انتهيت للتوّ من قراءة “كتاب العتب” للكاتب ملحم الرياشي وأنا في غمرة الغربة ليعيدني بقوة إلى ربوع لبنان والشرق. ويصلح الفصل الأول “يهوذا الاسخريوطي الخائن البار” أن يكون الإنجيل الخامس وأنت الإنجيليّ الخامس بطبيعة الحال.
بعض صفحات الكتاب، لا سيما 23، 24، و25 تصلح كصلاة وترانيم وتسابيح. كما أنّ وصف يسوع يشبه وصف جبران في “يسوع ابن الإنسان” من ناحية الفلسفة واللغة القصصية وحتى التشويق.
ورغم علمي المسبق بنهاية يهوذا المأسوية، كنت أرجو معك، لو أنّه قد أعاد النظر بفعلته ولم يسلّم ابن الإنسان!
فكرة الكتاب مثيرة، وعنوانه الذي يجمع نقيضين، موفّق، وتبرير الكاتب الرياشي ليهوذا هو المسيحية بعينها، وفق مقولة “من نحن لندين؟”، وذلك على عكس الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري الذي خصص في كتابه la divina comedia يهوذا بالعقوبة الأشدّ قساوة وجعله يمضي أبديّته بين فكّي لوسيفورس تكفيراً عن خيانته.
أمّا فصل “مزمور السجين” فهو الأروع على الإطلاق! أستذكر قولاً لجبران: “إن كلماتي تردّد صدى أفكاركم”، كلمات ملحم الرياشي في هذا المزمور تردّد صدى أفكاري.
قصصه القصيرة تشبه بأسلوبها، وأقصد هنا بإيجازها ورشاقتها وسخريتها وتسلسلها، أسلوب أنطون تشيخوف.
“أرعب ما في السجن أن تعتاد عليه” جميل جداً، وما أجمل عندما قلت “يأتي الخلاص بلحظة ولكن قد تنتظر عمراً ولا تأتي اللّحظة”، “الوقت”، “حبّ”، “صبيّة”، “ما جمعه الله”.. كلها تحف فنية، أمّا أكثر ما اجتاحني فهو “بيلاطس” و”لوسيفر”! نثر خيالي ولا أروع!
تأثّر الكاتب الواضح بالكتاب المقدس بعهديه هو ما أضفى على كتاباته الصدق وبعضاً من الألوهيّة والكثير من البساطة، أوليست العبقرية هي “القدرة على قول شيء عميق بأسلوب بسيط» على حدّ تعبير بوكوفسكي؟
لقد أغنى الرياشي كل المواضيع التي تحدّث عنها من فلسفته ونَفَسِه اللاهوتي، وبصورة خاصة عندما قال: “أعتب على صورتي التي لا تشبه عصري.. وعتبي عليك أنت وحدك أنت”.
أكثر ما استأثرني في فصل “البئر” تعبير “أيّها الزمن الأبله”. أمّا صرخة قدموس الأخيرة على الحجر في فصل “حارس القبر”، فهي صرخة كل مؤمن يوم الجمعة العظيمة حائر مربك يعتريه الشّكّ قبل موعد القيامة.