اللامركزية الإدارية: مشاريع حلول لأزمات لبنان المزمنة؟ (2)

حجم الخط

كتبت جهاز التنشئة السياسية في “المسيرة” – العدد 1745

لطالما تعرّض مشروع اللامركزية الإدارية في لبنان إلى الكثير من الأخذ والرد ذي الطابع السياسي، كما أخذ مجالاً واسعاً في الأبحاث الأكاديمية التي درست هذا الموضوع، فأظهرت إيجابياته وسلبياته. لم يأخذ المشروع بعداً شعبياً، ولا تحوّل إلى أولوية مطلبية لدى اللبنانيين، على الرغم من أهميته وإمكانية تشكيله حلاً للكثير من الأزمات اللبنانية المزمنة.

على الرغم من أن فكرة اللامركزية الإدارية قديمة العهد، وهي أسلوب من التنظيم الإداري المعني بتعزيز الديمقراطية والمساءلة الشعبية والتنمية المحلية، يعود تاريخ طرح المشروع في لبنان إلى بضعة عقود فقط، من دون أن يعني ذلك أنه تم إقراره بشكل رسمي حتى اليوم.

أما الفدرالية، وعلى عكس مشروع اللامركزية الإدارية، فأخذت بعداً أكثر شعبية، من دون أن يعني ذلك عدم لعب البعد السياسي دوراً في الترويج للمشروع أو رفضه، النضال في سبيله أو تشويه صورته. إن الفدرالية مشروع لنظام سياسي جديد يقوم مكان النظام الحالي، وهي مشروع، إن طُبّق يوماً، سيغيّر النظام السياسي اللبناني بشكل جذري، والحياة السياسية فيه بشكل كامل.

لا يلتقي المشروعان في مضمونهما بشكل متطابق، ولا يختلفان بشكل حاسم. وذلك على اعتبار أن الأول: اللامركزية الإدارية، تنظيم لشأن إداري له تأثيرات سياسية، فيما الثاني: الفدرالية، مشروع نظام سياسي له أبعاد إدارية.

ينص اتفاق الطائف على ضرورة تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان، إلا أن السلطات السياسية تأخرت 22 سنة حتى تحركت للعمل على تطبيق ما أقرّه الطائف. عام 2012، تم تشكيل لجنة لإعداد مشروع قانون لإقرار وتطبيق اللامركزية الإدارية، ثم حوّلته اللجنة، بعد الدراسة والصياغة، إلى المجلس النيابي لإقراره. وهناك أصبح مشروع القانون قيد المناقشة، ثم حُوِّل إلى لجنة فرعية ضمن لجنة الإدارة والعدل النيابية برئاسة النائب جورج عدوان، والتي عملت على تعديل بعض المواد فيه، والتحضير لطرحه على التصويت في البرلمان عام 2019، ولكن من دون أن يتم ذلك لأسباب كثيرة نعددها لاحقاً.

وعليه، بات مشروع قوننة اللامركزية الإدارية حبراً على ورق، ومشروع قانون نائمًا في أدراج المجلس النيابي بانتظار إقراره في المستقبل. إلا أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية المشروع بأي حال من الأحوال، وذلك لأنه تبعاً لما يتضمنه من تعديلات سيُدخلها على التنظيم الإداري، كما الانتخابي والتمثيل الشعبي، سيكون بمثابة وثبة في مجال الحياة السياسية اللبنانية.

أما مشروع الفدرالية، فيبدو أبعد منالاً من التحقق بالمقارنة مع اللامركزية الإدارية، إذ لا تزال فكرة الفدرالية مشوّهة عند قسم لا بأس به من اللبنانيين، وتتم غالباً شيطنة المشروع، فيما بعض القوى ترفضه بشكل مطلق، وغيرها لا يراه أولوية في ظل الأزمات الكثيرة العاصفة في لبنان.

على العموم، يبقى أن المشروعين مهمان من حيث مضمونهما، ويمكن أن يقدما بعض الحلول الحقيقية للأزمات المزمنة في لبنان. لا يعني ذلك أن تطبيق أي منهما سيُنتج إيجابية تلقائية وفورية على الساحة اللبنانية، كما لا يعني ذلك، حتماً، أن ما يلي يسعى إلى الترويج أو الذم في أي منهما، إنما التفريق بين المشروعين، خلفية طرحهما، أسبابهما الموجبة، من يؤيدهما، مسار إقرارهما، وإيجابياتهما وسلبياتهما.

