تناول الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصرالله في خطابه من بعد ظهر الجمعة الفائت، مسار عملية “طوفان الأقصى” التي انطلقت في السابع من تشرين الأول المنصرم وما تبعها من تطوّرات، حيث فنّد بدايةً الأسباب الموجبة التي أملت على حركة حماس القيام بهذه العملية، فوضعها في إطار من أربعة ملفّات ضاغطة.
في الملف الأول، اعتبر نصرالله أنّ “مسألة الأسرى وازدياد أعدادهم والتضييق عليهم وعائلاتهم ما جعل الأمور الانسانية سيئة جدًا”، أوجب هذه العملية، وفي عودة إلى آخر تقرير صدر عن وكالة “وفا” للأنباء والمعلومات الفلسطينية قبل عملية “طوفان الأقصى” بأربعة أيّام، يتبيّن أنّ عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية قد بلغ ٥٢٥٠ أسيرًا بينهم ٣٩ أسيرة و١٧٠ طفلًا و١٩١٣ معتقلًا إداريًّا، في حين أنّ المتحدّث بإسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أشرف القدرة قد أعلن قُبيل إطلالة أمين عام “الحزب” بأنّ عدد ضحايا الهجمات الاسرائيلية على قطاع غزة جرّاء “طوفان الأقصى” قد ارتفع إلى ٩٢٢٦ قتيلًا بينهم ٢٤٠٥ إمرأة و٣٨٢٦ طفلًا، إضافةً إلى ٢٣٥١٦ مُصابًا.
هذه الأرقام التي تُثبّت فضاحة الإجرام الإسرائيلي، تُشير بما لا يقبل الشّك إلى كارثيّة النتائج التي لحقت بأهالي قطاع غزة جرّاء عملية “حماس”، ما يطرح استفهامًا مباشرًا حول صوابيّة تبرير نصرالله لانتصار العملية المذكورة، فإن كان هدفها الرئيسي كما يُكرّر الناطق بإسم كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، المُلقّب بـ”أبو عبيدة”، هو “تبييض سجون الاحتلال من كافّة الأسرى الفلسطينيين”، هل من المنطقي أن يكون الثّمن جرّاء ذلك التضحية بالشعب الفلسطيني بما يوازي ضعف عدد الأسرى (حتى تاريخ الجمعة)؟ وهل من الجائز أن يُبرّر أمين عام “الحزب” ذلك في فلسطين، في حين أنّ “انتصاره” (كما يُطلق عليه) في حرب تموز ٢٠٠٦ بعد نجاحه بإطلاق سراح أربعة أسرى لبنانيين وتسليم رفات ٢٠٠ فسلطيني ولبناني، قد ندم عليه، بقوله “لو علمنا بحجم الرد الإسرائيلي لما خطفنا الجنديين”، حيث تكبّد لبنان خسائر فادحة بمليارات الدولارات، يُضاف إليها آلاف الضحايا بين قتلى وجرحى، عدا عن قرابة المليون نازح لبناني.
في الملف الثاني، أشار نصرالله إلى أنّ “ما تعرّض له المسجد الأقصى في الأسابيع الماضية” كان دافعًا من دوافع العملية، التي أصرّ على تأكيد عدم علمه واستطرادًا طهران بها، في حين لم يُشر في خطابه إلى كيفيّة تغيّر المعادلة حول هذا الدافع، خاصّةً أنّ التضييق الاسرائيلي قد ازداد شراسةً حول “الأقصى”، ولم تؤدِّ العملية أقلّه حتى كتابة هذه الأسطر سوى إلى مزيدٍ من اشتداد الخناق في كلّ الأراضي الفلسطينية.
في الملف الثالث، تطرّق نصرالله إلى أنّ “الأوضاع الصعبة الحياتيّة والمعيشيّة لأهالي غزة” كانت من الأسباب التي أوجبت “طوفان الأقصى”، فهل إنّ الدّمار الذي لحق بكلّ القطاع، والمجازر التي ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين والتشريد الذي طالهم، قد حسّن من أوضاعهم الصّعبة؟ وهل إن طرد إسرائيل لقرابة ١٨ ألف عامل فلسطيني بعد عملية “طوفان الأقصى” كانوا يضخّون مئات ملايين الدولارات للقطاع بما يفوق بأضعاف مجمل مداخيل السلطة الفلسطينية قد صبّ لصالح الشعب الفلسطيني الذي بات دون مأوى ولا مأكل ولا مشرب والآلاف من شبابه دون عمل؟
أمّا الملف الرابع فهو “ازدياد الاستيطان والقتل والاعتقال اليومي وهدم البيوت في الضفة الغربية”، فهل فات نصرالله أن يطلع على بيان وزارة الصّحة الفلسطينية، والذي يُشير إلى أنّ عدد الضحايا الذي خلّفه الردّ الاسرائيلي الممتدّ إلى الضفة، قد بلغ في بداية هذا الشهر، أكثر من ١٢٥ قتيلًا و٢٠٥٠ جريحًا.
ويخلص أمين عام “الحزب” في استعراضه الملفات التي أوجبت هذه العملية، إلى اعتبار أنّه “كان لا بُدّ من حدث كبير يهزّ الكيان الغاصب وكلّ داعميه”، فهل فاته أنّ عملية “طوفان الأقصى” قد حوّلت رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو من “خصمٍ لشعبه” يتلقّى معارضة جماهيرية من الاسرائيليين وسط حركات اعتراضيّة متعاظمة بوجهه، إلى “ضحيّة تتلقّى التضامن العالمي” كما استثماره العملية ليُحوّل المعارضة الداخلية عليه إلى التفاف شعبي تُرجم بتشكيل حكومة طوارىء ضمّت إليه زعيم معسكر الدولة المعارض بيني غانتس، هذا يُضاف إلى تلقّي حكومته مساعدات خارجية بلغت مليارات الدولارات؟
على المقلب الآخر، وخلال قراءته لمسار العملية، وقع نصرالله في جملة من الازدواجيات التي تستوجب التوقّف عندها، ففي حين اعتبر أنّ “المعركة تُثبت أنّها فلسطينية بالكامل من أجل فلسطين وملفّاتها وشعبها ولا علاقة لها بأيّ ملف في المنطقة”، يعود وفي سياق خطابه إلى التأكيد أنّ “انتصار غزة هو مصلحة وطنية مصرية وأردنية وسورية وأوّلًا قبل كلّ الدول هو مصلحة وطنية لبنانية”، فكيف به يُلبس المعركة رداءً فلسطينيًّا خالِصًا ومن ثمّ يعود ويربط نتائجها بالمنطقة؟ فهل هو بذلك يؤكّد التوجّه الإيراني في المنطقة الذي يسعى إلى زعزعة الخصوم بأدوات غير مباشرة ولكن استثمار النتائج بشكل مباشر، أيّ المفاوضة على ظهر الدماء الفلسطينية دون الانغماس في عمق المعركة، وترك الباب توازيًا مفتوحًا للتنصّل من “الهزيمة” إن وقعت، عبر القول أنّ هويّة المعركة بحت فلسطينيّة، خاصّةً أنّه أكّد أنّ قرار القيام بها لم يكن على دراية به، تمامًا كما قال أنّه لم يكن يدري بنتائج عمليّة اختطاف الجنديين الاسرائيليين في تموز ٢٠٠٦، ولا بما كان يحصل على مرفأ بيروت الذي يُسيطر عليه أمنيًّا، ولا كان يعلم بأنّ حكومته في لبنان قد تفاوضت مع الادارة الأميركية لإطلاق إثنين من مواطنيها في مرّتين متتاليتين؟
ومن الازدواجيات البارزة في كلام نصرالله، قوله أنّه “من الأخطاء التي ارتكبها الصهاينة ولا يزالون هو طرح أهداف عالية لا يمكنهم أن يُحقّقوها أو يصلوا إليها”، وهو بذلك يُصيب، ربطًا بإرادة الشعب الفلسطيني الثابت والصّامد في أرضه رغم كلّ ما يتعرّض له من ترهيب، لكن فاته أن يُعدّد الأهداف البارزة التي طرحها هو ومحوره “الممانِع” على مرّ السنوات، والتي ليس فقط قد تراجع عن المطالبة بها بل انقلب عليها بالكامل، فمن “إزالة اسرائيل من الوجود” في ١٣ آذار ٢٠٠٩ إلى تأمين غطاء الاعتراف بوجودها عبر ترسيم الحدود البحرية معها في لبنان في ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٢؛ ومن “إذا شنّت اسرائيل الحرب على لبنان سنعيدها إلى العصر الحجري” في ١٤ آب ٢٠٢٣ إلى “الحرب الشاملة في حال توسّع رقعة استهداف لبنان” في ٣ تشرين الثاني ٢٠٢٣؛ ومن “إنهاء الوجود العسكري الأميركي في المنطقة” في ٥ كانون الثاني ٢٠٢٠ إلى ربط استهداف الوجود الأميركي في المنطقة بوقف تمدّد العدوان على غزة في ٣ تشرين الثاني ٢٠٢٣.
وقد كان لافتًا دعوة نصرالله الدول العربية لوقف تصدير النفط إلى اسرائيل، متناسيًا أنّه هو مَن أمّن بنفسه الحقّ والأمن لاسرائيل نفسها لتواصل عملها في حقل كاريش.
أمّا في إصرار الأمين العام لـ”الحزب” على تأكيد أنّ مساندته لغزة من خلال “سحب ثلث الجيش الاسرائيلي” إلى الحدود الجنوبية اللبناينة ما أدّى إلى نزوح عشرات الآلاف من الشمال الاسرائيلي وإخلاء ٥٨ مستوطنة ما شكّل ضغطًا نفسيًّا وحياتيًّا واقتصاديًّا وماليًّا على الاسرائيليين، فهو يؤكّد توريطه للبنان في الحرب ولو بقيت حتى اللحظة في نطاق محافظة الجنوب، كما تجاهله للانعكاسات الكبرى التي تُرجمت بنزوح ١٠٠ ألف لبناني من الجنوب نحو بقيّة المناطق اللبنانية، عدا عن انعكاسات كارثيّة على الاقتصاد اللبناني المهترىء أصلًا، من شبه توقّف لحركة الطيران نحو لبنان وتراجع كلّي في الاستثمارات وهروب الشركات العالمية ومطالبة أكثر من ١٥ دولة لرعاياها بمغادرة لبنان وخسارة كلّ التعافي الجزئي الذي راكمه اللبنانيون خلال فصل الصيف الفائت وسلسلة من النكسات التي تفاقمت فوق رؤوس اللبنانيين حتّى اللحظة.
أمّا ذروة الاستغراب في كلام نصرالله، طلبه من الولايات المتحدة الأميركية التدخّل لوقف العدوان على غزة توازيًا مع تحذيره إيّاها، فهل أنّه يُقرّ ويعترف ولو بطريقة غير مباشرة أنّ عملية حماس اليوم تُشبه عملية تموز ٢٠٠٦ التي قام بها “الحزب” في الأمس، حين انتهى به الأمر إلى الضغط على الرئيس فؤاد السنيورة للضغط بالمقابل على المجتمع الدولي لإقرار القرار ١٧٠١ بما يُنهي الحرب، وعليه أين يكون قد تحقّق الانتصار في عملية يطلب وقف مسارها؟
وتكاد تكون ذروة التناقضات في مقاربات نصرالله لمسارات المنطقة، ربطه الدخول في الحرب الكبرى اليوم بشرط تمدّد الاعتداءات الاسرائيليّة في غزة ولبنان، في حين أنّه أعلن في ١٣ آب ٢٠١٣ أنّه مستعدّ لإرسال ١٠٠ ألف مقاتل إلى سوريا كما ذهابه شخصيًّا، عدا عن تنديده بقتل الأطفال الفلسطينيين اليوم وصمته عن قتل النظام السوري للأطفال السوريين في الأمس القريب.
خِتامًا، لا يمكن سوى الإضاءة على أبرز تناقض غلّف خطاب نصرالله الأخير، وهو ارتكازه في سرديّته على إرادة الشعب الفلسطيني، في حين أنّه تجاهل إرادة الشعب اللبناني ووجود الدولة اللبنانية برمّتها، فهل أنّ كلامه يُجسّد إرادة الفلسطينيين الذين شبعوا قهرًا وموتًا من مصادرة إرادتهم في ليالٍ وليالٍ ظلماء؟ لأنّ إرادة اللبنانيين واضحة وما نزوحهم بعشرات الآلاف وقلقهم الكبير وتنديدهم بجرّهم إلى معارك وحروب غير قادرين على احتمال نتائجها سوى الدليل الساطع على معارضتهم لها.