ضيفًا على الرعيان

حجم الخط

هي ذريَّة الأسباط الإثني عشر لا تتغيَّر فيها عقيدة ولا يتبدَّل لها موعد. فكما كانت من قرون تلموديتها الأولى كذلكَ هي اليوم تجنِّد إيمانها الحربي كجندي مراقبة يعتلي برج مراقبتها التاريخية، يراقب زمان ومكان مجيء رب الجنود قاهر الأمم الغريبة، محرِّرًا أرض يشوع بن نون من سلطة وتسلُّط أباطرة الرومان وغير الرومان، وحسابات التلموديين ورموزهم تجزم وتؤكد بأنَّ هذا الربّ العسكري آتٍ برهبة عظيمة يتقدَّمُ خيّالة ألوهي المُدجَّحين أمس بالرماح المُسنَّنة، والأقواس النشّابة، والسيوف البتَّارة، والمدجَّجين اليوم بترسانات طائرات حربيّة، وقاذفات حارقة، وغوّاصات نووية، وقنابل خارقة حارقة، والهدف واحد وحيد ترميم أسوار أريحا ترميمًا شرق أوسطيًا قبالة أسوار أخرى، من دون أن يكلِّف أحد من القائمين على هذه الأسوار المتقابلة المتقاتلة، إيمانه الدائم الاستنفار، إن كان الله الجامع القوة بالمحبة والرحمة قد كلَّف أي أحدٍ من هؤلاء بالدفاع عنه!!

هو يوسف بن يعقوب نجّار الناصرة وضواحيها، الشّاب الطيِّب السيرة، العَطِر السَّمعة الهنيِّ الأخلاق، مازال كما كان منذ ألفين وثلاثة وعشرين سنة، منهمك الفكر بحثًا وتفتيشًا عن أتانٍ معقول الكلفة، سلس القيادة، أليف المرافقة، وأتان يوسف المرغوب هو الذي يأتمن ظهره مركوبًا أمينًا موثوقًا به لمسافة طويلة شاقة، تحمل خطيِّبته الثقلى بحبَلٍ سريِّ عجيب فسَّره له وحده ملاك الرب، وجبر بخاطره المُطمئن إلى صوتٍ يغمر باله المضطرب:

“لا تخف يا يوسف من أن تأخذ مريم إلى بيتكَ وعِهدتك وبرارتك وأمانتك، إنَّ غريمكَ على قلبها وبتوليَّتها وحَبَلها هو الروح القدوس ذاته. الله الآب يرسل ابنه الوحيد نورًا للأمم وأنتَ من ستربّيه وتحميه وتكبِّره بالقامة والحكمة والمعرفة، ومتى أجتاز ربيبكَ أيها الأب النجار، مسافة فدائه الأقدس بين خشبة مزوده وخشبة صلبه، أيُّ نجّار بعدك مهما تفوقت حذاقته وتوسعت صلاحياته، أن يتجرَّأ ويتجاسر  ويُقدم على صقل تابوت عهد آخر يحتوي شرائع العهد القديم”.

أمامكما طريق موحش مقفرٌ تمشيانِه من ناصرة الجليل إلى مسقط رأس الآباء والأجداد بيت لحم، كي تكتبان إسميكما في إحصاءات يوليوس قيصر. هل صعُبت على مشاعرك المرهفة يا يوسف أنت الذي تعبت وشقيت وكدَّيتَ، كي تؤمن لمعارفك وعشيرتك أبوابًا متينة أمينة لبيوتهم، أن لا تتوفَّق بباب واحد يفتحه لاستضافتكما أيّ حافظٍ لجميلك ومعروفك متأهلاً مترحبًا بمسافر شهم وصبيَّة زنبقية، حلَّ بهما إرهاق المسير المفروض عليهما فرضًا إمبراطوريًا عليهما. كم كان مرَّا على قلبك الكلي العذوبة يا مريم أن لا تفتح ربَّة دار شبّاكها، علَّها تميِّز علامة وجه التي شرَّعت شبّاكها العذري المزنَّر بالحبق والقرنفل والمنتو، لتصغي إلى رسالة جبرائيل المُرسَل من لدنِ الله وتجيبه عليها إجابةً مكتملة بالبراءة والطاعة والعفوية: “ها أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولكَ “!