 

مسار مشروع قانون اللامركزية الإدارية

على الرغم من طرح موضوع اللامركزية الإدارية بشكل دائم منذ عقود طويلة، كما وروده في اتفاق الطائف، إلا أن أي محاولة جدية لتحقيقه لم تأخذ مكاناً لها إلا منذ العام 2012. تأخرت القوى الحاكمة في لبنان، كما مجالس النواب والحكومات المتعاقبة في طرح هذا القانون وإقراره، وبالتالي جعل اللامركزية الإدارية نظامًا تقوم عليه العملية الديمقراطية اللبنانية.

لقد مر مشروع القانون بسلسلة طويلة من الهيئات واللجان، ليأخذ الشكل الذي بات عليه اليوم، وهو مسار طويل عملت تقريبًا كل الأحزاب عليه، وشاركت في صياغته وتنقيحه ودراسته. فما هو المسار الذي مرّ به مشروع قانون اللامركزية الإدارية؟ وما هي مبادئه الأساسية؟ وما هو مضمونه؟

قبل تحضير مشروع قانون اللامركزية الإدارية الحالي، جرى تداول عدة مشاريع واقتراحات قوانين في تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الحالية، إلا أن أيًا منها لم يسلك دربه إلى الإقرار (13).

في عهد الرئيس ميشال سليمان، أصدر رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي عام 2012 قرارًا (رقم 2012/166) شكّل بموجبه لجنة لإعداد مشروع قانون لتطبيق اللامركزية الإدارية برئاسة وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود. عقدت اللجنة 47 جلسة عمل في القصر الجمهوري في بعبدا أنجزت خلالها مشروع قانون اللامركزية الإدارية، إضافة إلى التقرير الذي يفسّر مشروع القانون والأسباب الموجبة ويشرح الخيارات التي اعتمدتها اللجنة. هذا واستعانت اللجنة بخبراء في مسائل مختلفة عندما دعت الحاجة (14)، ثم أرسلت مشروع القانون إلى البرلمان اللبناني لإقراره.

مع تحويل مشروع القانون إلى البرلمان، أُنشئت لجنة فرعية مكلّفة مناقشة قانون اللامركزية الإدارية برئاسة النائب جورج عدوان، وضمت ممثلين عن معظم الأحزاب والكتل النيابية. كان من المفترض إقرار القانون نهاية العام 2019، إلا أن الشلل والأزمات المستعصية التي أصابت لبنان نهاية ذاك العام قد أخّرت في إقراره.

شهد لبنان منذ نهاية العام 2019 وحتى اليوم أزمة سياسية واقتصادية وصحية جد حادة. وهي أزمة لا تطال الحكومة أو إحدى مؤسساتها فقط، إنما تطال النظام السياسي اللبناني ككل، وتهدد بضموره أو تغييره أو ربما انهياره.

إن الأزمة اللبنانية الحالية، وخاصة بُعدها الاقتصادي المستفحل، وحتى جوانبها السياسية المعقدة، قد ألقت بظلالها على مشروع قانون اللامركزية الإدارية، تمامًا مثلما فعلت مع مشاريع أخرى، فغيّرت من أولويات السلطة تمامًا مثلما غيّرت من أولويات الناس. فتراجع، بالتالي، وهج مشروع اللامركزية الإدارية على حساب أمور أخرى باتت أكثر أهمية بنظر أغلبية اللبنانيين وقواهم السياسية.

 

مبادئ مشروع قانون اللامركزية الإدارية

إن المبادئ الأساسية التي انطلق منها مشروع قانون اللامركزية الإدارية كثيرة، تمامًا مثلما هي المبادئ التي أُدخلت في صلبه. فبشكل عام، يتضمن مشروع القانون اعتماد الدولة اللبنانية نظامًا لامركزيًا موسّعًا على مستوى مجالس محلية منتخبة تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الإداري والمالي، فيكون المشروع قد اعتمد، بالتالي، القضاء وحدة لامركزية. ألغى المشروع القائمقاميات ووظيفة القائمقام ونقل صلاحياته إلى مجلس القضاء المنتخب. هذا وقد أبقى على وظيفة المحافظ كصلة وصل بين المناطق والمركز (عبر اللاحصرية)، ووضع عددًا من صلاحيات المحافظ التنفيذية في يد مجلس القضاء المنتخب.

كذلك الأمر، أبقى المشروع على البلديات كوحدات لامركزية أساسية ولم يمس بصلاحياتها أو بأموالها. إلا أنه استبدل الصندوق البلدي المستقلّ بصندوق لامركزي خاضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة، من دون أي رقابة مسبقة. كما نص على إنشاء هيئة مستقلّة خاصة للإشراف على انتخابات مجالس الأقضية ومجلس مدينة بيروت. هذا وتضمّن المشروع مادة جوهرية، تضمن تمرير اللاحصرية بموازاة اعتماده اللامركزية، كي لا يؤدي العمل على اعتماد اللامركزية الإدارية الى إهمال العمل على تطوير السلطة المركزية وتفعيل أجهزة الرقابة، معتمدًا على المبدأ التالي: لامركزية قوية بحاجة الى سلطة مركزية قوية وفاعلة (15).

إن المبادئ الأساسية للمشروع تنطلق من ما نص عليه اتفاق الطائف. وإذا كان المشروع قد أعطى أوسع الصلاحيات للمناطق، إلا أنه أبقاها ضمن الدولة الموحّدة بعيدًا من أي منحى تقسيمي. هذا واعتمدت الأقضية كمساحة لامركزية، نظرًا الى شرعيتها التاريخية بشكل أساسي. كما أن المشروع استحدث صندوقاً لامركزيًا يحل مكان الصندوق البلدي المستقلّ ويكون أعضاء مجلسه منتخبين، ويعمل وفقاً لقواعد منهجية تراعي ضرورة الإنماء المتوازن وتحفيز النمو المحلّي، إضافة إلى تفاصيل أخرى منها، على سبيل المثال، تنظيم الشراكة بين القطاع العام والخاص وتحفيزها لتنفيذ مشاريع مختلفة، وإنشاء هيئة مستقلّة للانتخابات المحلّية وسواها من الإصلاحات وآليات التطوير والأفكار الجديدة (16).

 

مضمون مشروع قانون اللامركزية الإدارية

بناءً على مشروع قانون اللامركزية الإدارية، ودراسة مجمل المواد الـ147 والملاحق المرتبطة به، فإن أبرز ما جاء في مشروع قانون اللامركزية الإدارية (17) هو التالي:

تم اعتماد القضاء وحدة لامركزية على أن يمثل كلَّ قضاءٍ مجلسٌ يُنتخب مباشرة من الشعب. أما بالنسبة لمحافظة عكار المستحدثة العام 2003، فقد اقترح المشروع تقسيمها إلى ثلاثة أقضية (حلبا ببنين، القبيات) ومحافظة بعلبك الهرمل إلى خمسة أقضية (بعلبك، شمسطار، اللبوة، الهرمل، دير الأحمر).

إن مجالس الأقضية مؤلّفة من هيئة عامة ومجلس إدارة. في ما يتعلّق بالهيئة العامة يُنتخب أعضاؤها بالاقتراع المباشر وفق النظام الأكثري في كل من المدن والقرى ضمن القضاء الواحد. إن كل مدينة أو قرية يكون عدد أهاليها المسجّلين فيها من شخص واحد إلى 5000 شخص، تتمثّل في الهيئة العامة بعضو واحد. أما المدينة أو القرية التي يكون عدد أهاليها المسجّلين بين 5000 و10,000 شخص، فتتمثّل بعضوين، ومن 10,000 إلى 20,000 شخص بثلاثة أعضاء، وهكذا دواليك.

انسجاماً مع مبدأ المساواة، خصّ المشروع السكان الذين يقطنون في المدينة أو البلدة (وهم من خارج القضاء) لمدة ست سنوات من دون انقطاع مسددين الرسوم والضرائب البلدية المتوجّبة، أن يمارسوا حق الاقتراع لممثلين عنهم من السكان الذين يترشحون على مستوى القضاء.

يحق لكل مواطن أتمّ الـ21 من عمره أن يترشح لعضوية مجلس القضاء، وقد نصّ المشروع على أن شرط الشهادة الجامعية أساسي للترشح إلى عضوية مجالس الإدارة في مجالس الأقضية. يفوز بالانتخاب لعضوية الهيئة العامة في كل دائرة المرشح الذي ينال العدد الأكبر من أصوات المقترعين، وإذا تساوت الأصوات يفوز الأصغر سناً وليس الأكبر. هذا واعتمد المشروع الكوتا الجندرية داخل الهيئة العامة، وذلك تعزيزاً لدور المرأة ومشاركتها.

أما مجلس إدارة القضاء المنبثق عن الهيئة العامة، فيتألف من 12 عضوًا يُنتخبون من الهيئة العامة على أساس النظام النسبي واللائحة المقفلة (المكتملة وغير المكتملة) ولها صلاحيات تنفيذية، أبرزها:

ـ وضع خطة استراتيجية لتنمية القضاء وعرضها على الهيئة العامة للموافقة عليها.

ـ تخطيط الأشغال وتنفيذها وتطوير البنى التحتية بما فيها السدود والبحيرات ومجاري الأنهر وإنتاج الطاقة.

ـ حماية البيئة والثروة الحرجية بالتنسيق مع البلديات المعنية، ووضع خطة للتنمية السياحية.

ـ وضع خطط للتنمية الثقافية وحماية التراث والإرث الثقافي والآثار.

ـ المساهمة في تطوير تكنولوجيا المعلومات على مستوى القضاء وحق الوصول إلى المعلومات.

ـ تخطيط الطرق الواقعة ضمن نطاق القضاء وإنشاء الحدائق والساحات العامة والملاعب والمجمّعات الثقافية، إلخ.

ـ إنشاء الأجهزة المختصة لتمكين مجلس القضاء من ممارسة المهمّات الموكلة إليه (على سبيل المثال، جهاز السلامة المرورية وجهاز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، إلخ).

بما أنه قد جرى نقل صلاحيات ومهمات واسعة من السلطة المركزية إلى مجالس الأقضية، يستتبع هذا الأمر تأمين الموارد المالية اللازمة. أقرّ المشروع رفع نسبة إنفاق الإدارات المحلية من إجمالي إنفاق الحكومة المركزية. يتم تأمين 40 في المئة من هذا المبلغ من خلال الصندوق اللامركزي، حيث تقوم وزارة المالية بتحويل الأموال العائدة للصندوق التي تستوفيها (18) لصالح الأقضية والبلديات، وذلك فصلياً.

من منطلق أنه لا يمكن منح صلاحيات من دون فرض رقابة، نصّ المشروع على الرقابة الشعبية المباشرة من خلال انتخاب الهيئة العامة والرقابة الداخلية التي تتمثّل بحق الهيئة العامة في طرح الثقة بمجلس الإدارة كاملاً أو أحد أعضائها. بالإضافة إلى ذلك، تضمن المشروع رقابة للسلطة المركزية وقدرتها على حلّ مجالس إدارة الأقضية في حال مخالفته أحكام الدستور، على أن يُعلّل مرسوم الحلّ الذي يُتخذ في مجلس الوزراء ويبقى قابلاً للطعن أمام مجلس شورى الدولة.

أما مدينة بيروت، فلها وضع خاص في المشروع، إذ إنه تضمن حلاً لمجلس بلدية بيروت، وذلك على عكس بقية المدن والقرى التي تحتفظ البلديات بوجودها وصلاحياتها. يدير شؤون مدينة بيروت مجلس يُسمّى مجلس مدينة بيروت، ويتألف من هيئة عامة ومن مجلس إدارة مع مراعاة التنوّع الطائفي القائم في المدينة. ولهذه الغاية، يلحظ مشروع القانون انتخاب عدد محدد من الممثلين على مستوى كل حيّ من أحياء بيروت التاريخية الإثني عشر (19). وفور انتخابه، يحلّ مجلس مدينة بيروت مكان مجلس بلدية بيروت. تنتخب كل دائرة خمسة ممثلين عنها في الهيئة العامة، كما ينتخب السكان في كل دائرة ممثلاً واحدًا عنها ليكون عضوًا في مجلس مدينة بيروت. أما المحافظ، فيحتفظ، بصفته ممثلاً للسلطة المركزية، بحق حضور اجتماعات مجلس الإدارة (من دون التصويت) والاطلاع على أعماله وطلب إعادة النظر بقراراته بكتاب معلّل، وبحق طرح المواضيع على جدول أعمال مجلس الإدارة للمناقشة.

