غزّة آخر الحروب؟ عند تغيير الدول احفظ رأسك

حجم الخط


كتب شارل جبور في “المسيرة” – العدد 1746

غزّة آخر الحروب؟

عند تغيير الدول احفظ رأسك… لو كان القرار لبنانيًا!

 

أكدت حرب غزة المؤكّد بأن فريق الممانعة في لبنان لا يأبه لوجود الدولة ولا يكترث لرأي اللبنانيين، ولا يقيم أي وزن للشراكة والمساواة والميثاق، ولا يحترم القرار 1701 ولا الشرعية الدولية، إنما يُصرّ على إقحام البلد في حروبه ومغامراته تنفيذاً لأجندته الإقليمية، الأمر الذي يُبقي لبنان في حالة اللادولة وعدم الاستقرار المستمر منذ العام 1969، تاريخ التوقيع على اتفاق القاهرة.

لا أحد في لبنان ينكر على الفلسطينيين حقهم في دولة سيدة وحرة ومستقلة، والمشكلة كانت في الخلط بين هذا الحقّ غير القابل للنقاش، وبين حرمان اللبنانيين من حقهم في دولة، خصوصًا أن من حرم الفلسطينيين من حقهم ليس اللبنانيين ليتم الانتقام منهم وتحويل أرضهم إلى أرض محروقة.

فالقضية الفلسطينية حقّ على غرار قضايا أخرى غيّبتها المصالح والمحاور والخرائط، والقضية اللبنانية حقّ أيضًا والأولى باللبناني أن يدافع عن قضيته، كما الأولى بالفلسطيني أن يدافع عن قضيته على غرار الكردي والأرمني والأوكراني إلخ…

ويجب التمييز دائمًا بين التضامن الإنساني المشروع مع القضايا المحقة وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وبين إحدى أبرز الأزمات التي عصفت وتعصف بلبنان هي تحويله إلى ورقة وساحة للصراعات والنزاعات والرسائل، الأمر الذي حرم اللبنانيين من حقهم في دولة واستقرار وازدهار، والمعضلة الأساسية التي تعاني منها الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية وغيرها تكمن في تحويلها إلى رهينة لدى الممانعة وسياساتها.

يعيش اللبنانيون اليوم الأزمة الثالثة الكبرى بعد أزمة الثورة الفلسطينية التي انتهت في العام 1982، وأزمة الاحتلال السوري التي انتهت في العام 2005، والأزمة الثالثة كناية عن ثورة إيرانية تُمسِك بمفاصل الدولة في لبنان عن طريق “حزب الله”، وهذه الأزمة مستمرة منذ العام 2005 إلى اليوم، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل المفاعيل السياسية لحرب غزة لن يتجاوز حدودها التفاهم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أم ستشمل لبنان أيضًا والمنطقة برمتها استطرادا؟

لا شك أن ما يحصل منذ العملية العسكرية لحركة “حماس” في 7 تشرين الأول فاق التوقعات بسبب خروجه عن القواعد المرسومة منذ سنوات، ويُنذر بخلط أوراق واسع خصوصًا مع الانخراط الدولي في الصراع من الموقع المؤيد لإسرائيل والداعم لها، ويتركّز جوهر هذا الصراع بين منطقين: المنطق الدولي الساعي إلى جعل حرب غزة الحرب الأخيرة في المنطقة وأن تفتح الباب واسعًا أمام حلّ الدولتين والسلام العربي والإسرائيلي، والمنطق الإيراني الذي همُّه الأوحد إبقاء القديم على قدمه، أي أن تنتهي الحرب كما بدأت من دون أن تخسر أذرعها وأوراقها وتأثيرها في الساحتين الفلسطينية واللبنانية.

ويبدو من الصعب أن يبقى القديم على قدمه كون عملية “حماس” ارتقت إلى التهديد الوجودي بالنسبة لإسرائيل التي ربطت بين وجودها ووجود “حماس”، أي في حال استمرت الأخيرة يعني أن الأولى إلى زوال، وحشدت المجتمع الإسرائيلي خلفها وشكلت حكومة حرب وحظيت بالتأييد الدولي، ولن توقف الحرب قبل إخراج “حماس” من غزة وتدمير بنيتها العسكرية.

ويجب التمييز دائماً بين الهدف ولو كان يرتقي إلى هدف وجودي، وبين القدرة على تحقيقه عسكريًا وسياسيًا، إذ تبقى احتمالات الفشل قائمة ولو كانت ضئيلة، لأن الخطر الذي شعرت به يجعلها تستشرس عسكريًا وعلى استعداد لتقديم التنازلات السياسية، بما يفسح في المجال أمام قيام دولة فلسطينية، إلا أن الأمور مرهونة دائمًا بخواتيمها.

