صحيفة الجمهورية- جورج شاهين
على الرغم من استمرار العدوان الاسرائيلي الذي يستهدف تدمير القطاع الصحي ويرتكب المجازر المتنقلة في قطاع غزة، فإنّ جزءاً من المفاوضات الجارية يتناول ما سيكون عليه «اليوم الأول» في غزة بعد الحرب. وهو ما عكسته مشاريع وصيغ متناقضة تحمل في مطاويها كثيراً من التعقيدات الدولية والإقليمية، كما في اسرائيل والأوساط الفلسطينية، وهو ما يعقّد الأمور في اتجاه الصيغة التي يمكن التفاهم على اعتمادها لمستقبل القطاع. وعليه، هذه هي عينة من السيناريوهات؟
في انتظار تلك اللحظة التي يعلن فيها عن وقف للنار في قطاع غزة إيذاناً بوقف العدوان الذي شنّته اسرائيل وانتهاء الحرب الدائرة فيه، فإنّ مجموعة المبادرات والاتصالات الجارية على اكثر من مستوى في الاقليم والعالم تناولت حتى اليوم اكثر من مشروع واقتراح يحاكي مصير القطاع ما بعد الحرب، بالإضافة الى مجموعة الافكار الخاصة بالهدن الإنسانية وعمليات تبادل الأسرى الموجودين لدى «حماس» والمعتقلين في السجون الاسرائيلية. وهو ما سمّته الإدارة الاميركية في اول خططها المستقبلية «اليوم الأول» ما بعد الحرب، وأرفقته بالشروط الملحقة بالخطوة، بما فيها مجموعة اللاءات التي اطلقها وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن من مؤتمر «مجموعة الدول السبع» في اليابان مطلع الشهر الجاري والتي قالت بـ «لا للاحتلال الاسرائيلي الدائم للقطاع» و»لا لبقاء «حماس» فيه بعد الحرب» ولا «لضمّ القطاع الى الاراضي المحتلة» و»نعم للاحتفاظ به أرضاً فلسطينية».
وتأسيساً على ما تقدّم، فإنّ ما تسبّبت به عملية «طوفان الأقصى» من ترددات كبيرة ومفاجئة، قد شكّل مناسبة لإحياء كثير من المشاريع الاسرائيلية واليهودية المعدّة للقطاع، بما فيها تلك التي جُمّدت منذ عقود، وفي مراحل رافقت الحروب الاسرائيلية ـ العربية والفلسطينية، كما بالنسبة الى تلك التي يمكن تنفيذها بعد الحرب الحالية، إن استطاعت الحكومة الاسرائيلية الى ذلك سبيلاً. فليس كل ما تمنته الحكومة الحالية يمكن تنفيذه.
وفي مواجهة هذه المؤشرات، لا تنفك الديبلوماسية المكوكية التي تقودها الدول المعنية بالوضع في غزة، تعبّر عن مجموعة من السيناريوهات التي تتناول مستقبل القطاع، من دون إغفال تلك التي قالت بها السلطة الفلسطينية. مع الاعتراف بالمزاجية الاسرائيلية التي لم تعّبر صراحة عمّا تريده لمستقبله تحت عناوين أمنية واستراتيجية، بالنظر الى الفروقات الشاسعة بين ما هو مضمر منذ عقود، وتلك التي أطلقها اكثر من مسؤول تعبيراً عن الرؤية المختلفة بين المنظمات اليهودية المتشدّدة ومن يدّعون حرصهم على السلام مع الفلسطينيين، وما فيها من تناقضات ليس من السهل التمييز في ما بينها.
وإن دخلت المراجع الديبلوماسية في تصنيفها للمشاريع التي تحاكي المستقبل لا بدّ من التوقف عند بعضها كالآتي:
– على المستوى الاميركي، لم يظهر بعد انّ هناك خططاً مستقبلية من خارج نطاق اللاءات التي كشف عنها بلينكن، ولا مجال لإعادة التذكير بها، وهي لا تزال تنظر بعين الريبة الى مخاطر اي خطط تستفز الدول المطّبعة خارج المبادئ التي قالت بها القمّة العربية ـ الإسلامية التي انعقدت في الرياض وبدأت اللجنة الوزارية التي شكّلتها حملتها الديبلوماسية. ومعها التهديدات بقطع العلاقات إن استنسخت التجربتين البحرينية والاردنية المتمثلة بسحب السفراء.
– على المستوى الاسرائيلي اولاً، يجدر التأكيد انّ بعضاً مما هو محفوظ في أرشيف الدولة ستبقى فيه، ومنها تلك التي قالت بشق القطاع الى نصفين لتأمين تنفيذ «قناة بن غوريون» لربط ميناء إيلات بالساحل الشرقي للأراضي المحتلة في موازاة «قناة السويس»، كما بالنسبة الى إعادة ضمّ القطاع بعد خروجها منه عام 2005، وتفكيك مجموعة المستوطنات التي كانت قائمة في شماله والتي عُرفت بمستوطنات «غوش قطيف»، عقب المعلومات التي تحدثت عن تحضيرات يجريها زعماء المستوطنين المتشددين اليهود الذين يخطّطون للعودة إليها.
كل ذلك يجري في وقت تعدّدت المواقف الاسرائيلية منذ بدء الغزو البري، والتي تراوحت بين اقامة منطقة عازلة والإستقرار في الشمال حتى تأسيس نظام يضمن خلوه من الأسلحة، لتوفير أمن وسلامة الكيبوتزات في غلافه ما لم تتمكن القوى الغازية من إخلائه ونقل مواطنيه إلى الاراضي المصرية وسيناء تمهيداً لإخلاء الضفة ونقل سكانها إلى الاردن، بعدما اقترح وزير المال الاسرائيلي نقلهم إلى دولة ثالثة. وكلها مشاريع غير قابلة للتنفيذ في ظل التفهّم الأميركي للرفض المصري والأردني الذي التقى على اعتبار مثل هذه الخطة اعلاناً لحرب شاملة لم تشهدها المنطقة، بعدما طوتها اتفاقيات السلام بين اسرائيل ومصر والأردن.
– على المستوى العربي والاسلامي، فقد بُنيت التوقعات بالاضافة الى الثوابت التاريخية السابقة من مشروع الدولتين، على مقررات سلسلة القمم التي استضافتها الرياض، مضافة الى التهديدات المصرية بإجراءات غير متوقعة، كما بالنسبة الى الاردن واحتمال الوصول الى استخدام سلاح النفط في ضوء التفاهمات السعودية ـ الروسية التي أجرت تعديلات وُصفت بأنّها «تحذيرات اولية»، عندما قضت بخفض إنتاجها اليومي من النفط لرفع أسعاره، وربما وصلت الأمور الى تقنين تصدير دول الخليج لنفطها في اتجاه الأسواق العالمية وما يمكن ان تؤدي اليه من انعكاسات لا يتحمّلها العالم، بعد العقوبات المفروضة على روسيا وإيران.
– أما على المستوى الفلسطيني وهو الأكثر خطورة لما يمكن ان يؤدي اليه الإنقسام القائم بين «حماس» وزميلاتها في القطاع من جهة والسلطة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني من جهة اخرى، وخصوصاً بعدما استعادت الاخيرة هذه الصفة من مقررات مجموعة قمم الرياض، فيما لا تتجاهل الطروحات الاميركية التي قدّمها بلينكن للرئيس الفلسطيني محمود عباس حول دور السلطة في إدارة القطاع كمخرج يحدّد هويته ومستقبله. ولعلّ أخطر ما فيها عدم موافقة «حماس» على مبادئ تاريخية وأساسية كرّستها السلطة والمنظمة منذ «اتفاقية أوسلو» الى درجة تتناقض وايّاها. وكيف إن خرجت «حماس» من الحرب اقوى مما كانت عليه ولو من دون أسلحة، للمضي في مطالبتها بمشروع «الدولة الواحدة» التي تلغي السلطة الفلسطينية ومعها «الدولة اليهودية» وهو امر متعذّر ولا يقرّ به لا منطق ولا عقل، سوى إن وضع في خانة تجميد البحث في كثير مما هو مرسوم للقطاع. وإن حصل ذلك فإنّه يعني افتراقاً كبيراً بين دول «محور الممانعة» إن تبنت مشروع «الدولة الواحدة»، والعالم العربي والإسلامي الذي شارك في قمم الرياض، وإن كانت ايران من بينها فهي قادرة على التملّص من موافقتها على النتائج التي انتهت إليها لمجرد تبنّي ما تنادي به «قوى المقاومة» في فلسطين والمنطقة.
على هذه الخلفيات وبمعزل عن مجموعة السيناريوهات المتداولة، فإنّ ما هو متوقع قد يفيض عنها. فباب المفاجآت مفتوح على عدد آخر منها، وخصوصاً إن بقي الضوء الأخضر قائماً أمام آلة التدمير الإسرائيلية، ليصح قول وزير خارجية الاردن ايمن الصفدي الذي سأل أمام «منتدى حوار المنامة» الذي نظّمه «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»: «كيف يمكن لأحد أن يتحدث عن مستقبل غزة، ونحن لا نعرف أي غزة ستبقى بعد انتهاء الوضع الحالي؟».