يُنشأ جهاز شرطة على مستوى القضاء يرتبط برئيس المجلس. وتُعتبر شرطة القضاء قوة مسلّحة من عداد الضابطة العدلية، وتتولّى: حفظ الأمن والتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية. تنظيم السير بالتنسيق مع مفارز السير في قوى الأمن الداخلي والشرطة البلدية المختصة. وضع تقارير بالمخالفات وتنظيم محاضر الضبط. إجراء التحقيقات الأولية في الجرائم المشهودة، والجرائم التي تمسّ السلامة العامة، وممارسة مهام الشرطة المجتمعية. طلب مؤازرة القوى الأمنية حيث تدعو الحاجة. إنشاء غرفة عمليات مشتركة في مجلس القضاء تضم مختلف أجهزة الشرطة البلدية وتديرها شرطة القضاء وتؤمّن التنسيق العملاني والميداني. وإنشاء معهد مركزي يتولّى إعداد وتدريب العاملين والشرطة بمجالس الأقضية.

 

التحديات أمام إقرار قانون اللامركزية الإدارية

منذ توقيع “وثيقة الوفاق الوطني” عام 1989 دخل مفهوم اللامركزية حيّز “الإجماع” في لبنان، بعدما كان يصدر سابقاً عن حيّز “فئوي”، في حقبات متعددة من تاريخ الجمهورية اللبنانية ومن منطلقات متنوّعة ولأهداف مختلفة (20).

إلا أن فكرة اللامركزية الإدارية في لبنان ليست وليدة العقود الحالية، إنما لها تاريخ قديم من الذِكر والمشاريع والبيانات التي روّجت للفكرة حتى وإن لم تستطع قوننتها. ففي العام 1929 مثلاً، ورد في وثيقة رسمية لحكومة الرئيس إميل إده “أن السلطات المركزية تسيطر على معظم الصلاحيات والخدمات، ولسوء الحظ هناك نوع من الضعف في الإدارات الإقليمية، وهذا ما يعود بالسلب أيضًا على السلطات المركزية، لذلك وجب إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية» (21). كذلك الأمر، شكّلت اللامركزية إحدى العناوين الرئيسية للإصلاح السياسي الشامل التي طرحته “الحركة الوطنية”، حين شهدت ستينات وسبعينات القرن الماضي تصاعدًا في المطالبة بالإصلاح في النظام اللبناني.

ترى طائفة واسعة من الأكاديميين والإنتلجنسيا اللبنانية أن قبول الجميع باعتماد اللامركزية الإدارية “قد أقفل الباب في وجه طروحات اللامركزية السياسية والفدرالية” (22). هذا ويرى النائب السابق بطرس حرب، أن هذا البند في اتفاق الطائف هو نتاج تسوية بين «جبهة تريد الفدرالية، وجبهة تريد أن لا يُقسّم لبنان، فكانت هذه الصيغة التي ترضي الأطراف كافة، كأحد أوجه الخروج من الأزمة (23).

على الرغم من شبه الإجماع العام على ضرورة قوننة اللامركزية الإدارية، إلا أن الظروف السياسية والاقتصادية والأزمات المتلاحقة في لبنان قد ألقت بأوزارها على تأخير إقرار هذا المشروع. إن الأزمات الحكومية والسياسية الدائمة قد جعلت من قوننة اللامركزية الإدارية في آخر سلّم أولويات السلطات المتعاقبة، هذا من دون نكران ميل القوى الحاكمة لعدم تطبيق عدد كبير من بنود اتفاق الطائف، ومنها اللامركزية الإدارية.

بالإضافة إلى ذلك، تطرح الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية في لبنان علامات استفهام أساسية حول إمكانية تمويل تكاليف تطبيق اللامركزية الإدارية، وخلق مجالس أقضية تُخصص لها أموال من الموازنة ومن الرسوم. وهو الأمر الذي لا يبدو وارداً في الوقت الراهن نظرًا للعجز المالي والضائقة الاقتصادية التي تعيشها الدولة بشكل عام (24).

إن واحدة من مبادئ اللامركزية الإدارية هي الاعتراف بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية. إن هذا الاعتراف كان قد أثار موجة اعتراض واستهجان في البرلمان أثناء مناقشة إقتراح قانون لامركزية سابق، إذ اعتبر بعض النواب أن هذا الأمر يقود الى بروز نزعات إنفصالية لدى بعض الفئات (25).