وأما التساؤلات التي لا إجابة عنها بعد: هل تتخلى إيران عن “حماس” ولو أدى ذلك إلى خسارتها للورقة الفلسطينية الاستراتيجية؟ وهل دخول “حزب الله” في المواجهة العسكرية المفتوحة يمكن أن يبدِّل في الهدف الإسرائيلي القاضي بإخراج الحركة من غزة، أم سيقتصر على تأخير الهدف وتعريض الحزب نفسه لحرب وجودية؟ وهل يمكن أن تبادر تل أبيب إلى استهداف الحزب عسكريًا حتى لو لم يبادر إلى استهدافها كونها تعلّمت من “حماس” ولا تريد أن تُبقي خطرًا على حدودها؟ وهل تجرؤ طهران على دخول الحرب في ظل الأساطيل الأميركية؟ وهل ما بدأ عسكريًا في غزة ينتهي في غزة ولكن مفاعيله السياسية تشمل المنطقة برمتها؟ وهل حرب غزة ستعيد ترسيم حدود الدور الإيراني إلى داخل الجغرافيا الإيرانية بالحد الأقصى والعراقية بالحد الأدنى؟ وهل بدأ المسؤولون الإيرانيون بالترداد في قرارة نفسهم ما قاله السيد حسن نصرالله علناً في العام 2006: لو كنا نعلم أن عملية “حماس” ستؤدي لهذا الانقلاب في المنطقة لما كنا سمحنا بالقيام بها.

من الصعب جدًا أن تبقى المنطقة على الستاتيكو نفسه الذي كانت عليه قبل 7 تشرين الأول، وهذا الستاتيكو مستمر عمليًا منذ 11 أيلول 2001 وإسقاط نظامي طالبان وصدام وتمدُّد النفوذ الإيراني تحت أعين الأميركي كردّ فعل على “داعش” بمعاقبة السنّة وترييح إيران الشيعية. ويبدو أن حرب غزة كالنقطة التي أفاضت الكأس المعبأة من السياسة الإيرانية بدءًا من النووي وصولاً إلى دورها المزعزع للاستقرار والرافض الانخراط في السياسة الدولية، فيما المملكة العربية السعودية بقيادتها الجديدة نجحت في طي تداعيات صفحة 11 أيلول من العقل الأميركي ورد فعل الأخير الخاطئ بتعويم طهران ضد الرياض والتي أظهرت أنها الشريك القادر على محاربة الإرهاب وإرساء الاستقرار وصياغة مستقبل جديد للمنطقة، خصوصًا مع إبداء استعدادها للتطبيع شرط الوصول إلى حل الدولتين.

والتحوّلات الكبرى في التاريخ غالبًا ما تحصل نتيجة أخطاء غير محسوبة وتؤدي إلى رد فعل خارج عن المتوقّع، وهذا ما حصل مع اجتياح صدام حسين للكويت والذي أدى إلى تغيير وجه المنطقة، وأوّل من دفع الثمن كان لبنان بوضعه تحت الوصاية السورية، وجاءت عملية 11 أيلول لتخرج المارد الإيراني من قمقمه، وبالتالي هل ستكون حرب غزة محطة على طريق إعادة هذا المارد إلى القمقم؟

وعندما تتحدّث إسرائيل عن هولوكوست جديد، فيعني أنها تريد أن تستثمر إلى أبعد الحدود بعملية “حماس” العسكرية مستفيدة من الدعم الأميركي والأوروبي، وصولاً إلى إبعاد الخطر الإيراني من داخل جغرافيتها (حماس)، ومن حدودها مع لبنان (حزب الله)، ومنعها من إستخدام الجغرافيا السورية الخاضعة للنيران الإسرائيلية. وهذا يعني أن الصراع مبدئيًا على أشده بين السعي إلى إخراج النفوذ الإيراني من الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية، وبين سعي طهران إلى إبقاء القديم على قدمه.

ويستحيل أن تسلِّم طهران بسهولة بإخراجها من الملف الصراعي مع إسرائيل والذي استثمرت فيه على امتداد أربعة عقود، ويستحيل بالمقابل أن تتراجع إسرائيل عن هدفها إزالة المخاطر التي تهدِّد وجودها، وفي حال لم تنجح بذلك تتفكّك مستوطناتها تلقائيًا ويشعر كل يهودي بأن لا مستقبل له في إسرائيل، وما تقدّم يشكل أقوى دليل على ضخامة الصراع الحاصل، ويؤشر إلى أن طهران لن تتردّد في استخدام كل أوراقها وفي طليعتها «حزب الله» دفاعًا عن مشروعها الذي يصعب استمراره في الصيغة التي كان عليها قبل 7 تشرين.

وأكثر ما ينطبق على واقع محور الممانعة اليوم معادلة lose-lose، ولكن هل يكتفي بالحدّ من الخسائر عن طريق الديبلوماسية ومحاولة المقايضة وإعطاء التطمينات، أم يذهب إلى مواجهة مفتوحة على طريقة الغالب والمغلوب؟

إذا كان من الصعب رسم الصورة النهائية للمشهد المرتبط بشكل أساسي بالتطورات العسكرية، إلا أنه من الأكيد أن الوضع في المنطقة ولبنان سيكون مختلفاً عما كان عليه قبل 7 تشرين، ومن الآن إلى حين تبلور معالم المشهد السياسي الشرق الأوسطي كان أفضل شعار لهذه المرحلة لو لم يكن القرار الاستراتيجي في لبنان بيد الممانعة: عند تغيير الدول إحفظ رأسك، فالمنطقة دخلت في مخاض كبير وعسير واندفاعة دولية إستثنائية، فهل ينجح لبنان بحفظ رأسه أم يتم توريطه بحرب لا تقدِّم ولا تؤخِّر سياسيًا سوى تدفيع الشعب اللبناني مرة إضافية ثمن صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل؟

 

شارل جبور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل