كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1746
حزينٌ الموت أكثر في تشرين، فيه ما فيه من تساقط أوراق، وعمرنا أوراق مبعثرة فوق عُري شجرة في مهب خريف. حزينٌ الموت أكثر حين يعجّل بعناق من كانت تليق بهم كثيرًا بعد الحياة. بلغة الأرض نكتب بشجن أوراق الخريف رحيل جيزيل قصير، هم يكتبون جيزيل خوري، وأنا لا أجد لها كنية أصدق من تلك.
بلغة العشاق والسماء، جميل هذا الرحيل الحزين، لأن العاشقة عادت لتعيش فرح اللقاء مرتين، مرة بلقاء يسوع المسيح أول الشهداء، وأخرى بلقاء حبيب العمر سمير، شباب قلبها وروحها، وكل ذاك العمر الذي سكبته هنا في ثلاثة كؤوس وآلاف الرشفات، كأس الأمومة الصافية، وكأس الحب الفائق، وكأس تلك المهنة التي جعلتها نجمة صنعت هي بنفسها كل بريقها. يا جيزيل قصير كيف نكتب غيابك يا عاشقة يا مثقفة الإعلام؟
لم تكن جيزيل صديقتي، لكن حضورها القوي يجعلك تظن أنها قد تكون صديقة مستترة، تظهر قوتها في وقت الضيق. لم أعرفها معرفة عميقة على المستوى الشخصي، لكن لما عرفت بقصة الحب التي جمعتها وسمير قصير، أُعجبت بها، أُعجبت بتلك القوة التي تقودها صوب المستحيل، صوب هواها الشاعري ذاك، محطمة كل قيود أو شروط يفرضها الآخرون على مشاعر لا تعترف بالعادة بأي حدود إلا ما رسمه الحب على خيوط الحياة. كنت أقول لأصدقائي “شو قوية جيزيل، لحقت قلبها وكسّرت الحواجز”. كنت أقول لهم أن تلك المرأة حطمت المتاريس التي فرضها آخرون بكبريائهم حيناً، بغبائهم أحياناً، باستسلامهم لكل ما هو متعارف عليه غالبًا، حتى لو كان على حساب الحياة نفسها. كنت أقول كم هي بارعة تلك الإعلامية في حواراتها وكم هي راقية، مثقفة من دون استعراض، ملّمة بكل التفاصيل من دون غرور أو كبرياء… بكلمة، كانت ملهمة وكانت حالة استثنائية قد لا تتكر.
قويةٌ كانت جيزيل قصير، أو لعلها شاءت أن تبقى بمظهر القوة كي لا تخسر كل معاركها في الحياة. خسرت كثيرًا قبل أن تربح الحب الكبير، وحزنت بعمق قبل أن تصل الى الحزن الأكبر بعد. خسارة الأخ دمار القلب، خسارة الحبيب والزوج ورفيق النضال الصعب المستحيل، خسارة حياة بأكملها، جيزيل عاشت كل تلك الخسائر وأظهرت أنها دائما القوية الصامدة، لتبقى ملهمة للآخرين بالقوة وقبول ذاك القدر الصعب المجنون.
يوم اغتيل عمرٌ كبير من عمرها مع اغتيال سمير قصير، قلنا انتهت جيزيل. نزلت من الطائرة مذيّلة بالحزن الصامت المهيب، وذهبت الى ساحة الشهداء تراقب صوره المدروزة فوق حيطان الحرية المؤجلة، مررت أصابعها فوق وجهه الجميل، كان ينهال وسامة، جمدت الأصابع المرتجفة فوق عيونه وانهارت جيزيل فوق الصورة، ولما دفنته كانت بيديها تدخل قلبها في النعش معه، وبقيت معه حتى آخر أنفاسها.
لا أعرف كيف صمدت وأكملت الطريق، أكيد أنها قطعت وعدًا على نفسها أنها ستبقى في الحياة لأجل أولادها ولأجله، حتى لو كانت في خلايا القلب ميتة. هذه مفارقة صعبة في الحياة أن نعيش ونحن بين الموت والحياة. وصمدت وصارت الإعلامية اللبنانية التي اجتاحت القنوات العربية، لتتصدّر مرتبة أشهر مقدمات البرامج السياسية. صارت مثال الإعلامية الملتزمة المثقفة، والأهم لم تنسَ السبب الذي لأجله استشهد سمير قصير، الحريات العامة، إستقلال وسيادة لبنان.
اغتالوا سمير وكانت تعرف تمامًا من المجرم الذي امتدت يداه الى وسيم الحرية والقلم، وبقيت في النضال. لأجل عيونه أنشأت “مؤسسة سمير قصير” التي تُعنى بقضايا حريات الإعلام والإعلاميين في لبنان والعالم العربي. صارت جيزيل رمزًا من تلك الرموز المناضلة لأجل الحرية لأجل بيروت. عيون بيروت من عيون سمير وجيزيل، سكنا معًا في كل ذاك الشغف اللامتناهي، كانت حلوة بيروت مع نضالهما ونضال الملايين لأجل البريق الأحمر والشال الحرير على عيون شط بيروت.
جاء الموج سريعًا ووقفت الصبية عند بحرها تنده على من تركها وسط تلاطم الأمواج. لم يتأخر عليها كثيرًا ولو بدا الزمن قروناً. لم يكن المرض الذي أخذها، بل الندّاهة تلك التي لا يقوى على مخالفتها جبابرة التاريخ، نداهة الحب والحرية، فلبست شاله الأحمر ووقفت عند شاطئ بيروت، أغمضت عينيها مستسلمة لكل ذاك النداء المجنون، واستيقظت لتجد نفسها هناك في ذاك الألق اللامتناهي، وجدت عيون سمير…
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]