أمام التعطيل المتمادي للمؤسّسات كلّها، وأوّلها القضائيّة، وأمام الديمقراطيّة التعطيليّة التي تمارسها منظّمة حزب الله في لبنان منذ هيمنتها على السلطة بعد انقلاب السابع من أيّار 2008؛ وبعد تكريس الاحتلال السيادي للجمهوريّة الاسلاميّة في إيران على السيادة اللبنانيّة باستئثار هذه المنظّمة بقراري الحرب والسلم في الدّولة اللبنانيّة الذي بدت تجلياته واضحة للعيان في اتّفاق السلام الصامت الذي تمّ توقيعه مع العدوّ الاسرائيلي. أمام هذه الوقائع ينقسم اللبنانيّون إلى مشروعين واضحين: مشروع الثورة الاسلاميّة على قاعدة الإمامة الإلهيّة في لبنان، ومشروع الدّولة اللبنانيّة. فهل تنفع الحلول السياسيّة والانتظارات الدّوليّة والأمميّة في ظلّ واقع تحلّل وجوديّ للمكوّنات الحضاريّة التعدديّة لصالح المكوّن الصفوي الاثني عشري في لبنان؟
ينقسم الفريق المعارض للمشروع الصفوي إلى قسمين بدوره: قسم لا زال حتّى الساعة مؤمنًا بقاعدة العمل السياسي. يطالب بالانتخابات الرئاسيّة، ويعمل ليل نهار على تقاطعات سياسيّة ظاهرتيّة، بهدف الوصول إلى مرشح يكون رأس حربة سياديّة، بهدف قيادة عمليّة التحرير السيادي. وقسم آخر من مؤيّدي هذا المشروع بدأ يتمظهر صوته السياسي في بعض الأوساط الاعلاميّة، ينادي باستراتيجيّة مختلفة لمواجهة المشروع الصفوي في لبنان.
ويعتقد أصحاب وجهة النّظر هذه أن لا انتخابات رئاسية أو نيابية أو بلدية أو اختيارية أو أي عمل سياسي آخر يعتبر نافعًا في هيمنة عسكرية لمنظمة حزب الله. والدّليل في ذلك أنّ أيّ مواجهة سياسيّة يتمّ تعطيلها أو الانقضاض عليها، لأنّ المفاتيح السياسيّة هي بيد مايسترو المجلس النيابي أي دولة الرئيس نبيه برّي، المعروف المرجعيّة السياسيّة. ويعتبر هذا الفريق أنّ سيناريو الفشل في الوصول إلى تنفيذ العدالة، بعدما تمّ كشف الحقيقة في جريمة اغتيال دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في أحسن الأحوال، سيتكرّر نفسه في قضيّة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي تعطل بقوّة الاحتلال السيادي للدولة اللبنانيّة. فحتّى لو نجح المطالبون بلجنة تقصّي الحقائق الدّوليّة، قد يُكشف النقاب عن الحقيقة، لكنّ العدالة لن تطبّق في ظلّ دولة محتلّة سياديًّا.
ويبدو أنّ مسيرة التعطيل هذه ستطال أيضًا التحقيق في جريمة اغتيال منسّق بنت جبيل السابق في حزب القوات اللبنانيّة الياس الحصروني أيضًا، الذي تمّ اغتياله في منطقة تسيطر عليها منظمة حزب الله أمنيًّا وعسكريًّا بالكامل؛ وحتّى الساعة تبيّن من التحقيقات الأوّليّة، بعد فضح التمثيليّة البوليوديّة الاخراج التي حاولت منظّمة حزب الله إنتاجها وإخراجها، مصدر السيارات الأربع التي انطلقت لتنفيذ هذه العمليّة، ما دفع إلى ممارسة الاستراتيجيّة التعطيليّة نفسها.
