُحكَمًا داخل وادي حربا التاريخي الحصين، وفرقةٌ نفَّذت إنتشارها فوق هضبة قرية تحوم الإستراتيجية!

رهبان مربضَي وادي حربا ـ تحوم 
حسب الإشارة العلامة المُتَّفق عليها بين الأب جبرايل السبعلي وإخوتِه المُتخَفِّين في بلاد الجبّة، وصلت معلومةٌ تفيد عن قرب وصول الأسرى إلى جسر المدفون، فتأهَّب الجمعُ الرهباني لمعركة الحياة بكرامة أو الموت برؤسٍ مرفوعة!

لاحت القافلةُ المُساقةِ إلى زنازين ناذري الحريةِ السماوية واللبنانية، رهبان قلعة قزحيا مجدُ الأمَّة المارونية وأكاليلُ ظَفرها مُطوَّقون بمئاتِ حثالةِ أجلاف المتصرفية العثمانية، يُجرجَرون جياعًا عطاشًا ملطومين مُنهكين كمعلِّمهم المُطوَّق برعاع الرومان وأوباش شعب قيافا وبرأبّاس.. إزاء هذا المشهد الفجيعة وعلى إيقاع نشيد مزمور: “مبارك الربُّ صخرتي، الذي يُعلِّمُ يديَّ القتال وأصابعي الحرب”، وثب رهبان مربَضي وادي حربا ـ تحوم، كغضب الرب على الأشرار، وثبةً لا تكترثُ لعاقبةٍ ومعاقبَةٍ يستشعر كل قيدومٍ منهم أنَّ فيه قوةً من فوق تجابه مئة من سفّاحي الإنكشارية، فدارت معركةٌ أشبه بمعركة عساكر السماء مع عساكر الجحيم، ورهبان بلاد جبيل والبترون والناجون من رهبان قزحيا يُذيقون العسكر العثملي ما أذاقه رجال يوسف كرم لأقرانهم، وعشرات جُندِ الإحتلال يرتمون أرضًا بين من تحطَّمت رؤوسهم وبين من فُكَّت رقابهم، وبين من تكسَّرت أياديهم وأرجلهم. ولكنَّ أقدارَ السوء وللمرة الثانية فاجأت وباغتت رهبان المواجهة بقافلة نجدة تركية ضخمة وصلت من الساحل الشمالي أربكت خطة التحرير وحرمت الشجعان من إنقاذ جميع إخوتهم المأسورين، فبقيت قلةٌ منهم جلُّهم من كبار السن بين أيادي جلاديهم الذين أكملوا فيهم رحلة المهانة إلى سجن بيت الدين، وهناك استشهد بعضهم تحت وطأة التعذيب الجسدي والنفسي. وأما الأكثرية الناجية فقد صعد بهم إخوتهم الأبطال وساروا وإياهم في عواصي وادي حربا حيث تم توزيعهم وإخفاؤهم  داخل دهاليز أقبية الأديار والآبار الجافة والكهوف الحصينة!

الأب العام أفرام جعجع البشراوي مُلهِمُ روح المقاومة الرهبانية طُبِّقت بحقِّه نظرية “الآمر الناهي”، التي تمَّ بموجبها الحكمُ عليه بالطرد من رهبانيته ونفيه طوال خمسة عشرة سنة إلى جزيرة قبرص بين أعوام 1877 ـ 1893، فعاش منفاه القبرصيّ يعاند اليأس النفسي والإنكسار الروحي، مُكابرًا على الأحقاد بالغفران لمُضطهديه، إلى أن حلَّت بركات بشائر الروح القدس يوم انتخاب الأب مبارك سلامة المتيني أبًا ورئيسًا عامًا على الرهبانية اللبنانية المارونية، فانصرف المبارك الكلّي الأبوّة إلى تضميد الجراح الداخلية البليغة، وترميم الجسور الأخوية، ومداواة منكسري الخواطر والقلوب، ولملمة الشّتات، ومعالجة أسباب الشقاق، وأهمها: إحتضان صلبان ومصلوبي دير قزحيا، فأصدر قرارًا رئاسيًا أبويًا مُبرَمًا بإعادة الأب العام أفرام جعجع من منفاه ومعه الأب جبرايل موسى السبعلي وجميع إخوتِه المطرودين من بيت أبيهم أبي الرهبان!!

يا رهبنة قزحيا قزحيّانا
يا ديرٌ كامل الإستعداد والتأهُّب لدحر فيالق الأبالسة وتخليع مصاريع الجحيم. يا دير عزِّ وفخرِ رهبانٍ يرتفعون كإيمانٍ ينقل الجبال. يا ديرَ جمهورٍ رهبانيٍّ يُتقنُ الجهاد الأنطونيوسي وصل عديده في أزمنة إنعامات الدعوات إلى ما يزيد على المئتينِ والخمسين راهبًا نقلت أصواتهم الرهبانية نغم صلواتهم الآرامية في قومات لياليهم إلى القرى القريبة من ملكوت قزحيا والبعيدة، فكان أهلها طيلة فصول الصيف يستيقظون عند أنصاف الليالي ليخشعوا في حضرة الكاروبيم القزحياوي الواصل صداه إلى بيوتهم التقية الوديعة، فأطلقت عامة شعبنا على كل راهب لبناني ماروني التسمية العامية الشهيرة: “هالراهب من رهبنة قزحيا”!!

وأنتِ يا رهبانيتنا اللبنانية المارونية الغالية كأرزة لبنان على قلوبنا، المتألِّقةِ كنجمة الصبح في عيوننا، القائمةِ كالذخيرة في ضمائرنا، إنَّك منذ سنةِ تأسيسك الأولى وأنتِ ترزحين وتترنحين تحت أوزان ووزنات صلبانٍ زمنًا تأتيكِ من خارجكِ وزمنًا آخر من داخلكِ، لكنَّكِ ما توانيتِ يومًا عن النهوض والصمود أمام كثرة التجارب، تنهضين وتُضاعفين مواسم إنبات الأبرار والشهداء والقديسي،  وشربلُك باسمكِ واسم لبنان تجتاحُ آياتُه أربعة أقطار المسكونة، وأهم أعاجيبكِ يوم اجترحتِ معجزةَ وآيةِ تحويل أراضيكِ وأرزاقِك وأواني كنائس أديارك إلى خبزٍ أنقذَ نصف شعبكِ من عقوبة الإعدام جوعًا!!

من دير مار أنطونيوس قزحيا ودير سيدة ميفوق ودير مار شليطا القطارة إلى دير القمر، من منافي قبرص إلى منافي اليرزة، مواعيد الرب ثوابت ومواقيتُه لا تتحكم فيها الصُّدَفُ. إنها بلاد جبة بشراي وقاديشا تتناسل فيها روح المقاومة الرهبانية بفرعيها الأسوَد الناذر الطاعة والعفة والفقر، والزيتي الناذر الصمود والبطولة والشهادة ومن ذات الأجباب العائلية لمجد الرب وأرز الرب!!!

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل