في الوَقت الفاصِل بين مُذكّرَة التوقيف الدولية و “زَفَّة الوَداع” وبين بيان “التَّهديد بالاستقالة” ومؤتمر الاعلان عن تَسَلُّم ما تبقّى من الأمانة، تَحوَّلَ مَصرِف لبنان إلى ساحة تناقضات كبرى وبات مثالاً مصغَّراً عن لبنان الذي تَحكُمُهُ السياسة بمناقضاتها وأهوائها وحِساباتها وأدواتها. مرَّ مُنتصف الليل ولم يُحَرّك سعر الصَّرف ساكناً. رَحَلَ رياض سَلامة وبَقي الاستقرار الذي أرساه عبر “صيرفة” التي أسكت بها المضاربين وطمأن السياسيين. لم يبقَ الاستقرار لأن التدفقات النقديَّة بالدولار انسالت وغَمَرَت لبنان ولا لأن لبنان تحوَّل بلداً نفطياً، بل لأن من أعطى الحاكم منصوري الضوء الأخضر ليتسلَّم مَهَامَهُ هو من تكفَّل بِمَنعِ فَشَلِهِ.
تَرَبَّع الحاكم الجديد على رأس السُّلطة النقديَّة مستفيداً من سعر صرف مُستقرّ منذ عدة شهور ومن سوق موازية مُجَفَّفَة من الليرة ومن خزائن ملأى بالعملة الوطنية ومن نظام سَحب وضَخ يتحكَّم به مصرف لبنان مباشرةً. إتَّبَع منصوري سياسةً “تقليصيَّة” فَجَمَّدَ كل شيء دون أن يُغير شيئاً. بدأ بتحجيم “صيرفة” وبتقَلَّيصَ دورها مانعاً التمويل عن الدولة ورامياً الكرة في ملعب من لا يريدون الحلول والإصلاحات ومن لم ينتخبوا رئيساً يُبعدُ عنه كأس الحاكميَّة في خطوةٍ ستزيد الأمر تعقيداً بالنظر إلى ما يعيشه لبنان واللبنانيين على الصُّعُد كلّها. نقدياً، ما قام به حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في بداية فترة حاكميَّته امتداد لنهج سلفه رياض سلامة مع بعض التعديلات التي طالت الشكل أكثر من المضمون. فَبَعد الترنُّح على عَتَبَةِ تسلُّم المَهام، أعطت السياسة الحاكم الجديد الضوء الأخضر بالتزامن مع “كلمة سرّ” سياسية جمَّدَت بموجَبِها المُضاربة والمُضاربين. في الوقت الذي أصبحت فيه منصَّة “صيرفة” مُجمَّدة، بَقِيَ مصرف لبنان متدخلاً على سوق القطع شارياً للدولار بدماثةٍ وهدوء أبعداه عن المضاربة التي تميَّزَت بها أشهر سلامة الأخيرة في الحاكميَّة. عند استحقاق الرواتب الأخير، أعاد منصوري تشغيل محركات “صيرفة” جزئياً دون أن يَذكُرَ اسمها في مؤتمره الصُحُفي الاخير، حاصراً نشاطها بالقطاع العام أجوراً ومستلزمات. لم ينقض منصوري إذاً ما كان رياض سلامة يقوم به لا بل إنه لم يتمايز عنه حتَّى هذه اللحظة لناحية التدخل على سوق القطع.
إعتَمَدَ منصوري شعار الشفافية واستعمله سبباً للتلويح بالاستقالة ثم مُرتَكَزاً لتعليق العمل بمنصَّة “صيرفة” وإعلانه إنشاء مِنَصَّة جديدة قد يكون تحرير سعر الصرف هَدَفَها غير المُعلن. لن تتمكن منصَّة “بلومبرغ” العتيدة من ضبط العمليات في بلد تغيب عنه العدالة وتعيش فيه المصارف على العمولات ويسيطر عليه الاقتصاد النقدي ويَستحيل فيه تَتَبُّع مصادر الأموال ووجهاتها. في هذا الإطار نسأل، من أين ستأتي المنصة الجديدة بالدولارات لتبيعها للجمهور؟ مَن سيلتزم بالسعر الذي ستحدده المنصة والذي نتوقعه مرتفعاَ في غياب العرض؟ من سيمنع المضاربة على المنصة نفسِها وعلى السوق الموازية بسبب القيود المُحكمة التي تفرضها؟ وأخيراً نسأل، ماذا سيكون مصير سعر الصرف ومن يُعيد الاستقرار إذا كان مصرف لبنان يُعلن صراحةً عدم نيته بالتدخل على سوق القطع مجدداً؟ إن أي كلام عن تحرير سعر الصرف في زمن السياسات الماليَّة والنقديَّة الغائبة هو انتحار مالي ونقدي وليس تدبيراً إصلاحياً!
من الناحية النقديَّة، إذا كان لبنان لا يزال يَعيش الأزمة نَفسَها، وإذا كان رياض نفسه لم يُطَبّق سياسات نقديَّة بسبب تثبيت سعر الصَّرف وتغييب السياسات الماليَّة وانهيار المصارف وتحلُّل “مُضاعف الائتمان”، فكيف يكون لمنصوري سياسات نقديَّة أو حتَّى سياسات نقديَّة مختلفة؟ ليست السياسات النقديَّة وَليدة الظروف والأحداث والمواقف، بل ترتكز إلى النظريات الاقتصاديَّة التي قَلَّما يَعتمِدُها مَن يَحكمون لُبنان. نظرياً، يَرسم المصرف المركزي السياسة النقديَّة مرتكزاً إلى قدرته على إعادة تمويل المصارف، على ضخ السيولة عبر شراء سندات الخزينة وعلى تغيير معدل الاحتياطي الإلزامي. إذا كان مَصرِف لبنان غير قادر على استعمال أي من هذه الخيارات، فقراره عدم تمويل الدولة ليس عملاً بطولياً بل نتيجةٌ طبيعية لعدم توفُّر الامكانات. في سياق مُتَّصِل، نُشدد على أنَّ الطَّبع لا يُشَكّل أحد أدوات السياسات النقديَّة وأن قرار عدم إقراض الدولة دون تأمين البدائل يؤدي الى تسارع السقوط. صحيح أن المَصرِف المركزي ليس المسؤول عن سياسات الدولة الماليَّة ولا تقع عليه لوحده مسؤولية إيجاد الحلول، إلا أن تَوَرُّط مصرف لبنان في فصول الانهيار مَنَعَ عنه الأسباب التخفيفيَّة وَوَضَعَهُ مع حكامه ومجلسه المركزي في الواجهة وعن حقّ!
في المُحَصّلة، لم يَبتدع الحاكم منصوري أي جديد بل استفاد من الغطاء السياسي وتَسَلم مهامه بسلاسة ثم قَلَّصَ حجم التمويل والضخ بالتزامن مع ابقائه على شراء الدولار من السوق. استفاد من عَرض الدولار على السوق بسبب الموسم السياحي المُزدهر ومن الدولرة النقديَّة، ليؤمن رواتب القطاع العام حاجباً التمويل عن الكثير من القطاعات. في غياب التدفقات النقديَّة ومع قرب انتهاء الموسم السياحي ومعاودة الشركات نشاطها وفتح المدارس ودور النشر أبوابها، قد يصبح شراء الدولار من السوق الموازية، حتى لتأمين الرواتب، مهمةً صعبة أو مُسَبباً لارتفاع سعر الصرف إن لم تتحرك السياسة باتجاه الحلّ. أما الكلام عن التوقّف عن إقراض الدولة بالليرة والدولار وربط تأمين الأموال بضبط الحدود وتحسين الجباية فيُنذر، على الرغم من كونه أمراً واقعاً، بتفاقم مُحتمل للأزمة. يشكل عدم ضبط الحدود واحترام القوانين وتَكريس نموذج المزرعة أبرز أسباب الانهيار التي باتت عصيَّة على الحلّ. في هذا الإطار نسأل، لو أُقِرَّت الإصلاحات، وضبطت الحدود، وتحسنت الجباية، هل كنا لا نزال قابعين في القعر؟ ولو تحقق كل ذلك، ألم يكن رياض سلامة اليوم بطلاً وطنياً؟ يبقى السؤال الأهم لماذا سَتُعطي السياسة لمنصوري ما حجبته عن شريكها سلامة؟
عرض مَصِرف لُبنان على مجلس النواب مساعدته في إقرار القوانين قبل أن يُكَرّر رئيس الحكومة العرض على إثر الإقرار “البطولي” لموازنة ٢٠٢٤، فأين كان نواب الأمة من التشريع يوم كان العقد تشريعياً؟ نستطرد، أليس مجلس النوّاب اليوم هيئة انتخابيَّة متفرّغة لانتخاب رئيس للبلاد تبدأ معه رحلة النهوض بلبنان مع حكومة جديدة وحاكم جديد وخطَّة شاملة؟
مَصرِف لبنان عيّنة عن لبنان المُحتضَر ودليل دامغ يؤكد بالممارسة أن الكلمة الفصل في بلدنا هي للسياسة وأن الساحة اللبنانية الرسمية السياسيَّة والنَّقديَّة خالية من البطولات ومن الابطال وأن الحَلّ لا بُدَّ أن يكون سياسياً وعلى نطاق وطني جامع.
التطبيع مع السيادة المُنتقصة ومع تحلُّل مؤسسات الدَّولة ومع الاقتصاد النَّقدي ومع عدم ضبط الحدود ومع فائض القوة ومع عدم المساواة أمام القانون ومع غياب العدالة لن يُنتج بلداً بل بطولات واهية وأبطالاً وهميين ينتشرون على أرض تحوَّلَت الى “أنقاضَ وَطَن”…
الباحثة في الشؤون الاقتصاديَّة نيكول بَلّوز بايكر ـ مصلحة الأساتذة الجامعيين في حزب القوات اللبنانية