“تهافت الفلاسفة” و”تهافت التهافت” كتابان معروفان في أوساط مَن درس الفلسفة والمطلعين على الجدل عن بُعد في التاريخ والجغرافيا، وهما “جدل فلسفي” دار بين الفيلسوفَين “أبي حامد الغزالي” و”ابن رشد “، حول دور الفلسفة في المعرفة، أما كلمة “تهافت” فمعناها تساقط ووهن الأمر وعدم قدرته على الصمود في وجه الوجود والوقائع… فيُقال مثلاً، تهافت الثوب، أي بلي وأصابه اهتراء. أما في الحجج، فهو تعبير عن ضعف الحجة وابتعادها عن الصواب لعطب معرفي أو منطقي في صيغتها.
لن نطيل لندخل في مثل آخر عن بعض “التهافت” الذي تظهّر في قراءة ثنايا خطاب الثالث من تشرين الثاني من العام 2023 على لسان أمين عام الحزب حسن نصرالله، والتهافت الإعلامي والدعائي الذي روّج للخطاب موحياً بمضمون مزلزل مخالف لما صدر عن الخطيب.
نبدأ بالأولوية لدى أمين عام الحزب، وهي الدفاع عن إيران وتبرئتها من عملية طوفان الأقصى التي بدأت في 7 تشرين الأول من العام 2023، فاعتبر نصرالله أن إيران “تتبنى وتدعم وتساند علناً حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة، لكنها لا تمارس أي وصايه عليها على الاطلاق ولا على قياداتها ولا على قراراتها”.
و”تتهافت” هذه الجزئية الأساسية من الخطاب أمام وقائع وحقائق أوردها نصرالله نفسه بقوله في 27 نيسان من العام 2008: “أنا أفتخر أن أكون فرداً في حزب ولاية الفقيه”، وفي 11 تشرين الثاني من العام 2013 بتوضيحه، أنه “عندما نأخذ القرار، أو نمشي في أي درب، أو ندخل إلى أي ساحة، أو الى أي ميدان أو إلى أي قتال، نحن لا نلجأ إلى عقولنا، ولا الى علومنا ولا إلى مستوانا العلمي، ولا الى ولا الى… نحن نلجأ الى فقهائنا وكبارنا ومراجعنا، الذين هم على أعلى مستوى من الفقاهة والعلم والاجتهاد والتقوى والورع والأمانة والوعي أيضاً”. الأمر لم يتوقف لدى نصرالله عند هذا الحد، فقد أعلن في 24 حزيران من العام 2016 ما حرفيته: “نحن أكلنا وشربنا ومعاشاتنا وسلاحنا كله من الجمهورية الإسلامية في إيران”، ليكمل التهافت في خطابه بقول: “يهددونا بقصف إيران”، ليرد بتذكير الأميركيين بخطف رعاياهم في لبنان وتفجيرات السفارة الأميركية والمارينز في الثمانينات بقوله :”ومن هزمكم في لبنان في الثمانينات ما زالوا على قيد الحياة ومعهم أولادهم وعائلاتهم اليوم”، لتتهافت هذه الجزئية أيضاً مع دأب الحزب بمسؤوليه، على نفي مسؤوليته عن الخطف والتفجيرات الآنفة الذكر سابقاً…
“تهافت” لا يقل أهمية عن الذي ذكرنا، هو في المسوّغات الشرعية الإنسانية الدينية والأخلاقية لمعركة “طوفان الأقصى” إذ قال نصرالله: “لو أردنا أن نبحث عن معركة كامله الشرعية من الناحية الإنسانية، ومن الناحية الأخلاقية، ومن الناحيه الدينيه، لن نجد معركة كمعركة القتال مع هؤلاء الصهاينة والغزاة المحتلين لفلسطين على المستوى الأخلاقي وعلى المستوى الشرعي، ولذلك هي من أوضح وأعظم مصاديق القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى”… وأيضاً كان لنصرالله نفسه دليل وبيان على وقوعه في التهافت في ما قاله في 3 تشرين الثاني من العام 2023 وذلك بقوله في 14 تشرين الثاني من العام 2013: “إن وجود مقاتلينا ومجاهدينا على الأرض السورية، هو وكما أعلنّا في أكثر من مناسبة، بهدف الدفاع عن لبنان والدفاع عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية”، ليقول بشكل أوضح وأفضح في 1 آذار من العام 2016: “إذا هلق بتقلّي أشرف شي عملتو بحياتك، أفضل شي عملتو بحياتك، أعظم شي عملتو بحياتك، بقلك هوّي الخطاب الذي القيته في اليوم الثاني من الحرب السعودية على اليمن والذي نفعله الآن، وهذا أعظم من حرب تموز… شعب اليمن شعب مظلوم تجاوز بمظلوميته الشعب الفلسطيني”.
وهناك تهافت آخر بيّنه نصرالله نفسه وفي نفس الكلمة، فبعد أن قال عن المعركة إنها “فاصلة حاسمة تاريخية”، واعتبر “التضحيات القائمه الآن في غزة وفي الضفة وعلى كل الجبهات تضحيات مستحقة، هذه الإنجازات وهذه النتائج وهذه التداعيات تستحق كل هذه التضحيات… وضع لهذه الحرب هدفان ينبغي العمل عليهما في الليل والنهار وهما:
الأول: وقف العدوان على قطاع غزة ووقف الحرب على قطاع غزة.
الثاني: أن تنتصر غزة، وأن تنتصر المقاومة الفلسطينية في غزة وأن تنتصر حماس بالتحديد في غزة”.
ثم عاد وأوضح بعدها حقيقة ما قصد بقوله: “نحن جميعاً منذ قيام المقاومة، بعد قيام الكيان، نخوض معركة صمود. معركتنا لم تصل الى مرحلة الانتصار بالضربة القاضية وما زلنا نحتاج الى وقت حتى نكون واقعيين، ولكننا ننتصر بالنقاط، ننتصر ونغلب بالنقاط. هكذا انتصرت المقاومة في لبنان بالـ85 وبالألفين وبالـ2006، وهكذا انتصرت المقاومة في غزة”.
وكأني به يقول إن عشرات آلاف الضحايا ومليارات الدولارات التي يطالب نصرالله اللبنانيين والفلسطينيين بتقديمها، هي من أجل “انتصارات مرحلية” وتسجيل نقاط على العدو، تماماً كمثل “تهافت” الناطق الصحافي الصحّافي بلسان نصرالله ومحوره ابراهيم الأمين بقوله: “مش استخفاف بالدماء، في 50 الف إمرأة فلسطينية حامل، يعني بالشهر بخلفوا 5500 طفل، وبشهرين انشالله الفلسطينيين بيعوضوا عن كل الشهداء لي راحوا”، فـ”السيّد” و”الأمين” يعتبران الضحايا أرقاماً تسجّل نقاطاً.
وفي الإطار نفسه وضرورة تقديم “الضحايا والأضاحي” على مذبح “النقاط” لمصلحة المحور الذي تترأسه إيران، ركّز أمين عام الحزب على واجب وإلزامية الصمود في غزة ولبنان، وهنا يظهر “تهافت” هذه الجزئية أيضاً بكلامه في 25 أيار من العام 2013 عن غياب أي من مقوّمات الصمود ومدحه وإعجابه بالعدو الإسرائيلي، لاهتمامه بجبهته الداخلية والملاجئ وأجهزة الإنذار، وسخريته من الجبهة اللبنانية التي تفتقد لأدنى تلك المقوّمات… ومع أن نصرالله في خطابه “المتهافت” ذكر أن العدو لا يتعلّم ولا يراجع أخطاءه، فقد قال هو نفسه في خطاب العام 2013: “رأوا نقاط الضعف أين، والنواقص أين وأين، عالجوها في السنة الثانية والثالثة وسادس سنة”.
تهافت آخر أصاب الخطاب هو في “تحييده” فرنسا عن الهجوم على الغرب، بمهاجمته أميركا وبريطانيا وبعض دول الغرب من دون تسمية فرنسا بالإسم، علماً أن الموقف الفرنسي لم يشذ عن مواقف الدول الغربية جميعاً في تأييد إسرائيل وإدانة حماس… وفي هذا طبعاً مصلحة إيرانية “نفطية ـ توتالية”، تُصرّف أيضاً بالدم.
أخيراً وليس آخراً، ليس الوقت ولا المكان لتعداد كل “السقطات والتهافتات” في خطاب نصرالله الذي تأخر شهراً لنستخلص منه أن كل ما يقدّمه اللبنانيون وسيقدمونه من تضحيات وأعباء ودماء، هو من أجل “تخفيف الضغط عن غزّة”، وتعبيراً عن “تضامننا مع شعبها ومقاومتها”، لتسجّل كما قال “نقاطاً” على العدوّ التاريخي المستمر بارتكاباته.