البلديات تتحرك على خط النزوح 

حجم الخط

كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1746

البلديات تتحرك على خط النزوح 

… حتى لا يتحوّل احتلالا 

 

في بداية تدفق العائلات السورية التي نزحت إلى لبنان هربًا من جحيم الحرب التي كانت تجتاح سوريا منذ آذار في العام 2011، نشأ تعاطف إنساني من جهة، وكان ذلك واقعيًا، كما نشأ في المقابل جدال حول ما إذا كان هذا التدفّق هو لجوء أم نزوح، وخضع الوضع برمّته لتجاذب سياسي واستغلال فئوي دفع أعداد الوافدين إلى مزيد من الفوضى والبلد إلى مزيد من الإرباك. بعد 12 عامًا على تلك الحرب وتطوراتها وإقامة السوريين في البلد الجار المضيف، دخلت إلى قاموس التوصيف عبارات أخرى مثل وجود واحتلال وغيرهما. وبدأت تتنامى الأسئلة عن التداعيات الأمنية والديمغرافية والأوضاع القانونية لهؤلاء، وتتنامى معها المخاوف، بعدما كان الاهتمام مقتصرًا في البداية على المسائل المعيشية والصحّية التربوية.

أسباب عديدة ساهمت في تفاقم مخاطر الوجود السوري في لبنان وتناميه المطّرد، منها استمرار التدفق غير الشرعي بما بات يُعرف بموجة النزوح الثانية، والزيادة العالية في الولادات والتي بلغت خمسة أضعاف تلك المسجّلة لدى اللبنانيين. بالتوازي ونتيجة لهذه الزيادة تفاقمت كل العوامل المتصلة بالنزوح، فارتفعت معدلات الجرائم التي يرتكبها النازحون، وزادت المخالفات في تنظيم الأوضاع القانونية لإقامة وعمل هؤلاء، كما زاد الضغط على فرص العمل النادرة أصلاً لدى اللبنانيين بعد الانهيار الاقتصادي. وذلك علاوة على ارتفاع الضغط على البنى التحتية والخدمات والمدارس والمستشفيات وغيرها.

 

هل تنجح البلديات مكان الدولة؟

صحيح أن أعداداً كبيرة من النازحين السوريين منتشرة في دول جوار سوريا ومنها تركيا والأردن، لكن المخاطر في لبنان أعلى وأسباب ذلك معروفة. ففي تركيا والأردن تقوم حكومتا البلدين بتنظيم النزوح وضبط الحدود والوجود. سواء لناحية العدد الممكن استيعابه أو لتنظيم الأوضاع الإنسانية أو منع المخالفات والفوضى الأمنية. أما في لبنان المشرّع الحدود فلا مَن يضبط موجات التدفّق المتواصلة ولا مِن دولة تتابع مسألة الوجود وتنظمها، علاوة على الاستثمار الذي توظفه قوى فاعلة في ما يخدم مخططاتها من غير مبالاة بالعواقب الوخيمة على مستقبل البلد وأبنائه.

هذا الغياب شبه الكامل للسلطة المركزية ألقى بالمسؤولية في أحضان السلطات المحلية. فتلقفت البلديات الأمر، لكن من دون إمكانيات مادية كون أموالها محجوزة في الصندوق البلدي المستقل وما توفّر من أموال في صناديقها التهمه انهيار الليرة فما عاد يفي بأدنى المتطلبات. وتتراكم المعوقات وصولاً إلى عدم تجاوب السلطات الأمنية والقضائية المعنية مع مطالب البلديات لبلوغ الأهداف المرجوّة. ومع أن بلديات عديدة شكلت نموذجًا في حسن الإدارة المحلية لعملية تنامي أعداد النازحين وفوضى هذا الوجود، إلا أن بلدية القاع أعطت النموذج الأفضل والأكثر تنظيمًا ورؤيوية تجاه هذا الواقع… وإن كان ينطبق عليها المثل اللبناني القائل أن يدًا واحدة لا تصفِّق!

