ترسيم الحزب ـ البِرّي وخدعة “جبل الجليد”

حجم الخط

كتب أنطوان سلمون في “المسيرة” – العدد 1746

في السياسة لا تلعب المصادفات و”المرافقات” المتتالية والمتقاطعة دورًا بارزًا ولا يُعتَدُّ بها كلعبة حظ أو “جوائز” لمن تصب هذه المصادفات والمرافقات وتلك التقاطعات لصالحه… وغالبًا ما تكون تلك بفعل مخطط وفاعل بعينه مجهولاً كان أم معلومًا.

لبنانيًا وإقليميًا لقد تصادفت وترافقت وتقاطعت دعوات رئيس مجلس النواب نبيه برّي للحوار الرئاسي والمبادرات الفرنسية القطرية والدولية الخماسية مع توتير الأجواء الأمنية في مخيم عين الحلوة، ومع إعادة تسعير مشكلة النزوح وتشريع الحدود والمعابر أمام جحافل الداخلين غير الشرعيين من السوريين. كل هذا ترافق وتزامن مع الأخبار عن اقتراب نتائج التنقيب في البلوك رقم 9 ومصادفة ومرافقة استقبال الوسيط الأميركي – الاسرائيلي أموس هوكستين ووضع الترسيم البرّي على نار حامية مع “الطباخ” بِرّي ومن خلفه إيران وأمين عام حزب الله: حسن نصرالله.

ربّ متسائل هل هناك مايسترو أو “منسّق نيران” واحد لتلك النشاطات – المناورات الحوارية والأمنية والحدودية والاقتصادية يلملم هذه المصادفات ويصبّها لمصلحة محوره، وإن لم يستطع أن يستغلها ويستثمرها كأوراق اعتماد يقدمها للشياطين الكبار والصغار للتسجيل والتمريك على خصومه في الداخل ويقرّشها في الرئاسة والحصص وفي المشروع الأكبر للدولة الراعية والمرشدة.

فمن الحوار المفخخ من الرئيس بري بفعل إصرار الداعي للحوار على حصرية فرنجية للرئاسة، الى المبادرات الفرنسية والقطرية والخماسية المترنحة تحت ضربات وتعنتات محور الممانعة، مرورًا بالتقارب السعودي – الإيراني غير المنجز، وإطلاق موجات كثيفة من النزوح عبر معابر الحزب الشرعية وغير الشرعية، والتوتير الأمني في عين الحلوة، وبشائر اكتشاف نفطي – غازي لم يتظهَّر بعد، وصولاً الى بيت قصيد كل من المحور الممانع وعدوّه اللدود، أعني به الترسيمين البحري والبرّي… فالأول أُنجز بتسهيل إيراني بواسطة “حزب الله” ورسمي من خلال الرئيس السابق ميشال عون، وتُرجم بالاتفاقات السابقة واللاحقة بين الولايات المتحدة وإيران، والثاني مهّدت وتمهد له “المصادفات” الآنفة الذكر المفتعلة من المايسترو “حزب الله” ومنسق نيران الممانعة نبيه بري بغية ترجمته بتقاربات مماثلة أميركية ـ سعودية ـ إيرانية وبالاستحقاق الرئاسي في لبنان.

في المقاربة والمقارنة نجد أن موقف نصرالله من الترسيم البرّي العتيد الذي عبّر عنه في 2 تشرين الأول 2023 يتناغم مع موقفه من الترسيم البحري الذي أعلن عنه قبل عام، حيث قال: “إنّ على الدولة اللبنانية أن تتحمّل مسؤولياتها في ملف الترسيم البري”. وكان سبق له أن قال: “على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها في ملف الترسيم البحري”.

هذا “الفولكلور الاستعراضي” الذي اعتمده “حزب الله” قبيل التوقيع على الترسيم البحري، والذي يُخفي في طياته تهديدًا مبطناً، اعتمده الحزب مع اقتراب موعد التوقيع المفترض على الترسيم البرّي، إذ سارع الى “إقامة خيمتين” في منطقة مزارع شبعا كخطوة “ربط نزاع” مع اسرائيل، وكرسالة استجداء الدور قبل وصول الموفد والوسيط الأميركي آموس هوكستين… ليطرح نفسه لاعبًا أساسيًا ومستفيدًا وحيدًا من اتفاق الترسيم.

وكما كان الترسيم البحري وتوقيته جائزة معنويّة تجميلية “ترضوية” للرئيس السابق ميشال عون في نهاية عهده بإنجاز لا دور له فيه… هكذا يطمح المعنيون أن يكون توقيت الترسيم البرّي أو حتى المفاوضة عليه بطاقة ائتمانية تُصرَف في السياسة والحصص والمشاريع…

ولأن الحزب “سرُّ وليِّه في إيران”، من المفيد القراءة في أداء من يعتبره “حزب الله” وأمينه العام مرجعًا ونموذجًا للتقليد وقدوة له في كافة “الأمور الحسيّة والدينية”. ومن هذا الأداء “الذي يُحتذى به” نعود الى يوم 4 تشرين الثاني 1979 حيث احتجز “الطلاب الإيرانيون” بُعَيْد قيام ثورة الخميني 52 دبلوماسيًا أميركيًا لمدة 444 يومًا أي حتى 20 كانون الثاني 1981 يوم إطلاق سراحهم ضمن صفقة بين نظام الخميني في إيران والمحيطين بالمرشح الجمهوري في وجه جيمي كارتر آنذاك رونالد ريغان. وهكذا تمت الصفقة، التي كشف الإعلام الأميركي تفاصيلها لاحقاً، بعدم إطلاق الديبلوماسيين الأميركيين قبل موعد الانتخابات الرئاسية. وكان ذلك كافيًا كي يفوز ريغان ويفشل جيمي كارتر في الحصول على ولاية ثانية… ومن المفارقات أن من عقد الصفقة مع الإيرانيين، كان وليم كايسي الذي ما لبث ريغان أن عيّنه مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (سي. آي. إي) بعد وصوله إلى البيت الأبيض…

وعليه، وبقاموس الحزب ومفهومه، فإن الترسيم البرّي سيمنح الحزب موقع الطرف القوي القادر على ضمان الحدود والتزام التفاهمات… تمامًا كما الحال في القرار 1701 الموقّع في آب 2006، حيث التزم الحزب بالتهدئة وضمان الحدود مع “دولة” إسرائيل وعدم التوتير معها، وكما التزم أيضًا بالتهدئة وتسهيل تنفيذ الترسيم البحري واستخراج إسرائيل لنفطها وغازها…

وبقاموس الحزب ومفهومه أنه سيحصل على مكاسب أخرى في الداخل اللبناني مكافأة له على الانخراط في مناخات التهدئة والتهيئة لـ”التطبيع” المقنّع… وسيحصد منها انتخابًا لرئيس الجمهورية وحصصًا له ولحلفائه في لعبة تشكيل الحكومة والتعيينات وغيرها في لعبة تقريش استخدام القوة للثنائي الشيعي.

في الواقع، هذا ما يخطط له ويعمل له “حزب الله” على الطريقة المكيافيلية كون الغاية تبرّر الوسيلة، وكون هذه الأخيرة غالبًا ما تكون غير شريفة وغير نظيفة وغير مبدئية ولا وطنية ولا سيادية على ما أسلفنا، فإن غاية الحزب لا تقلّ ضررًا وسلبيةً عن وسائله المعروفة المؤرخة والموثّقة والمؤيدة بالوقائع والأدلة والبراهين والأحكام القانونية والقضائية والشعبية…

وفي الواقع أيضًا، يواجه قسم لا بأس به من اللبنانيين ما يقوم به الثنائي الشيعي ورأس حربته “حزب الله” ومَن وراءه من مناورات تضليلية وضغوط مباشرة وغير مباشرة أمنية اقتصادية وحتى دبلوماسية غربية على ما تبيّن في المبادرات الملغومة…

وما الدعوات الى الحوار وموجات النزوح السوري الكثيفة المفتعلة والترسيمان البحري والبرّي إلا كجبل الجليد العائم في المياه القطبية، حيث يختفي منه تحت سطح الماء تسعة أعشاره، ولا يظهر للعيان سوى عشر واحد… ولحسن الحظ أن اللبنانيين الشرفاء وهم كثر أصبحوا يرون “التسعة أعشار” من جبل الجليد ولا يخدعهم العشر الواحد الظاهر للعيان… والمحور الممانع أدرك بالتجربة أنه إذا استطاع أن يخدع ويغش بعض الناس لبعض الوقت، فإنه لن يستطيع بعد أن يخدع كل الناس كل الوقت.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل