مأساة إقليم ناغورنو ـ كره باغ.. ما هو دور اليد التركية؟

حجم الخط

كتب جو حمورة في “المسيرة” – العدد 1746

مع غلبة الدولة الآذربيجانية الواضح، لا يمكن القول أبداً إن النزاع على إقليم “ناغورنو ـ كره باغ” قد انتهى. حققت تلك الدولة تقدماً مهماً في الصراع “الأزلي” بينها وبين أرمينيا، ووضعت يدها، بدعم تركي كامل، على الإقليم المتنازع عليه. إلا أن الظروف غالباً ما تتغيّر مع تغيّر الأزمنة، ولا بد من عودة أرمنية يوماً ما.

لم يكن ما جرى في 20 أيلول الماضي نتيجة مؤامرة حيكت في غرفة مظلمة وضيقة ما من هذا العالم، إنما نتيجة “حتمية” لما جرى عام 2020، كما نتيجة لسلسلة من الأخطاء المتراكمة التي ارتكبتها أرمينيا وأدت، في نهاية الأمر، لوضع آذربيجان يدها على الإقليم الأرمني.

ما جرى في ذاك اليوم كان إعلاناً رسمياً واضحاً من آذربيجان بوضع الإقليم المتنازع عليه تحت سيطرتها وسلطتها. لم تتكبّد العناء الكثير في تحقيق ذلك، إلا إطلاق بعض الهجمات المباغِتة على ما تبقى من قوات ومنظمات أرمنية مسلحة هناك.

وخلال ساعات قليلة، قبِل العالم كله تقريباً بالواقع الجديد، وبات الإقليم تابعاً لسيادة باكو؛ عاصمة آذربيجان. هذه النتيجة المأساوية للجانب الأرمني، والتي دفعت بأبناء الإقليم من الإثنية الأرمنية للنزوح عنه، ما هي إلا نتيجة أخطاء قاتلة وتراكمات تاريخية شهدت على الكثير من الدماء والدموع بين الجارتين.

 

تاريخ الصراع الأرمني – الآذاري

مع نهاية الحرب العالمية الأولى، سعت كل من أرمينيا وآذربيجان للاستقلال. كان شعب الدولة الأولى يعيش أثار صدمة الإبادة المرتكبة بحقهم من قبل القوات العثمانية وفرقه الحميدية عام 1915 وما تلاها من سنوات. لذا، كان تأسيس دولة ذات سيادة واعتراف دولي ضمانة منطقية لعدم تكرار أحداث الماضي، كما الشكل المؤسساتي السليم لقيامة الشعب الأرمني من جديد من كبوته ضمن دولة – أمة تزود عنه وعن حقوقه.

لم تعِش الدولة الأرمنية إلا سنة واحدة، وانتهى وجودها الحقيقي عام 1920 عندما هاجمتها القوات العسكرية التركية وسيطرت على أجزاء واسعة من أراضيها الشرقية، فيما قام الجيش السوفياتي، في نفس السنة، بالسيطرة على جزئها الغربي، فانتهت بذلك حياة الجمهورية الوليدة.

أما آذربيجان، فكان مصيرها مشابهاً لمصير أرمينيا، والتي وقعت بدورها تحت الحكم السوفياتي عام 1922، وتم دمجها كحال أرمينيا بالاتحاد السوفياتي، فيما ضُمت جورجيا إليهما في ما كان يُعرف بـ”جمهورية ما وراء القوقاز السوفيتية الاشتراكية”.

عاشت هذه الجمهورية المكوّنة من ثلاث إثنيات قوقازية مختلفة حتى عام 1936، حين قام الاتحاد السوفياتي بتقسيمها إلى ثلاثة كيانات منفصلة ضمن الاتحاد، وهي جمهورية أرمينيا السوفياتية الاشتراكية وجمهورية أذربيجان السوفياتية الاشتراكية وجمهورية جورجيا السوفياتية الاشتراكية.

تحت الحكم السوفياتي، تقدمت جمهورية أرمينيا على جارتها الآذارية. هذا التقدم كان في المجال الاقتصادي والثقافي والتنظيمي الإداري، وليس في أي مجال آخر، لأنهما كانا معاً تحت الحكم السوفياتي، والذي كان يساوي بين الجميع من حيث القمع والقساوة. أما مرد هذا التقدم الأرمني، فكان نتيجة تدفّق أموال “الدياسبورا” الأرمنية المنتشرة في العالم، كما نتيجة حيوية القطاع الخاص الأرمني، وتحديداً التجاري والحرفي منه، والذي بقي ذات تأثير مقبول على الاقتصاد حتى وإن كان ضمن الحكم السوفياتي.

هذا التقدم الاقتصادي والثقافي والتنظيمي، أفاد أرمينيا في الميدان العسكري منذ عام 1988 وحتى الأمس القريب. إذ بدأت الاشتباكات والمواجهات العسكرية بين الأرمن والآذاريين مع بروز ضعف الاتحاد السوفياتي، واستعرت بين أعوام 1992-1993.

منذ تلك التواريخ وحتى عام 2020، فازت أرمينيا بمجمل المواجهات ضد جارتها، وأكدت سيطرتها على إقليم “ناغورنو ـ كره باغ” وأنشأت سلطة أرمنية فيه لها إدارتها ومسلحوها، ولكن من دون أن تحصل على أي اعتراف دولي عدا الذي حصّلته من الجمهورية الأرمنية.

مع بروز تركيا كلاعب إقليمي مؤثر في منطقة القوقاز وغيرها، ولا سيّما مع بروزها كدولة لها انتاجها العسكري شبه المستقل، وقدرة مهمة على تصدير السلاح والخبرات العسكرية، تغيّر ميزان القوى بين أرمينيا وآذربيجان، خصوصاً أن تركيا هي الحليفة الأهم لتلك الأخيرة ومدّت يد المساعدة لها بشكل كبير.

 

حرب العام 2020.. آذربيجان الظافرة

تكبدت أرمينيا في إقليم “ناغورنو ـ كره باغ” هزيمة مذلّة عام 2020. يومها استطاعت آذربيجان أن تحقق تقدماً عسكرياً سريعاً وساحقاً على جارتها، بالاتكال على التسليح والتكنولوجيا المستجلبة حديثاً من حليفتها الأهم تركيا. في حينها، تراجعت القوى الأرمنية وسيطر الآذاريون على أغلب الطرق الاستراتيجية كما على مدينة شوشا الأكبر في الإقليم. انتهى الأمر ببضعة أسابيع تأكدت فيها الغلبة الآذارية على جارتها الأرمنية.

عدا الدعم التركي الكبير لآذربيجان، تعود أسباب الهزيمة الأرمنية لعاملين أساسيين:

الأول ضعف الحكومة الأرمنية وتوزيع القوى في داخلها بشكل جعلها غير قادرة على القيام بردة فِعل حقيقية. كما أن الأزمة السياسية الداخلية الدائمة في أرمينيا كبلت السلطات وجعلتها غير قادرة على اتخاذ أي قرار، وذلك على عكس حال الحكم في آذربيجان الموحد حول قيادته الديكتاتورية، أكان خوفاً أم حباً.

أما الثاني فيعود إلى سلسلة من الحسابات الخاطئة التي اتكلت أرمينيا عليها، واعتقادها بأن “التحالف” مع روسيا ذات الخلفية الدينية الأرثوذكسية يمكن أن ينقذها، كما الاعتماد الظاهر على إيران التي تبدو ضعيفة من دون حول أو قوة على الانخراط في أي أزمة قبل إصلاح علاقاتها مع الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.

هُزمت أرمينيا عام 2020 في إقليم “ناغورنو ـ كره باغ”، لكن الهزيمة العسكرية لم تتجسّد هزيمة سياسية موازية، بل بقيت حكومة الإقليم الأرمنية مسيطرة على بعض المواقع، وتتمتع بدعم السكان الأرمن. هذا الأمر تغيّر في أيلول الماضي، حيث كانت الحركة العسكرية الآذارية البسيطة كافية لقلب الأمور رأساً على عقب، وإقرار جميع الدول، ومن ضمنها روسيا، بالواقع الجديد، وانتقال السيادة على الإقليم لآذربجيان.

أما شعب الإقليم، وهو بأغلبه من الإثنية الأرمنية، فلم يجد أي مهرب من الواقع الجديد سوى المغادرة وترك أرضه متوجهاً إلى أرمينيا. المأساوية هذه، كما كل مأساوية يعيشها أي شعب، هي نتاج سياسات واستراتيجيات غير ناجحة من القوى السياسية المتحكمة، والتي غالباً ما تؤدي إلى دفع الأفراد العاديين لأثمانها.

 

أخطاء أرمينيا الاستراتيجية

خطأ أرمينيا الأساسي هو حصر علاقاتها الخارجية والاستراتيجية مع حفنة من الدول فقط، وذلك ربما بسبب اعتقاد خاطئ من قادتها بأن عدد قليل من الدول فقط يمكّنها من أن تحمي مصالحها في النزاع مع آذربيجان.

اتكلت أرمينيا على روسيا في الدرجة الأولى، تليها إيران ومن ثم الهند. هذه الأخيرة هي المورِّد الأول للأسلحة الثقيلة، لكن القديمة، والتي لم تبلِ البلاء الحسن ضد السلاح الآذاري المستَقدم من تركيا لا في السابق ولا في الأمس القريب. إن الاتكال على طرف واحد في أي أمر يجعل من هامش المناورة محدوداً وعرضة لجعل المستفيد محكوماً بما يريده المستَفاد منه.

أما بالنسبة لإيران، فالاتكال عليها لم يشفع لأرمينيا بأي موقف رسمي جدي أو حركة عسكرية ذي شأن تحميها. كثر يراهنون على إيران في المنطقة بشكل عام، لكن التجربة المُستخلصة من أرمينيا لا تشي إلا بالويل على من يضع رقبته تحت السكين الإيراني.

أما روسيا، والتي راحت السلطات الأرمنية الرسمية كما طائفة كبيرة من نخبها تؤكد على “عمق العلاقات مع موسكو”، وتعزز من حضور العنصر الديني والمذهبي في هذا “التحالف”، فلم يفد بشيء. بل إن روسيا بدت أقرب إلى آذربيجان خلال التطورات الأخيرة.

لقد اعتقدت الحكومة الأرمنية أن العنصر المذهبي كافٍ لوحده لوقوف روسيا مع أرمينيا، لكن روسيا، كأي دولة في العالم، لا تكترث إلا لمصالحها ونفوذها، وبدت متفهمة جداً للمصالح التركية والآذارية، ففضلت عدم الاصطدام بمصالح تركيا في منطقة القوقاز، وهو ما دفعت ثمنه، عملياً، أرمينيا.

 

واقع الإقليم اليوم

طوال التاريخ الحديث، وقع إقليم “ناغورنو- كره باغ” تحت السيطرة الأرمنية. فمنذ بداية العشرينات من القرن الماضي وحتى الأمس القريب، تنقل النفوذ على الإقليم بين أرمينيا مباشرة، وبين سلطات محلية تم إنشاؤها من الأرمن لتدير الإقليم.

ما تغيّر الآن هو أن النفوذ الأرمني بات خارج الإقليم، والسيطرة الآذارية هي القائمة فيه. يعني ذلك، عملياً، عمليات هجرة شاملة من الإقليم إلى الداخل الأرمني، خصوصاً وأن الإقليم مشكّل أصلاً من أكثرية ديمغرافية أرمنية، وهو ما تمّ بالفعل مع هجرة أغلبية السكان الأرمن منه.

وما تغيّر أيضاً أن تركيا زادت نفوذاً على نفوذها في الإقليم، وباتت أكثر قدرة وحركية في القوقاز، وهو الأمر الذي لن يُضعف، في النهاية، إلا النفوذ الإيراني. من يدري، ربما تجد الإثنية الآذارية الموجودة في الداخل الإيراني نفسها بحالة انتشاء ومقدرة وقوة، وتقدِم على زعزعة النظام، خصوصاً أنها الإثنية الثانية من حيث العدد في إيران بعد تلك الفارسية.

واحدة من أخطاء الحُكم والقيادات الأرمنية هو الاتكال على الغير لا على النفس. الاتكال على الهند وإيران وروسيا وليس على السواعد الخاصة. وهذه عبرة ودرس مهم لمن يريد البقاء في هذا الشرق المليء بالخطر والحروب والموت.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل