المؤسف في لبنان أن كل شيء تحوّل فيه إلى ذكرى: ذكرى لبنان الكبير أو نهائية الكيان، ذكرى الاستقلال، ذكرى اتفاق الطائف، ذكرى القرارات الدولية. فنهائية الكيان تتعارض مع المشروع الإيراني التوسعي، والاستقلال سقط منذ العام 1969 مع اتفاق القاهرة وما زال على الوضع نفسه، والقرارات الدولية مجرّد أرقام يتم تردادها من دون معنى، واتفاق الطائف اغتيل مع اغتيال الرئيس رينيه معوّض.
الهدف من اتفاق الطائف، الذي نحتفل بذكرى إقراره، إنهاء الحرب وتوحيد البلد وترميم العلاقة بين اللبنانيين وإعادة الاعتبار لدور الدولة بشقيه السيادي والناظم للمجتمع، وفقاً للدستور والقوانين المرعية، ولكن لم يطبّق أي شيء يرمز إلى الدولة والسيادة والدستور.
وقد شكل اتفاق الطائف فرصة جدية لفتح صفحة لبنانية جديدة، لكن التأخير في تطبيقه أدى إلى تفويت اللحظة التاريخية، والمسؤولية في هدر هذه الفرصة تقع على عاتق العماد ميشال عون الذي رفض تسليم السلطة والقصر للرئيس رينيه معوض، واعتقد أنه عن طريق حرب الإلغاء يمكن أن يعيد خلط الأوراق للبقاء في القصر، كما راهن أن حرب التحرير يمكن أن تعزِّز حظوظه الرئاسية.
ولولا حرب التحرير لما ولد اتفاق الطائف أقله في التوقيت المعروف، ولولا حرب الإلغاء لما كان تم الانقلاب على هذا الاتفاق، ولا تختلف أساساً حرب التحرير عن عملية “حماس” في 7 تشرين، إذ من حق الفلسطيني مقاومة الإسرائيلي الذي يحرمه من حقه في دولة مستقلة، ومن حقّ اللبناني مقاومة السوري الذي يحرمه من دولة مستقلة، ولكن أي حرب من دون تخطيط ودراسة لموازين القوى ورد فعل العدو تؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا ما حصل مع تدمير المنطقة الشرقية كما تدمّر غزة اليوم.
كان يمكن الوصول إلى الإصلاحات الدستورية بظروف مختلفة تؤدي إلى قيام الدولة، والمسؤولية في عدم قيام الدولة ليست على اتفاق الطائف، إنما على الاحتلال السوري الذي تمكّن من تعليق تنفيذ هذا الاتفاق ووضع يده بشكل كامل على لبنان، وقبل خروجه في العام 2005 سلم مفاتيح السيطرة على المؤسسات لحليفه في الممانعة “حزب الله”، والمشترك في حقبتي النظام السوري والحزب، التغييب المتواصل لاتفاق الطائف.
وعلى رغم صحة المعادلة التالية: طالما أن الممانعة ضد اتفاق الطائف، فعلى خصوم الممانعة التمسُّك بالطائف، إلا أن الاكتفاء بالتمسُّك باتفاق لم يطبّق منذ إقراره منذ 34 عاماً، ليس مسألة صحيحة ولا صحية، لأن الممانعة التي ترفض الطائف لا تواجه خطراً على مشروعها الانقلابي من فريق يكتفي بتأكيد تمسكه بالطائف.
فالردّ على إلغاء الطائفية لم يكن يواجه بالتمسك بالدستور، إنما من خلال الدعوة إلى العلمنة، والردّ على الوحدة مع سوريا من خلال التأكيد على نهائية لبنان، والرد على العروبة أولاً من خلال لبنان أولاً، والردّ على العيش المشترك الوهمي من خلال تبدية الحرية على أي اعتبار آخر. (…)
ولو طبِّق اتفاق الطائف وكان هناك دولة ودستور واستقرار وازدهار، لما وُجدت بيئة حاضنة لطروحات دستورية جديدة، ولكن من يريد تغيير الدستور عليه أن يدرك بأن من منع تطبيق الطائف سيمنع تطبيق صيغته الدستورية، ما يعني الاستمرار في الدوامة نفسها التي يستحيل الخروج منها سوى في حالتين: ظروف خارجية تتقاطع مع توجُّه لبناني على غرار إخراج الجيش السوري من لبنان، وظروف داخلية ترفض التمديد للواقع المأزوم، فتقرِّر الطلاق مع المشروع الممانع تجنباً لطلاق اللبنانيين مع وطنهم.
إذاً، المشكلة ليست بالتأكيد مع اتفاق الطائف، إنما مع من يرفض تطبيق هذا الاتفاق، والحلّ لا يكون فقط بالكلام عن صيغة دستورية لن تطبّق كون نفس الفريق، الذي لا يتعايش مع دول ودساتير، سيمنع تطبيقها، إنما الحلّ بتغيير أسلوب المواجهة السياسية مع الممانعة، لأن الأسلوب المعتمد منذ 33 عاماً وصل إلى حدّه، وحان الوقت لمواجهة سياسية جديدة من دون سقوف ولا حدود، لأنه بعد أكثر من نصف قرن على تغييب الدولة حان الوقت للتفكير في كيفية إنهاء الأزمة اللبنانية.