لم يعد اللبنانيون السياديون الشرفاء ولم يكونوا يوماً بكافة طوائفهم وأحزابهم، بحاجة لإثبات وطنيتهم ولا عروبتهم ولا التزامهم بالقضايا المحقة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وما تهم الانحياز والعمالة لإسرائيل والتبعية للاستعمار الأميركي الغربي، إلا شعارات ممجوجة وساقطة، حتى من البيئة التي تنطلق منها تلك الاختبارات المعروفة نتائجها سلفاً، ومع مفعول رجعي لعشرات السنين.
شهد العالم وشاهد قساوة مشهد المجزرة الرهيبة التي وقعت في المستشفى المعمداني في غزة، ولا يعتقدن معتقدٌ ان أحداً في لبنان لم يؤلمه ما رأى وسمع من بشاعة الإجرام والظلم وطبيعة العدوان، لذلك كان الإجماع اللبناني على التضامن مع الشعب الفلسطيني وشجب وغضب وإدانة الهجوم الإسرائيلي المرّوع، من دون أن تحتاج هذه المشاعر لا الى الإثبات ولا الى التأكيد.
عند تلقي الخبر المفجع تداعت الدول بشعوبها أولاً وبمسؤوليها لاحقاً، لتحركات شاجبة معترضة غاضبة. في لبنان دعا “الحزب” الرأس “الممانع المقاوم”، لتظاهرة مركزية تتجه نحو السفارات الأجنبية وعلى رأسها السفارة الأميركية في عوكر، بالإضافة الى تحركات فرعية أخرى في المناطق، تمت بدعوات مماثلة من كافة الأحزاب والأطراف اللبنانية التابعة منها لـ”الحزب” وغير التابعة.
ومن الضروري الإشارة والتركيز على أن التظاهرة التي دعا اليها “الحزب”، طريقها مُحددة مبدئياً، ومُقرّرة تنسيقياً وتنظيمياً، حتى أن شعاراتها وإعلامها وأعلامها معروفة ومتفق عليها…
من هنا لا نفهم مرورها بأعلام “الحزب” حصراً، في الجميزة وعلى أتوستراد ضبية، المنطقتين المسيحيين، كما لا نفهم سلوكها وتعرجاتها في المناطق السنية، والمسيحية والدرزية بشعارات مذهبية شيعية، والأكيد أننا لا نفهم ولن نفهم التعدّي على الأملاك العامة والخاصة والحرق المُتعمد المتكرر لغاليري الحاج، وكأنه موقع إسرائيلي على تخوم مارون الراس، أو ميركافا تجتاح منطقة علما الشعب، كما لن نفهم ما يقدم عليه المُسَيّرون من حرق للمطاعم ذات “الفرنشايز” الأجنبية، كـ”ماك دونالدز” و”ستاربكس” وغيرها، والتي يملكها لبنانيون، كما أن موظفيها لبنانيون، وغيرها من الخسائر الجانبية التي تكاد تكون أكبر من خسائر الحرب الكبرى، من اقتصادية وتجارية وحتى حياتية معيشية.
ما حصل من حرف وانحراف للتظاهرة في عوكر ومحيطها تحت ستار وشعار “مجزرة مستشفى المعمداني”، سبق أن حصل وتكرر في محطات عديدة مع نفس السيناريو و”البطل”، تحت دعوات تظاهر غُلِّفت بـ”المعيشية- الحياتية”، كما حصل في مار مخايل في 26 كانون الثاني من العام 2008 على تخوم عين الرمانة وداخلها، بحجة انقطاع الكهرباء، وكما حصل من أحداث إنقلابية دموية في 7 أيار من العام نفسه، تحت تمويه وغطاء ومطالب الاتحاد العمالي العام الذي دعا يومها للإضراب والتظاهر.
“التظاهرات – التعديات” لم تقتصر على الملف المعيشي – الحياتي، إنما “تموّهت وغلفت” بغطاء وحجج قضائية، كما حصل و”افتُعِلَ” بتاريخ 14 تشرين الأول من العام 2021، في غزوة عين الرمانة تحت ستار “مسيرة – مسيّرة” مسلحة منحرفة عن طريقها المؤدي الى قصر العدل… وكان ما كان من قتلى وجرحى وأضرار بالممتلكات العامة والخاصة، كذلك فعل “الحزب” عندما تغطى وتموّه وتحجج بمسيرة استفزازية بموكب تشييع انحرف عن مساره في خلدة، في 21 آب من العام 2021، ما أدى الى قتال مع عشائر عرب خلدة، كاد أن يودي بالبلاد والعباد الى فتنة مذهبية وحرب أهلية، على غرار الأمثلة المساقة السابقة.
ومن المفيد التأكيد، أن طريق جونية وعيون السيمان، سبق أن اعتمدا طريقاً لفلسطين، على الرغم من التدمير الممنهج والخراب، ولنتذكر ما قاله يومها عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” صلاح خلف المعروف بـ”أبو أياد”، في مهرجان خطابي أقيم جامعة بيروت العربية، في 23 أيار 1976: “ان شهداء الثورة الفلسطينية الذين سقطوا في عيون السيمان وعينطورة وصنين، إنما سقطوا لأن طريق فلسطين لا يمكن أن تمر الا بعيون السيمان وجونية”… كما اعتمدت طرقاً أخرى تبدّلت وتغيّرت بحسب التحالفات والصفقات والتسويات. كلها لم توصل الى القدس لأن أياً منها لم يكن طريقاً أو سبيلاً مؤدِّياً للقدس، والدليل على ذلك، ما قاله في “حَرفٍ” آخر لطريق فلسطين والقدس و”انحرافٍ” عنهما، الأمين العام للحزب حسن نصرالله، في 11 تموز من العام 2015، عن “ان طريق القدس يمر في القلمون والزبداني وحمص وحلب ودرعا والحسكة”.
رب سائل وعن حقّ، هل يقصد “الحزب” وأمينه العام من خلال انحراف التظاهرات عن مسارها عمداً، الى حرف الأنظار أولاً عن التزام الحزب “قواعد الاشتباك” في قتاله المتواضع مع عدوّه الاسرائيلي حتى الساعة، وثانياً والأهم عن “صمت” نصرالله المعبّر بعد 12 يوماً على “طوفان الاقصى” ومجازر غزة وغيابه عن التعليق على تلك الأحداث، وهو الذي دأب على إطلالات دورية مكثفة للدفاع عن “قضايا المسلمين” في ميانمار واريتيريا والصين والهند والدانمارك… وله فيها ملاحم لغوية بليغة ومطوّلات.