كم هي عجيبة أعمال يديك يا ربّ وكم هي بناءة الغايات والأهداف، أعمالك نشاهدها ونشهد كيف تضعها بين أيادي بنَّائين اخترتهم فعلة بناء لما تختاره أنت لهم، فيكون فائدة للجماعة أكانت من العالم أو من المختارين، للخروج منه إلى ديار وأديار الترهُّب والاعتزال على أسمك وحدك. عمّالك وفعلتك درَّبتهم يداك الخفية على كيفية وضع أحجار الأساسات في رأس زاوية أي بنيان أرادته مشيئتك مرتكزاً أساسياً مركزياً لإعلان اسمك بين الشعوب وإذاعة كلمتك للأمم، فتكافئ هؤلاء الأمناء وتدون أسماءهم في سفر الحياة!
شمال شرق دير مار أنطونيوس قزحيا ترتفع على رجاء الكلمة الميلادية، عمارةٌ قديمة الأعوام والأيام تجاور أشجار الصّنوبر الجويّ وتحاور طيور الوادي المترهِّبة في أعبابه الخضراء، هي العمارة الصَّامدة من الإرث الهندسي العريق للدير القديم، شيَّدها رهبان أتقياء العقل أنقياء القلب كي تكون منتجعاً للفكر السماوي ومرجعاً لكتب بيعيَّة ديريَّة اختصاصها الجوهري تزويد الأجيال الرهبانية المتعاقبة بصلوات هي جوهر ما يطلبه ويبتغيه ويتمناه المدعوون لخلاص نفوسهم ونفوس الآخرين.
هي العمارة الكتابية المهندسة المبنى والمعنى هندسة مستوحاة من مقدمة إنجيل يوحنا الحبيب الميلاديّ ذي الشَّاعرية الألوهية الكينونيّة: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”. هي العمارة المعروفة رهبانياً وعند عامة زوار وادي كنز الحياة “بالمعرمة”!
الأول من كانون الأول من العام 1828، لبس طالب الرهبنة يوسف جرجس كسَّاب الحرديني ثوب الابتداء على يد رئيس دير مار أنطونيوس قزحيا الأب مكاريوس الشحروريّ متخلياً عن اسمه الوالدي، مختاراً نعمة الله أسماً رهبانياً له.
طوال سنتي ابتدائه في دير قزحيا، انصرف الأخ نعمة الله إلى توجيه وتصويب محراث دعوتِه المتماسكة إلى أي حقل رهبانيّ يختاره داعيه الإلهي له، من دون أدنى تلفُّت إلى الوراء، فانجذبت أنظار الفتى الحرديني إلى باب المعرمة وبنايتها الحجرية الأشبه بالقلعة، ودخل بابها وتعرَّف على قلعة تحرس الكتب المنذورة لطالبي لغة الرب والملائكة المتشوقة لأيادي تجمع أوراقها ورقة ورقة، ثم تعرمها فوق بعضها بتناسق دقيق ثم تخيّط أُطرها وتجلّدها بجلدٍ أصليّ، تجليداً يحفظها ويحميها ويجنِّبها مهالك تراكم الغبار والرطوبة والعفونة والتآكل. سجلاَّت تلك المعرمة التطويبية قد سجَّلت وذكرت بأنَّ الأخ نعمة الله كسّاب الحرديني كان أمهر مَن عَرَم الكتب وصقلها بخيطان خياطته الحاذقة وجلَّدها وأخرجها أيقونات تخشع في حضرتها عقول وعيون ونفوس قرَّائها، والحرديني الشّاطر في خلاص النفوس نقل معه عشقه لتعريم الكتب المورثة من برارة الآباء والأجداد، إلى دير مار شليطا القطارة حيث اجترح آية تفوير المونة الديرية الشحيحة، كما إلى دير مار قبريانوس ويوستينا حيث اجترح المعلم والملفان آية تخريج تلامذة للكهنوت المقدس كان ألمعهم تلميذه شربل مخلوف الذي اعترف لمعلمه قديس كفيفان: “قدَّيشو حظي كبير يا معلمي أنا الفلاح البقاعكفري البسيط كون تلميذ من تلاميذك”.
وطوال سنوات مفصلية دُعي فيها الحرديني الهمّام لحمل صليب المدبرية، في زمن كانت تجتاز فيه الرهبانية جلجلتها الأليمة، لم يتخلَّ فيها الأب المدبر نعمة الله كسّاب الحرديني عن محبوبتِه الدائمة المتمثلة بكتبه المعرومة، التي تعلَّمها وورثها من الأخ المبتدئ نعمة الله كسّاب الحرديني، أشطر تلامذة كليَّة معرمة دير قزحيا!!
“طوبى لمن يسمعون كلام الرب ويعملون به”. رهبان الرهبانية العِتاق المُعتَّقين بأصداء برية رنين جرسة أبيهم أبي الرهبان من هذه الآية الوصية، انطلقوا إلى طلب ملكوت الله وبِرَّه تساعدهم وتساندهم وتلهمهم بريَّةٌ قزحيَّاويّة، منها يرفعون صلوات، كلماتُها استوحت الإنتاج الإنجيليِّ من أبجدية حبات الحنطة المختارة للتربة الجيّدة، فأبدعوا في إغراء ملائكة السماء للنزول والوقوف وقفات التسابيح والتهاليل والمزامير!
“الشحيم” الرهباني الديري الذي طالما تحلَّق حوله كدائرة الشعاع الديريّ أولئك المتوشِّحون بالأساكيم الأنطونيوسية، وكتاب “حاشو”، أي الآلام المخصّص لصلوات أسبوع الصّلب، وكتاب “فنقيطو” أو المُتعبّد الحافظ صلوات روزنامة جميع القديسين، وكتاب السنكسار الأمين طوال أيام وأشهر السنة على سيَرِ الأبرار والصديقين والمعترفين والشهداء والعذارى الحكيمات، وكتب البستان الرهباني وأمجاد مريم والإفراميات والمزامير وأخواتها، هي ذخائر نفائس أتت بها معرمة دير قزحيا من مطبعة دير قزحيا، لتضعها مع لُغَّتيها السريانية وحروفها الكرشونية بتصرُّف آباء وأخوة فضَّلوها وحدها من بين جميع كتب ومجلدات العلوم الدنيوية وفلسفات فلاسفة هذا الدهر وآداب أدباء هذا العالم وشعرائه. كتب معرمة قزحيا كانت المقصد الوحيد لطالبيها المؤمنين، بأنها مصدر الشهادة التي يسعى إليها وحدها طلاّب القداسة وعشّاق فردوس الأجساد النّورانية!
زمن الدروب السهلة والحلول المرتجلة والتَّرجمات البعيدة عن لغة ينابيع الروح وزمن تعريم الصدور بألقاب البروفسورية والدَّكترة، تم سحب ميراث الكتب المعرومة داخل معرمة دير قزحيا، لأجل إحالتها القسرية التهجيرية إلى رفوف متاحف الأقبية الديرية بحجة جهل أبناء هذا الجيل باللغة الآرامية السريانية، لغة الرب يسوع والآباء القديسين، ومن نكبة هذا التدبير المتحفي المُتسرِّع تم دفن مئات صلوات شعرية آراميّة مصاغة بمواهب الروح القدس مع مئات ألحانٍ سارافيميَّة، تربط مسامع الأرضيين بمسامع السماويين. صلوات وألحان نذرت اعراباتها وعُرب أنغامها في تذكار يومي للثالوث الأقدس المتجسد بالآب والابن والروح، وللأم مريم والشهداء والعذارى والمُعترفين، كما لتذكار دائم للمنتقلين من بيننا إلى الأعالي التي لا يطأها الموت ولا يدنو منها الفناء!!
معرمة دير مار أنطونيوس قزحيا، يا جامعة العلوم السماوية، يا موقِّعةً على شهادات أصفياء قدوس القديسين، سامحينا على جهالتنا المُظنون أنها نبوغنا، وتشفَّعي لعودتنا آمنين إلى جرار ماء القائل للمرأة السّامرية: “أنا هو الماء الحيّ”!