كذلك الأمر، لا يلقى إعطاء إستقلالية مالية وإدارية للسلطات المحلية قبولاً عاماً من قبل قوى سياسية أساسية. ففي تصريح لرئيس مجلس النواب نبيه بري أقرّ الرجل بأنه “لن أقبل أي إستقلال مادي أو أمني لهذه المجالس. لقد دفع اللبنانيون ثمناً غالياً لضرب مشروع تقسيم لبنان، ولن يحصل هذا في قانون اللامركزية الإدارية الذي يهدف أولاً لإحقاق الإنماء المتوازن” (26). كذلك الأمر بالنسبة لنائب “حزب الله” نواف الموسوي، والذي، وإن كان متحمسًا للامركزية من دون تحفظ، إلا أنه اعتبر أن “ثمة نقطة ذات إشكالية وهي إنشاء قوة شرطة تكون بمثابة قوة عامة مسلّحة، وبمثابة جيش” (27).

من ناحية أخرى، لا يبدو أن السلطة المركزية اللبنانية تحبّذ انتخاب مجالس محلية ذات صلاحيات واسعة، بل تفضل، حفاظاً على مصلحتها، الإبقاء على السلطة في يدها، وتعيين موظفين مركزيين في الأقضية كالقائمقامين ينفذون طلباتها.

تنطوي إحدى أبرز ركائز اللامركزية على إعطاء صلاحيات واسعة للمجالس المنتخبة وموارد مالية لكي تكون قادرة على العمل. ففي دراسة أعدّها المركز اللبناني للدراسات، تبيّن أن أكثر من 88 في المئة من السياسيين وكبار أعضاء الأحزاب يعتبرون أن الانتخابات والتمويل عناصر أساسية في اللامركزية، إلا أن تأييدهم لعملية منح صلاحيات واسعة للمجالس يبلغ 60 في المئة فقط. وهذا يتناقض بشكل حاد مع موقف 96 في المئة من المستجوبين الذين يعتبرون أن الصلاحيات هي المفتاح لتحقيق اللامركزية. علاوة على ذلك، 34 في المئة فقط من السياسيين وأعضاء الأحزاب البارزين يعتبرون أن مجالس الأقضية يجب أن تتمتع بصلاحيات واسعة، فيما يفضّل 63 في المئة من قادة الأحزاب والسياسيين أن تقتصر مسؤوليات مجالس الأقضية على دور تنسيقي بين البلديات (28).

من ناحية أخرى، يتردد عدد لا بأس به من الساسة في الموافقة النهائية على مشروع قانون اللامركزية الإدارية، وذلك لأسباب طائفية وحساسيات مناطقية، إذ إن آلية الانتخابات لمجالس الأقضية قد تربط المقيمين أكثر بمكان سكنهم وتبعدهم عن قراهم، وتحديدًا في أقضية مثل بعبدا والمتن الشمالي وبيروت وطرابلس (29).

هذا بالإضافة إلى أن التقسيم اللامركزي لمدينة بيروت قد يؤدي، بطريقة أو بأخرى، إلى طغيان طوائف على طوائف أخرى، إذ إن مشروع قانون اللامركزية الإدارية يتكلم عن مراعاة التنوّع في المدنية، لكن لا يحدد آلية عملية لتحقيق ذلك. كذلك الأمر، إن إلغاء مجلس بلدية بيروت والإبقاء على المحافظ فيها قد يشكّل حساسية طائفية، على اعتبار أن العُرف السائد في لبنان يقول إن رئيس البلدية يكون من الطائفة السنيّة، والمحافظ من الطائفة الأرثوذكسية. وهي كلها أمور تؤكد على اصطدام مشروع قانون اللامركزية الإدارية في الدوائر الكبرى، لا سيما في مدينة بيروت، بعوائق سياسية وطائفية متعددة.

بالإضافة إلى ذلك، تحدٍ آخر يرتبط بالثقافة السياسية العامة السائدة بين الشعب اللبناني، وبخاصة على المستويات الصغيرة والمحلية. إن إنشاء مجالس أقضية قد يؤدي إلى تعزيز الزبائنية واستقطاب “بيوتات” الزعامات والعائليات والحزبيات المتنافرة على حساب المصالح الحياتية اليومية والمشتركة. إن الثقافة السياسية السائدة ليست بالديمقراطية الصرفة، إذ تشوبها علل كثيرة بعضها مرتبط بالنظام السياسي وغيرها بالثقافة الشعبية والمحلية.

ضمن هذا الإطار، يمكن قياس الثقافة السائدة خلال الانتخابات البلدية وتوقّع كيف ستكون عليها الأمور في حال إقرار مشروع قانون اللامركزية الإدارية، وما يستتبعه من انتخابات على صعيد الأقضية والأحياء. يرى مدير المركز اللبناني للدراسات سامي عطالله، على سبيل المثال، أن “عدم تعميم ثقافة العمل البلدي تشكّل أكبر عائق أمام التنمية المحلية، اذ يُخشى التحوّل من مركزية المركز الى لامركزية محلية إقطاعية أكثر طغياناً من مركزية المركز” (30).

من الجائز القول إن عملاً مضنيًا قد تم بين العام 2012 والعام 2019، أكان في الحكومة اللبنانية أم في البرلمان، وبكافة اللجان والهيئات التي سعت لكتابة مشروع قانون اللامركزية الإدارية، إلا أن الظروف التي مرّ بها لبنان نهاية العام 2019 كانت سببًا أساسيًا في عدم إعطاء الأولوية للمشروع.

 

مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب ـ جهاز التنشئة السياسية ـ حزب “القوات اللبنانية”

 

هامش:

13) تقدّم النواب السابقون الراحلون أوغست باخوس عام 1990 باقتراح تعديل قانون التنظيم الإداري إلا أن البرلمان اللبناني لم يناقشه، ووزير الداخلية ميشال المر عام 1999 بمشروع قانون متعلّق باللامركزية الإدارية، وروبير غانم حول الموضوع عينه عام 2007، إلا أن أيًا منها لم يسرِ في الطريق التي تؤدي إلى إقراره كقانون ناجز.

14) مشروع اللامركزية الإدارية، “اللجنة”. [ لا تاريخ). متوفر على: http://www.decentralization-lb.org/Committee.aspx

15) فراس الشوفي، المرجع نفسه.

16) ألين فرح، “لجنة إعداد مشروع قانون اللامركزية الإدارية أنهت عملها بارود: قانون ميثاقي بامتياز ولا يقلّ أهمية عن قانون الانتخاب”، “النهار”، 9 تشرين الأول 2013.

17) مشروع قانون اللامركزية الإدارية، «مسودة مشروع قانون اللامركزية الإدارية»، 2014. متوفر على: http://www.decentralization-lb.org

18) أما مصادر تمويل الصندوق الأساسية فهي: 25 في المئة من الضريبة على القيمة المضافة، 10 في المئة من إجمالي فواتير الهاتف الخليوي، 25 في المئة من إيرادات الجمارك، 5 في المئة من مداخيل شركة اللوتو، و25 في المئة من رسوم الإنتقال على التركات والوصايا.

19) الأشرفية، الرميل، الصيفي، الباشورة، المدوّر، المرفأ، رأس بيروت، ميناء الحصن، دار المريسة، المزرعة، المصيطبة، زقاق البلاط.

20) طوني حبيب، “اللامركزية الإدارية الموسّعة: تحديات وإمكانات”، المركز اللبناني للأبحاث والدراسات، 25 شباط 2019. متوفر على:

https://lcrs-politica.com

21) المرجع السابق.

22) المرجع السابق.

23) المرجع السابق.

24) سناء الجاك، “قانون اللامركزية في لبنان حبر على ورق بانتظار التمويل”، الشرق الأوسط، العدد 14734، 1 نیسان 2019.

25) طوني حبيب، المرجع نفسه.

26) فراس الشوفي، المرجع نفسه.

27) طوني حبيب، المرجع نفسه.

28) سامي عطالله وميشيل بوجيكيان، «ما نوع اللامركزية التي تريدها فعلاً الأحزاب السياسية؟»، المركز اللبناني للدراسات، تشرين الثاني 2015، متوفر على: /https://www.lcps-lebanon.org

29) فراس الشوفي، المرجع نفسه.

30) طوني حبيب، المرجع نفسه.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل