كتب أنطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1747
يسود الدول الديموقراطية العريقة والمتطورة توجه مطّرد لتخطي منطق الأكثريات والأقليات إتنيًا ودينيًا وثقافيًا، ويبرز نوع من الإصرار على توفير امتيازات معينة للأقليات في الدساتير والقوانين وعلى مستوى الإدارة العامة والقرار.
ففي الولايات المتحدة الأميركية يسجل الهنود الحمر تقدمًا ثابتاً لجهة الاعتراف بحقوقهم التاريخية في الأرض ومواردها الطبيعية، أو لجهة إشراكهم في كل ما يعني وجودهم وإرثهم والتعويض عن الظلامات التي لحقت بهم.
وفي أوروبا، ترتبط مسألة الأقليات والحفاظ على التنوّع بل تشجيعه وحمايته، بقضية حقوق الإنسان كأولوية على الرغم من بروز تيارات يمينية متشددة تدعو إلى التمييز بين ما هو حقوق وما هو استسلام لظواهر غريبة عن النسيج التاريخي للقارة العجوز.
لعل فرنسا تمثل نموذجًا معبِّرًا، إذ إن الدولة الفرنسية تحرص على احترام الخصوصيات على أنواعها، على غرار الاعتراف بامتيازات معيّنة لأبناء جزيرة كورسيكا التي تشكل مقاطعة بذاتها، فضلاً عن احترام وتكريس خصوصيات مواطنيها ذوي الأصول الجرمانية في مقاطعتي الألزاس واللورين. وهذا المنحى يتبلور على صعيد آخر في كيفية التعاطي مع الجاليات الأفريقية والعربية لا سيما الإسلامية، بحيث يثير هذا التعاطي تحفظات لدى شرائح من المواطنين الفرنسيين، ولا يخفي بعضهم على سبيل السخرية السوداء، رغبته بأن يكون أفريقيًا أو عربيًا، لأنه حينها سيحصل على تعامل استثنائي بخلفية التضامن الإنساني، لدرجة معاقبة كل من يتعرّض له حتى كلامًا بما يوحي بعنصرية معينة.
أما في شرقنا التعيس البائس، فإن التدهور المريع في واقع الشراكة التي تُسمّى أحياناً عيشاً مشتركاً أو وحدة وطنية، يستتبع تدهورًا مريعًا في استقرار عدد من دول المنطقة ويعزز الهيمنة والاستئثار وأحيانا الأحادية على مستوى القرار السياسي، وعلى حساب حقوق الإنسان والعدالة والمساواة.
وإذا كان بعض الصراعات يتخذ طابعًا مذهبيًا بين المسلمين وتحديدًا بين السنّة والشيعة، فإن الأخطر هو الطابع الطائفي، لا سيما لجهة الفرز والتهويل والإلغاء والتهجير سواء عمدًا أم بالإهمال والاستخفاف. وهذه حال المسيحيين في العراق الذين يعانون هيمنة السلطة الأقرب إلى إيران، وممارسات الحشد الشعبي، ربما أكثر من معاناتهم نتيجة ظاهرة “داعش” والفظائع التي ارتكبها.
والأمر نفسه في سوريا، حيث يتعاطى النظام مع المسيحيين كطائفة رديفة، وأقلية يريدها حليفة للأقلية العلوية وفق معاييره الخاصة في وجه الأكثرية السنيّة، وإلا ما هو تفسير التناقص الكبير في أعداد المسيحيين في سوريا واختيارهم الهجرة، علمًا أن الوجود العسكري الروسي ساهم في طمأنتهم نسبيًا. وليس بريئاً ما حظي به تنظيم “القاعدة” وبعده “داعش” بخاصة، من رعاية ضمنية من قبل النظام لتبرير استمراره بحجة التصدي لهما، وانعكاس ذلك في لعبة تحريضية مدروسة على العلاقات التاريخية بين السنّة والمسيحيين، لا سيما في المدن كحلب وحمص وحماة، وما كانت تمثله من غنى ثقافي وتناغم اجتماعي.
لقد عرضنا ما سبق من نماذج لنتوقف عند حرب غزة وما تعنيه لجهة تعزيز التطرّف في المنطقة، في وقت تسعى دول عربية مهمة، على غرار معظم دول الخليج إلى ترسيخ خيار الانفتاح والاعتدال بقيادة المملكة العربية السعودية التي يراهن ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان على عصر عربي جديد، معتبرًا أن للمسيحيين فيه دورًا أساسيًا لناحية تظهيره وإنجاحه.
إن حرب غزة هي أول حرب فعلية بين حكومة يمينية متشددة وحركة أصولية فلسطينية. ولا يمكن بالتالي المرور مرور الكرام على الدور الإيراني فيها تحضيرًا ليس عسكريًا فحسب، بل بأبعاد سياسية وطائفية ومذهبية.
فحماس حركة إسلامية سنيّة متشددة، وجدت في إيران الإسلامية الشيعية المتشددة سندًا قويًا، على الرغم من التباينات العقائدية والمذهبية العميقة، لكن إيران عرفت كيف تستغل عنوان المواجهة مع العدو المشترك لدعم حماس عسكريًا وتشجيعها ولو ضمناً على خوض المواجهة التي اختارت حماس توقيتها، مع ما يعني هذا الاستغلال من سعي لشق الموقف العربي.
وما يعنينا، أن حرب غزة هي حرب ترسيخ التطرّف على الجانبين والرد الأمثل على مبدأ الدولتين. ففي حال بلورة هذا المبدأ سيتصاعد مسار الانفتاح العربي حتى مع إسرائيل، وسترتاح الساحة العربية، مقابل خسارة إيران مبرّر الممانعة لإسرائيل والأميركيين ولحل الدولتين، ما يضعف هيمنتها على عدد من الدول العربية.
أما الخطر الثاني، فيتمثل بتفاقم المحاذير حيال الوجود المسيحي في المشرق ولا سيما في لبنان، علمًا أن الوجود المسيحي في الأراضي المقدسة التي تشمل كامل فلسطين التاريخية، أي إسرائيل والضفة وغزة والقدس، ضمر كثيرًا ليس بسبب الصراع الفلسطيني مع إسرائيل فحسب، بل بسبب صعود التطرّف على الساحة الفلسطينية، ما دفع ويدفع كثيرين إلى الهجرة وما تعنيه من تغيير ديموغرافي على غرار ما هو حاصل في مدينة بيت لحم. ولسخرية الواقع، فإن الوجود المسيحي داخل إسرائيل يبدو أفضل حالاً بنسبة كبيرة.
وفي ما خص لبنان، فإن رهان محور الممانعة ممثلا بـ”الحزب”، يضم في طياته محاولات خبيثة لتحجيم الدور المسيحي في لبنان أكثر فأكثر، مع استغلال حرب غزة لتعزيز مبرّراته.
وإلا كيف نفهم إصرار “الحزب” على إطلاق الصواريخ والعمليات نحو الجليل من محيط البلدات المسيحية بشكل أساسي، لا سيما في المرحلة الأولى من المواجهة، وما استتبعه من هجرة كثيفة لأبنائها في موازاة التعدي على الأملاك الخاصة والعامة والمشاعات، وتربّص مجموعات من النازحين السوريين لممارسة عمليات السطو والسرقة. وثمة تساؤلات حول خلفيات إصابة بلدة عين إبل وعدد من منازلها بقصف صاروخي تبيّن أن مصدره “الحزب” ما يشكل سابقة، لا سيما وأن عين إبل لا تقع عند الحدود المباشرة. وحتى لو كان السبب خطأ تقنيًا، فإن نصب راجمة صواريخ غراد قرب البلدة في محيط الطيري، يندرج في إطار الاستخفاف بالوجود المسيحي، بدلاً من الحرص على تجنيبه تبعات مواجهات تصبّ في خدمة المشروع الإيراني وحساباته الملغومة.
على أن الأخطر هو سعي “الحزب” إلى تسعير المناخ الطائفي على خلفية حرب غزة وامتداداتها اللبنانية، سواء بحملات التخوين والتهم الجاهزة بالعمالة للقوى السيادية وفي مقدمها القوات اللبنانية مباشرة أو ضمناً، أو من خلال التعرّض للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، بشكل مهين وبحجج معتورة، علمًا أن سيد بكركي قصد مساعدة أبناء رعيته بلم الصواني، إلا إذا كان ذلك أيضًا يمسّ بعنوان المقاومة.
واللافت أن الشيخ أحمد قبلان المفتي الجعفري الممتاز تماهى مع أقلام “الحزب” الصفر، فحمل على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تخويناً مبتذلاً. وما ينبغي التنبّه له على خط آخر هو سعي “الحزب” عبر بعض الأبواق إلى استغلال أي حادثة محصورة أو فردية للحض على الفتنة، على غرار الترويجات التحريضية بعد حادثة القرنة السوداء وأخيرًا بعد حادثة شكا، باعتبار أن جماعة الممانعة هي المستفيد الأول من أي فتنة مسيحية ـ سنيّة، علمًا أن هذا الرهان سقط وسيسقط، بفضل الوعي المتنامي لخلفياته وأبعاده.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]