في هذا السياق يكشف رئيس بلدية القاع المحامي بشير مطر لـ”المسيرة” واقع الحال والإجراءات المتخذة والصعوبات القائمة، ويشير إلى أن “البلدية تتابع من سنوات وليس حديثًا مسألة تدفق السوريين وانتشارهم العشوائي سواء في المناطق أو المهن كلها تقريبًا، وبتنا نكرر هذه المناشدات كل يوم. ثمّة من يلقي بالأمر برمّته على البلديات في حين أن المسألة أكبر من ذلك. فلو كان عدد النازحين في النطاق البلدي ألفًا أو ألفين لكانت ربما محلولة، لكن هناك حوالى 30 ألف نازح في منطقة القاع، والحدود مفتوحة. وهذا يعني أن هناك مشكلة صعبة الحل. حتى بالتعداد، فما نكاد ننهي المسح حتى تكون دخلت أعداد جديدة من النازحين وتغيّر الواقع على الأرض. وهذا يشكل ضغطًا كبيرًا على البلديات الفقيرة التي ليس لها موارد مادية لتتمكن من تشغيل موارد بشرية في عمليات المسح والمتابعة والتصرّف”.

ويشدد مطر أنه “حتى متابعة الملف السوري من الناحية القانونية والقضائية من البيئة للعمل للصحة وغيرها من قضايا، تحتاج إلى فريق مختص ويعرف وقادر على المتابعة. لكن الأهم هو التنسيق بين جميع المعنيين بالمسألة، إذ لا يمكن أن تكون البلدية متساهلة والجيش متشدد أو العكس، ولا يصح أن يكون القضاء متشددًا وجهاز أمني يغطي الموضوع. يجب أن يكون كل لبنان بقرار واحد وبإجراءات كاملة منسّقة. مثلًا عندما تعطي جهة ما بطاقة مكتوم القيد ويتبيّن أنها مزوّرة يتم التعاطي مع الأمر بخفة وبالمَونة ولا يعودون إلى الداتا، والأكثر أنه يُطلَق سراح الموقوف بعد أيام، علمًا أن العمل هو تزوير الجنائي. وبالتالي فإن أية إجراءات تتخذها البلديات لتكون حازمة ونافذة لا بد من أن تواكبها إجراءات من القضاء، من الوزارات، من الأمن العام والأجهزة الأمنية كافة”. ولفت إلى أهميّة أن تكون الإجراءات شاملة، “لأن الإجراءات على مستوى بلدية بعينها إذا نجحت فإن النازح يترك هذا النطاق البلدي وينتقل إلى منطقة أخرى لا تقوم سلطاتها المحلية بمثل هذه الإجراءات، فنكون نقلنا المشكلة من مكان إلى آخر ولم نحلّها. الحل يكون بالضبط أولاً ثم بترحيل غير قانونيي الإقامة ومن لا حاجة لهم إلى بلادهم، وهذا يتطلب مستوى أوسع من العمل”.

وأمل مطر ألّا تكون هذه الموجة مرحلية لا تلبث أن تخبت أو مجرد حملة إعلامية فقط، لأن المسألة خطيرة وتستدعي المتابعة. “فهناك من يسجِّلون على إسمهم غشًّا أكثر من إمرأة ويتقاضون عليهن مبالغ محددة، وهناك من يرتكبون الجنح والجنايات ويسرحون ويمرحون. وهنا يبرز السؤال ماذا يمكن أن نفعل تجاه هذا الواقع وكيف علينا أن نتصرّف؟ حدود العودة إلى سوريا مقفلة، ومن يريد المغادرة عبر البحر يدخل إلى لبنان، فلماذا لا يغادر من بحر سوريا أو عبر البر إلى تركيا والعراق؟ لماذا يسهّل النظام دخولهم فقط إلى لبنان ولماذا جميعهم من الشباب؟”

وكشف أنه حيال كل هذا الخطر والمعوقات وضعف الإمكانيات فإن “البلدية تتكل على المتطوعين لإنجاز المطلوب ولو بالحد الأدنى. لأنني أطمح إلى عمل أوسع وأفضل لو توفّرت لدينا القدرة على إحصاء الناس في شكل دوري وتكوين ملفات كاملة مما يساعدنا على مراقبة حركة كل نازح. نحن نقوم بذلك حاليًا ولكن في نطاق الممكن لأن لا إمكانية لضبط 182 ألف كيلومتر و42 ألف مقيم بينهم 33 ألف نازح سوري وحدود سائبة، فيما موازنة البلدية 55 مليون دولار أي حوالى 5 آلاف دولار، فماذا يمكن أن تعمل وأن تنجز؟”

ويختم أنه على الرغم من كل ذلك فإن على البلديات أن تعمل وأن بلدية القاع أجرت مسحًا لكل المعابر والنقاط الحدودية التي يدخل منها وافدون إلى لبنان وهي تنسّق مع الجهات الرسمية المعنيّة وكذلك مع المنظمات الدولية والجهات المانحة في مسعى جدّي وهادف للحد من خطر النزوح الذي بات يشكل تهديدًا حقيقيًّا على أكثر من صعيد. و”سنطلب مؤازرة قوى الأمن والجيش لكي تقوم بترحيلهم من المناطق الحدودية عملا بمقررات الاجتماع الأخير مع وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي. كما طلبنا ضبط مسألة تأجير النازحين بشكل أن يبقى فقط من تحتاجه بعض القطاعات للعمل وليس في سجله ارتكابات مخالفة للقانون”.

 

إجراءات موضعية لقضية شاملة

إلى جانب ذلك بدأت أيضًا سلطات محلية غير بلدية مثل القائمقاميات باتخاذ إجراءات ولو ظرفية لكنها تصب في غاية ضبط الإنفلاش الناتج عن النزوح العشوائي. فمثلاً أصدر قائمقام زغرتا إيمان الرافعي تعميمًا الى بلديات القضاء ومخاتير القرى التي ليس فيها بلديات، حول تنظيم وجود النازحين السوريين.

وطلب التعميم “إيداع القائمقامية وبالسرعة القصوى (خلال مهلة عشرة أيام)، نتائج المسح والتعداد للنازحين السوريين القاطنين ضمن النطاق البلدي وتكليف من يلزم إجراء الكشف الفوري على أماكن سكنهم والتشدد في إزالة التعديات على البنى التحتية وإنذار المحال المستثمرة من قبل نازحين سوريين من دون حيازة الترخيص القانوني بوجوب الإقفال فورًا، كما وإنذار كافة المؤسسات والمصانع العاملة”.

وتمت الدعوة إلى اجتماع مع رؤساء البلديات والمخاتير المعنيين وقادة الأجهزة الأمنية في قضاء زغرتا لمتابعة تداعيات هذا الموضوع على القضاء.

كذلك أصدر قائمقام البترون روجيه طوبيا قرارًا قضى بإزالة الأكشاك والخيم والمحلات التي تبيع القهوة والمياه وغيرها من الحاجيات، من جوانب مسلكي الأوتوستراد ضمن نطاق قضاء البترون بين جسر المدفون وبلدة شكا.

وجاء قرار طوبيا بعد انتشار هذه المحلات من دون تراخيص ومن دون مراعاة شروط السلامة العامة والسلامة المرورية ويديرها لبنانيون وسوريون، وقد تحولت إلى تجمّعات مشبوهة قد تشكل بؤرا أمنية. وأرسل طوبيا القرار إلى قائد سرية أميون للتنفيذ وذلك عملاً بتوجيهات وتعاميم وزير الداخلية والبلديات.

في ما يتعلّق بالمعاملات التي يجب إنجازها لدى كتّاب العدل، وعن الإجراءات اللازمة سألت أوضحت كاتبة عدل أنطلياس ميشلين الخوري أن “اللبناني الكفيل لمواطن سوري يعمل يوقع على تعهد يتضمّن تحمّل مسؤولية المكفول السوري الجنسية خلال إقامته في لبنان. والتعهد يكون إما فرديًا وإما عائليًا إذا كانت للسوري عائلة وتقيم معه في لبنان، وهناك نموذجان قانونيان لهذه الكفالة التي تضبط الإقامة وتقوننها. ولفتت إلى أن ليس الجميع طبعًا ينظِّم هذه الكفالة ولذلك فإقامة الغالبية من النازحين غير مقوننة وغير مضبوطة. حتى من هو مسجّل على إسم كفيل يمكن أن يكون قد تركه مع الوقت ويقيم بعد ذلك عند شخص آخر، لافتة إلى أن الأمن العام اللبناني منح المخالفين فترة إعفاء من الرسم الذي كان متوجبا عليهم بهدف تسوية أوضاعهم”.

لكن على الرغم من هذه الإجراءات وما تقوم به الوزارات المعنية والمنظمات الدولية، فإن مسألة النزوح بقيت تتنامى وتتوسّع جغرافيًا وعدديًا وضغطًا هائلاً على مختلف المرافق والقطاعات اللبنانية. من هنا تكوّنت قناعة لدى المعنيين بأن معضلة النزوح لم تعد تحتمل التسويف أو التعاطي معها بخفّة أو باستثمارها لتنفيذ مآرب فئوية بات الخطر المحدق بالجميع أكبر منها.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل