حارس الكِيان والتّاريخ والقضيّة.. العلّامة ميشال الحايك

حجم الخط

كتب د. ميشال الشمّاعي في “المسيرة” – العدد 1745

حارس الكِيان والتّاريخ والقضيّة

العلّامة ميشال الحايك

غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله

 

من بجّة الجبيليّة شقّت الصّخور أرزة لبنانيّة فتجلّت في العام 1928 بولادة الأب العلّامة ميشال حايك. غرف الأب الحايك علومه من بلدة ميفوق حيث يستريح اليوم شهداء من المقاومة اللبنانيّة، حتّى الجامعة اليسوعيّة في بيروت وليس انتهاء في باريس حيث نال شهادة الدكتوراه في اللاهوت والليتورجيا والآداب والعلوم الاجتماعيّة – السياسيّة. سيم كاهناً في 17 أيّار عام 1954، في كنيسة مار يوسف للأباء الكرمليّين في باريس.

قاد العلامة الأب ميشال الحايك ثورة فكريّة تحرّريّة من خلال سلسلة كتابات وعظات أقلّ ما يمكن توصيفها بأنّها خارطة طريق لثورة الانسان على الإنسان بهدف التجديد الإنسانويّ والتجدّد المجتمَعي. هدف في ثورته إلى تحرير الإنسان من النّظم البائدة التي نجحت باستعباده، نتيجة للجهل الذي أتقنه لقاء كسبه بعض المصالح الآنيّة والمغريات الترابيّة. هذه المكتسبات الزائلة التي طمح إليها الإنسان هي التي قتلت الله في كيانه الإنساني، وفرّغته من نفحة الألوهة الأولى التي نفخها الله في روحه لحظة الخلق. وذلك كلّه لأنّ الأب ميشال الحايك أراد أن يسبر أغوار المستحيل بالنسبة إلى الإنسان ليثبت له أن لا شيء مستحيل مع الرّبّ لأنّ غَيْرَ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ.

لاحت بشائر الثورة “الحايِكِيَّةِ” بين أواخر السبعينيّات وأواخر التسعينيّات من القرن الماضي؛ منطَلَقُهَا مشروع الموارنة وثورتهم وحلمهم وخيبتهم. لقد عرف الحايك كيفيّة تشخيص العلّة الكِيَانيّة التي عصفَت بوجوديّة الوطن اللبناني الذي سعى إلى بنائه الموارنة أوّلاً. هذا الوطن الذي يراه الحايك مساحة حرّة لبناء لقاء تعدّديًّا على القاعدة الحضاريّة، في إطار تعدّديّ وحدويٍّ.

فبالنسبة إلى الأب ميشال الحايك كانت العلّة في خيبة الموارنة بالتّحديد من العروبة التي سعت وقتذاك إلى تذويبهم حضاريًّا. وأكثر ما آلمه في تلك المرحلة الخيبة من بعض الشركاء في الوطن. أولئك الذين لم يكونوا أهل ثقة وطنيّة لأنّهم غلّبوا مصالحهم الخاصّة الفئويّة على حساب مصلحة الوطن الذي ارتضى اللبنانيّون جميعهم بناءه ـ على الأقلّ بحسب قناعات الحايك الايمانيّة والوطنيّة ـ إضافة إلى هذه الخيبة العروبيّة، صُدِمَ الحايك كذلك من خيبة أخرى مشرقيّة من الذين يتشابه معهم إيمانيًّا وحضاريٍّا وفكريًّا، حيث عايش أترابه المسيحيّين يبايعون الأنظمة الشموليّة لقاء أن تمنَّ عليهم بفضلات من الوجود الذي لم يصطبغ حتّى اصطباغًا بالحرّيّة الشخصيّة.

والخيبة الأكبر كانت من الموارنة اللبنانيّين أنفسهم الذين لم يكونوا على قدر أمانة تاريخهم الوجوديّ في هذه الأرض المقدّسة. فمعنى التّاريخ في ثورته هو نبوءاتي. لا يمكن النفاذ إليه إلا من خلال الطرق الروحيّة. وهذا ليس أمرًا غريبًا على فكر فتّت الصخور ليجعل منها جنائن معلّقة بين الأرض والسماء. ولا على من ورث في جيناته ثورة المقاومة اللبنانيّة؛ وما أحوجنا اليوم إلى ثورة جديدة في الفكر المقاوِم اللبناني وإعادة تصويب بوصلة هذا الفكر باتّجاه الكِيان الذي تعمّد بدماء أجدادنا.

السلام لغة “الحايك” لأنّه مؤمن أنّ معنى الأحداث الحقيقي سيتجلّى يومًا ما في السلام بين الأمم جميعها. تفكيره الأممي هذا استبق العصر الذي تباهينا به منذ عقدين تحت مسمّى العولمة. فلقد كان الحايك سبّاقًا نحو عولمة أمميّة لكن لغتها السلام والمحبّة وليس الحرب والاقتتال. فزمان هذا السلام الأممي لا يكون إلا عندما تنزل أورشليم من السماء كعروس مزيّنة ويلاقيها ملوك الأرض، والمسيح في وسطهم.

لكنّ وعود الإيمان لا تتحقّق إن لم يسعَ إلى تحقيقها المؤمنون أنفسهم. وهنا بالتّحديد دعوة الأب ميشال الحايك إلينا كمؤمنين كِيَانيّين على اختلاف قناعاتنا الإيمانيّة في هذه الأرض لنكون روّاد تحقيق هذا السلام الأممي. فلبنان في ثورة الحايك يشكّل الأرض الأخيرة لهذا السلام بعد فشله في أصقاع العالم الأربعة. فدعوتنا كلبنانيّين أن نجسّد هذا السلام بالتقائنا بعضنا مع بعض، لأنّ لبناننا هو الموضع العريق اللقاءات، الجامع بين الأمم القديمة والحديثة ثقافاتها وبشاعاتها، حتى لو أنّنا ما اعترفنا أنّ لبناننا هو بحدّ ذاته مغارة لصوص ومنارة أقداس.

هذه رسالة لبنان الأورشليميّة، رسالة السلام التي بشّر بها الأب ميشال الحايك حيث لاقاه في بشارته هذه البابا القديس يوحنّا بولس الثاني يوم زار لبنان في العام 1997. ولم يخفِ الحايك يومًا ألمه من الواقع اللبناني، حيث لم يدرك أيّ فريق لبنانيٍّ هذه المعاني الروحيّة والأبعاد المسكونيّة التي يكتنزها في خلفيّاته الحضاريّة. ماذا وإلا لما تناحروا وتقاتلوا ورسالتهم واحدة كما رآها العلامة الحايك. وغالبًا ما حيّر الحايك لقاء الاختلاف الحضاري في لبنان لأنّه لأهداف زمنيّة قريبة المدى، لم ترقَ يومًا إلى المرامي الدينيّة اللاهوتيّة النسكيّة التي أرادها ربّ القوّات السماويّة لهذا الشعب سماءً دهريّة في هذه الأرض المقدّسة.

هذا الوجود الإنساني يجسّده الأب ميشال الحايك في فلسفته الصراع المجتمعي بين صنفين مثّلهما بشخصيّتي قايين وهابيل من الكتاب المقدّس. هذا النّزاع المجتمعي منذ ولادة البشريّة لا زال مستمرًّا حتّى يومنا هذا، بعد رحيل الحايك. فهذان الصنفان يمثلان موقفين مختلفين من الوجود الانساني بحدّ ذاته. لكنّ هذا الاختلاف يجتمع تحت عباءة واحدة وهي أبوّة الوجود. من هنا يشدّد الحايك في تعاليمه كلّها على أنّ الأخوّة هي سابقة للعداوة. والوحدة الإنسانيّة التي هي وعد النهايات هي بحدّ ذاتها وحي البدايات. فرؤية الحايك تختصر في العودة إلى حالة الأمّة الواحدة التي انبثقت منها البشريّة.

هذا الميثاق البشري يختصره الحايك بالمقدّمة لتحقيق دعوة السلام الأممي، أخذه الله أو قطعه يهوه أو ختمه المسيح قبل إنشاء العالم. فبفعل هذا الميثاق كان الإنسان وبدونه لا يعقل أن يكون. ومن هذا الوحي “الحايكيّ” تتجلّى رؤية لبنان. فمنذ كونه مع الكون الأوّل قام بفعل هذا الميثاق الذي ربط بين مختلف أصناف الأعراق والأديان على مرّ التّاريخ. هؤلاء كلّهم لم يكن لهم في الحقيقة أيّ خيار آخر للتواعد على هذا الوجود في غير هذه الأرض المقدّسة التي جعلها الرّبّ موئلاً لوجوده في كِيَانيّتهم.

وما هذه المعاناة التي عايشها الأب ميشال الحايك في حياته كلّها حتّى رحيله في الأوّل من أيلول في العام 2005، وحتّى تلك التي ما زلنا نعانيها نحن اليوم، إلا لنتنقّى كلبنانيّين من شوائبنا، لنعود فنندرج وسط هذا الميثاق الإلهيّ الذي يشكّل فعل وجود وجودنا بحدّ ذاته في هذه الأرض، ويعطي المعنى الحقيقي لتاريخنا الإنساني والروحي على السواء.

ولو صحّت لنا عمليّة التنقّي هذه لتحقّقت على أيدينا معجزة النبوءات التي وحدها قادرة على دحض حسابات السياسات الوثنيّة التي تستقدم نهايات التّاريخ إلى الحاضر الذي نعيشه؛ فتنجح بإحباط البشر وتيئيسهم، فيشقّ الشرير هذا الزمن الكرونولوجي الوثني وينجح بالقضاء على الكِيان والتاريخ والقضيّة.

ما علينا إلا أن نشقّ كياننا لتدخل عليه مزيدات الرّوح فنخلُص ونخلّص وطننا بهذه الرؤية الحايكيّة التي رسمت لنا وطنًا روحانيًّا وسط عالم الوثنيّات البائدة.

 

د. ميشال الشمّاعي ـ باحث وكاتب سياسي

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل