كتب سيمون سمعان في “المسيرة” ـ العدد 1747
مسيحيو الأراضي المقدسة ليسوا مجرد أرقام والتاريخ يشهد!
هذا هو المطلوب منهم اليوم!
يوم ذاع إسم المستشفى المعمداني في غزّة، استدرك البعض أن في تلك الأرض مسيحيين ومعالم ومرافق على أسماء مسيحية. ويوم اكتشفوا أنه منذ زمن تم تغيير اسمه إلى المستشفى الأهلي العربي أدركوا معاني رمزية مسح الذاكرة المتنبّهة أنها أرض المسيح من لبنان إلى مصر والأردن. هذا الواقع الميداني معطوفًا على التراكم التاريخي لا بد أن يفتح الأفق على مسيحيي تلك الأرض: حضورهم، دورهم، أعدادهم، معاناتهم… مستقبلهم.
سياسيًا إذا لم يعد هناك من دور لهذه الجماعة الأصيلة في أرض المسيح، لكن ثمة دورًا حضاريًا وثقافيًا لا يجهله أحد ولا يستطيع أن يمحوه أحد مهما اشتدّت عليهم أوجه الاضطهاد، ومهما حاولت أمم وجماعات متطرفة محو ذكر وجودهم من ذاكرة التاريخ والأجيال!
من بيت لحم إلى بيت جالا والناصرة وكفرناحوم والقدس وبحيرة طبريا وجبل الزيتون، ومن يافا إلى قانا ومصر فنهر الأردن… ليست مجرد أسماء لمواقع مسيحية، هي أرض تعبق برائحة البخور وأغصان الزيتون التي حملها المسيح ومشى فيها مرنمًا مع شعبه هوشعنا في الأعالي. فجأة تغيّر وجهها لا بل غيروه وما بقي منها إلا بعض رموزٍ ودور ومسعى يحاول أن يخترق جدران العنف فيفتحَ كوّةً على أرض السلام.
حضور تاريخي مهدد بالاندثار
لم تستثنِ الحرب الدائرة في غزّة مسيحيي هذه الأرض، لا بل أمعنت في تعميق آلامهم، سواء من خلال استهداف المستشفى المعمداني (الأهلي العربي) التابع للكنيسة الأسقفية، أو في قصف القاعة الملاصقة لكنيسة القديس برفيريوس ما أسفر عن سقوط 18 شهيدًا وعشرات الإصابات، جميعهم من المسيحيين، وأيضًا من خلال تدمير المركز الثقافي الأرثوذكسي بالكامل.
كلها مؤشرات، والثابت أن أهميتها لا تكمن في حجمها مقارنة مع ما يتعرّض له القطاع برمّته من دمار، وإنما كونها تطال معالم دينية وصحّية وثقافية، وأيضًا مواقع لجماعة غير مشاركة في الحرب الدائرة على أرض يُنكَر على المسيحيين حصّة لهم فيها، فيما لا يتم تجنيبهم حصة وافرة من القتل والعنف والدمار!
الكنيسة اللاتينية، تقيم فيها اليوم غالبية مسيحيي مدينة غزّة وعددهم بالمئات، وهي لم تُستهدف مباشرة حتى اللحظة، لكنّ قصفًا كان قريبًا منها جدًّا في الأول من تشرين الثاني الحالي أدى إلى أضرار مادية فيها. ليست المسألة هنا ما يحصل ميدانيًا بقدر ما هي وجودية تراكمية وعابرة للمناطق سواء الواقعة تحت سيطرة الإسرائيليين أو التي يسيطر عليها الفلسطينيون ولا سيما حركة حماس. فمسيحيو القدس والناصرة وبيت لحم وغيرها من المناطق ذات الرمزية المسيحية، لهم معاناتهم وهمومهم وقلقهم وأحلامهم بوطن السلام.. الذي يموتون أو يهاجرون من غير أن يتركهم الحلم.
المسيحيّون وحروب الوجود
مرجعية كنسية مقيمة في الأراضي المقدسة توضح لـ”المسيرة”، “أن هناك آثارًا مادية ومعنوية لهذه الحرب على المسيحيين، باعتبار أنهم أول من يتأثر ماديًّا ومعنويًّا، وآخر من يتعافى ماديًّا”. لافتًا إلى “ألّا خيار أمام مسيحيي غزّة غير حماية أنفسهم وتجنُّب الخطر ما أمكن لهم ذلك. فهم غير مشاركين في الحرب الدائرة لا هجومًا ولا دفاعًا، وما يعنيهم حماية أنفسهم ومعالمهم ووجودهم. وأنّ ما يعملون له هو مناشدة الجميع اكتشاف معنى السلام”.
وعن دور الكنائس المسيحية المتعدّدة في القدس والضفة الغربية في حماية مسيحيي غزّة خصوصًا ومسيحيي الأراضي المقدّسة عمومًا، نظرًا لرمزية وجودهم وأهمّيتها، يقول “للأسف ما هو متاح لهذه الكنائس لتقوم به ليس كثيرًا، لكنّ إيماننا وإن كان بمقدار حبة الخردل يجعلنا نأمل بفعل الكثير. فنحن منذ بداية الأزمة رفعنا مستوى التنسيق في ما بيننا ومع المرجعيات الكنسية خارج أبرشياتنا، كما مع السلطات المعنية. والهدف الأول لهذا التحرّك هو حماية مسيحيي غزّة، وأيضًا رد الأذى عن الجميع. كما أننا نعمل دائما بما يتوفر لنا من إمكانيات المساعدة إنسانيًا والمحافظة على وجودنا ليس عدديًا فحسب وإنما لجهة التأكيد على دورنا الفاعل تاريخيًّا في هذه البقعة من العالم التي اختارها المسيح لتكون أرض سلام لا ميدان قتل وحروب”.
عدد مسيحيي غزة قليل ومع ذلك يضيف المصدر “فهو يؤثر بقوة على وضع المسيحيين عمومًا في الأراضي المقدسة ويزيد من صعوباتهم المتعدّدة والمتكرّرة، وفي دفعهم إلى الهجرة القسرية”. ويشدد على أن “هذا النزف أخطر ما يكون على وجود المسيحيين في هذه البقعة، ومن هنا فإن معالجة هذا الوضع يشكل هدفا أساسيًا لدى الكرسي الرسولي في الفاتيكان الذي يتابع الموضوع بتفاصيله ويعمل على المساعدة، وإن كانت حياة الناس الآن هي أولوية”.
أزمة المسيحيين من الناحيتَين الاجتماعية والاقتصادية تشمل جميع الأراضي المقدسة وفي مقدّمها مدينة بيت لحم. ويتجسد ذلك سواء على مستوى الأفراد مع ارتفاع معدلات البطالة، أم على مستوى مؤسسات الكنيسة اللاتينية من مستشفيات ومدارس ورعايا. وعليه، فقد طلب بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا المساعدة، كاشفًا في الوقت عينه عن إتصال مئات الأشخاص من جميع أنحاء العالم عارضين تقديم الدعم الملموس.
والجدير ذكره أنه في مدينة القدس كان مجمل السكان المسيحيين في العام 1944 يتجاوز 30 ألف شخص، أما اليوم فإن عددهم لا يتجاوز 4 آلاف بعدما هاجر الكثير منهم عام 1967 إلى الأردن. وعليه يؤكد الخبراء أن تحسين الظروف السياسية والاقتصادية وإيجاد فرص عمل للحد من البطالة وإقناع المواطن بالثقافة الوطنية، كلها عوامل تساعد على بقاء المسيحيين في أرض المسيح.
مساعٍ بين العمل والأمل
مسؤول في مطرانية اللاتين الكاثوليك في القدس يؤكد أن “العمل على الأرض وبين الناس يؤتي ثماره وقد حقَّق الكثير لمن هم في حاجة إلى عمل تلك الوزنات، ولن نفرّط به نظرًا لحاجة الناس الملحّة إلى هذا الدور”. ويضيف “الهدف الآني هو إنقاذ العائلات وتحديدًا الأطفال وتأمين الطعام والمأوى والدواء للهاربين من جحيم الحرب. أما الهدف الدائم فهو الحفاظ على هذه الخمائر في هذه الأرض لأن وجود المسيحيين فيها رسالة ودعوة من الله قبل أن يكون وجودًا مادّيًا دافعه العاطفة أو المصلحة”.
إلى ذلك تسعى البطريركيات والأبرشيات المسيحية في القدس إلى مساعدة من هم في حاجة إلى مُعين بغض النظر عن الطائفة والعرق، فيما هم يُضطهدون لأنهم مسيحيون، لينطبق عليهم قول المسيح: “سوف يأتي اليوم الذي يقتلونكم ويضطهدونكم من أجل إسمي ويعتقدون بأنهم يقدّمون خدمه للرب”. وقوله: “ها أنا أُرْسِلكم كالخرافِ بين الذئاب، فَكونوا حُكماءَ كالحيَّات، وودعاء كالحمام”…
ومع أنّ أكثر من باحث فلسطيني يُجمعون على أن أوضاع المسيحيين ومعاناتهم في الأراضي المقدّسة لا تختلف عمّا هي عليه عمومًا لدى مسيحيي العديد من دول الشرق. لكن الواقع يؤكد أن رمزيّة مسيحيي الأراضي المقدّسة لا تشبه سواها، مع أن جذور المسيحيين في كل دول المنطقة ضاربة في التاريخ وتَميُّزهم ظاهر للجميع ودورهم قياديٌّ رياديٌّ بامتياز.
وفي سياق الأخطار التي تهدد الوجود المسيحي في فلسطين لا بد من الإشارة إلى ما تعرضوا له بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وذلك من خلال التهويد ومصادرة الأراضي. إذ صادرت السلطات الإسرائيلية آلاف الدونمات من الأراضي العائدة للمسيحيين لشق طريق سريع يربط المستوطنات اليهودية الواقعة جنوب بيت لحم والقدس. وطبعًا غير ذلك من المصادرات والممارسات العنفية.
لكن يبقى أفضل المطلوب هو ما عبّر عنه المونسنيور رفيق خوري، أحد أعضاء اللجنة الأسقفيّة للعلمانيّين – فلسطين، بقوله “إن أمام مسيحيي الشرق ورشة عمل عظيمة وهائلة. وهم قادرون عليها. فكنائسنا هي كنائس الأمل بامتياز. يكفينا تظلّمًا وتشكّيًا، مما يجعلنا عبئًا على أنفسنا وعبئًا على مجتمعاتنا، ويجعلنا شعرة في العجين. ما نحن مدعوون إليه هو أن نكون خميرة في العجين بدل أن نكون شعرة فيه، ونكون شهودًا بدل أن نكون مشهدًا”.
مؤشرات التطوّر التاريخي
تصل أعداد الفلسطينيين المسيحيين المقيمين خارج الأراضي المقدّسة إلى حوالى 2 مليون شخص.
ووفق إحصاء 1922 كان عدد المسيحيين في القدس نحو 14700 شخص، والمسلمين 13400، بينما بلغوا في إحصاء عام 1945 نحو 29350 شخصًا، والمسلمون 30600.
وهبط عدد المسيحيين في القدس عام 1947 إلى 27 ألفا، بسبب الأوضاع الحربية التي نشأت في فلسطين عشية صدور قرار التقسيم.
وكان من المقدَّر أن يصل عدد هؤلاء إلى مئة ألف على الأقل عام 2000، لكن عددهم الفعلي لم يتجاوز 12 ألفا في تلك السنة، وهم اليوم قرابة العشرة آلاف فقط.
خسر 50 في المئة من مسيحيي القدس منازلهم في القدس الغربية عام 1948. ثم صادرت إسرائيل 30 في المئة من الأراضي التي يملكها مسيحيون بعد احتلال العام 1967.
أقل من 45 ألف مسيحي موجودين في الأراضي المحتلة منذ العام 1967، موزعين بين الضفة الغربية التي يقطنها 40 ألفًا، والقدس ما يقارب 4000 مسيحي، وقطاع غزة الذي يقطنه 850 مسيحيًا.
تبلغ نسبة الروم الأرثوذكس 51 في المئة من المسيحيين في الضفة والقطاع، في حين تتوزع البقية على الكنائس المختلفة على النحو التالي: اللاتين (الكاثوليك) 33 في المئة، الروم الكاثوليك 6 في المئة، البروتستانت 5 في المئة، السريان والأرمن الأرثوذكس 3 في المئة لكل طائفة، الأقباط والأحباش والموارنة وغيرهم من المسيحيين 2 في المئة.
يتركز وجود المسيحيين الفلسطينيين في مدن بيت لحم والقدس والناصرة ورام الله وحيفا ويافا وبيرزيت وقرى في الجليل الأعلى.
يُعدّ مسيحيو فلسطين الأعلى ثقافة وتعليما بين الطوائف الدينية المختلفة، وتصل نسبة حملة الشهادات الأكاديمية بينهم إلى 63 في المئة.
الأماكن المقدسة والكنائس والأديرة المسيحية في فلسطين التاريخية تُعدّ بالعشرات، ومنها 95 كنيسة وديرًا في منطقة القدس تتبع لكافة الطوائف.
منذ بدء الاحتلال عام 1967 وحتى نهاية العام 1993 هاجر نحو 13 ألف مسيحي فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، منهم نحو 8 آلاف من الضفة ونحو 5 آلاف من قطاع غزة.
الكنائس التي تتضرر أكثر من غيرها بفعل عامل الهجرة، هي الآشورية والأرمنية والسريانية والمارونية والروم الكاثوليك بما يتجاوز 50 في المئة من أعضائها العرب خارج أرض الوطن الأم.
يشكل الحضور المسيحي في المجتمع الفلسطيني في الوقت الحالي أقل من 1 في المئة فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة. بعد أن كانوا يشكلون قبل نكبة عام 1948 حوالي 11.2 في المئة. والسبب الرئيسي لهذا الانخفاض هو الهجرة.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]