مقابل ذلك، يبقى القسم المتمسّك بقاعدة العمل السياسي – المؤسّساتي مثابرًا في عمله، ولو أنّه لا يحرز تقدّمات استراتيجيّة، لكنّه حتّى الساعة يستفيد من بعض التبدلات في المواقف المحلّيّة والدّوليّة المؤيّدة لخطّته الاستراتيجيّة. وآخر ما بدا في هذا السياق توضيح موقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من مسألة الحوار الذي دعا إليه الرئيس برّي على قاعدة أنّ الحوار يكون في التصويت في المجلس النيابي، وفي الانتخاب يتحاورون. إضافةً إلى ما صدر عن مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف في حديثها لمديرة شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة آن غيغان عن ضرورة اتّخاذ إجراءات بحقّ المعرقلين في موضوع انتخابات رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة. وهذا التبدّل ناجم عن تمسّك المعارضة اللبنانيّة بموقفها المبدئي الذي يعتبره قادة المملانعة تعنّت وعناد في غير محلّه. ويحاول هؤلاء تقليب النّاس عليهم منطلقين من أبسط قواعد العيش اليومي.
ويستغلّ الممانعون الرهان على متغيّر استراتيجي إقليمي أو دولي في المنطقة الذي استنزف مقوّمات الصمود بشكل شبه كامل. ولا يمكن لأيّ مجتمع أن يصمد لينتصر مشروع فريقه السياسي من دون تأمين أدنى مقوّمات لهذا الصمود. فبنهاية المطاف المستشفيات والمدارس والأفران والإسكان لا تأكل وتشرب من المبادئ السامية، بل هي بحاجة إلى وقائع حياتيّة يوميّة حسيّة وعينيّة. هذا الانتظار يتحوّل إلى عامل تحلّل وجوديّ للمكوّنات الحضاريّة التي تواجه المشروع الصفوي. فالهجرة قاتلة، والانكفاء السياسي قاتل أكثر، والاستسلام لليوميّات الحياتيّة يشكّل عنصر استغلال دسم للفريق المواجَه.
في ظلّ هذه الوقائع المتباينة، لا يمكن التخلّي عن الحلول السياسيّة بالمطلق، لكن المطلوب اليوم تغيير استراتيجيّة المواجهة الكلاسيكيّة التي أثبتت حتّى الساعة عقمها السياسي. لكن هذا لا يعني أنّنا نريد أخذ البلاد إلى الملعب العسكري والأمني الذي تبرع فيه سلطة إيران في لبنان. لا نريد حربًا. من هذا المنطلق، تصبح المطالبة بالحماية الدوليّة واجبًا وجوديًّا لبنانيًّا. وإلا تحللنا كلّنا في لبنانهم الصفوي. فالمكوّن الشيعي الذي يؤمن بلبنان التعدّدي مدعوّ قبل غيره من المكوّنات الحضاريّة للتحرّك باتّجاه المجتمع الدّولي للمطالبة بتحريره من الصفويّة الإيرانيّة لأنّه المعني الأوّل بذلك.
ولا يعتبرنّ أحد أنّ المجتمع الدّولي يعمل وفق الأهواء المحليّة، بل نعلم جميعنا أنّ المصالح الدّوليّة هي التي تحرّك الدّول. ولقد نجحت منظمة حزب الله بتقديم الاغراءات الترسيميّة للمجتمع الدّولي عندما رفض المسيحيّون ذلك في اتّفاقيّة 17 أيّار. ودفع المكوّ، المسيحي ثمن ذلك لقاء القضيّة الفلسطينيّة التي استنزفته في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، كذلك عندما تمّ الانقلاب على الطائف الذي أدخله به حليف النّظام السوري غير المعلن وقتذاك، ليدفع الثمن في تسعينيّات القرن عينه.
هذه التجارب كلّها تنبئنا بضرورة تغيير استراتيجيّة المواجهة التي نعتمدها. ومن المفيد قراءة التغيّرات الشعبيّة التي تظهر تباعًا من حولنا في المنطقة، كتلك التي تحصل في السويداء. فالضغط الاقتصادي – الاجتماعي الذي يرزح تحت نيره أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب اللبناني في ظلّ العقم السياسي مرشّح للإستمرار. هل يدفع ذلك اللبنانيّون إلى ثورة ثالثة ممكن أن تدفع السياسيّين إلى تغيير في استراتيجيّة المواجهة؟