الخطِّيب النّاصع النيّة والضمير، والخطيبة المزينة الجسد والروح بأقحوان بخور مريم، يواصلان ملاقاة موعد الكوكب المشرق من يعقوب، إتمامًا لعرس حمل الله على الإنسانية جمعاء. عروسة العذرية وعريس الأمانة كانت مفارق السُّبلِ المقفرة جهاز عرسهما ومشاعر خواتمهما وشعائر ارتباطهما. هما هما يتوغَّلان داخل مملكة الغربة القصيَّةِ وظلمات الليل الحالكة أبراجها، وصقيع الهواء القطبي أبوابها، ورياح الكوانين نوافذها، وسكينة أنفس الوداعة المريمية اليوسفية منافذها، والثقة المطلقة بمشيئة القدوس دليلها، ونقيق الضَّفادع وصرير الجنادب، وعواء الثعالب والذئاب أوركسترا موسيقاها، والنجوم المتسللة من جفون الغيوم زينتها ومصابيحها!!

يا رعيان مغارة القفر البعيد، موِّنوا مواقدكم بالأحطاب الملمومة من غابتكم، المُجمَّعة من جواركم، وأجِّجوا ناركم المستعدة لمكافحة البرد القارص. فوِّروا سخاء حليب نعاجكم وافتحوا ضُرَفَ ألبانكم وأجبانكم وقريشكم، وابسطوا خبزكم المرقوق، فالوافدان إلى دائرة الإحصاء الإمبراطوري قد صارا على مرمى بشاشتكم وتأهلكم، وبعد قليل يباركان ويتباركان برحيب ملقاكم وأصيل أخلاقكم وشهيّ زادكم، ها هما على بابكم واقفين يتضوَّران جوعًا، يرتجفان دنيقًا، يلهثان تعبًا وإجهادًا وإنهاكًا، يتبلَّلان رذاذًا ووحدةً! يا رعيان الأغنام والحملان والماعز والجداء، ها السماوات أوشكت أن تفتح أبوابها وتطلق رفوف هللوياتها ورفيف أجنحة ملائكتها، وأنتم دون سواكم من ستتشرفون وتتأهّلون بالملكِ الرّضيع المزمع لاحقًا أن يقيم الحملان عن يمينه والجداء عن يساره حول عرش ملكه، وجميعكم يا شهود لحظات ميلاده، قد انتخبكم من لحظة تفتيح عينيه الطفوليتين الثاقبتين أصفياءً من نخبة حملانه!

يا رعيان مضافة ابن الله، لكم وحدكم أُعطيت صلاحية استقبال إنعامات الحُبلى من الروح القدس ورفيق عمرها ودروبها العفيف الأطهر، فحظيرتكم النسكية هاجعةٌ في الحقول البعيدة، وملك الملوك وربّ الأرباب قد اتَّخذ قراره المسيحاني الحاسم بعدم الولادة داخل سور بيت لحم مدينة داود الملك، تحاشيًا لمرور مجيئه على الأرض تحت تاج ملك أرضيّ متناسل من جميع تيجان أباطرة الدنيا!!

كنجم صبحٍ عميق منبثق من ليل نسكيّ، هكذا انبثقت يا يسوع من فيض رحمة أبيك القدس وطهر رَحمِ أمَّك سلطانة الحُبِل بها بلاد دنس، بعد تنسُّكِك تسعة أشهر داخل محبسة أحشائها، وها أنكَّ تجتاز مداك الألوهيّ وأبعادك الأزلية لتصير في نزيز اللحم والدم وهزيز نايات ومنجيرات المُتيقِّظين على قطعانهم يقظة السَّهر الواعي الحريص. الحنونة لفَّتك بالقمّاطات وقد أفسحت المجال لأحرف التِّبن كي تدوِّن وثيقة ولادتِك على لحمكَ الرّهيف الطُراوة، وبعدها أرضعتك عصارة حنوِّها ولهفات أمومتها، لكنَّك استعجلت النهوض إلى ذراعي يوسفك دون انتظارك ذهب ومر ولبان ملوك الشرق الآتين من بلاد فارس، استعجلت التَّجوال الطارئ السَّريع على أمم الكرة الأرضية وهي تخلط بين الاحتفال بوصولكَ المسكون بمحيّاك الخلوق المورَّد بالوادعة والسكينة، إلى أرض البشر وبين احتفالاتها الصَّاخبة بجميع طقوس صنماياتها وتصنُّماتها!

مغائرٌ ضخمة باهظة الكلفة يدَّعي مصنِّعوها وحاملوا مقصِّ شريط افتتاحها أنها رمز لمغارة ولادتك.. كم تحمَّستَ يا يسوع لمصادرتها ونقلها وإرسالها حطبًا لأصدقائك رعيان بيت لحم..

مآدبُ محاشٍ ومشاوٍ وشهيّاتٍ كم تمنيَّت يا ابن الإنسان لو اتَّسع لأحمالها وأثقالها ظهر أتان يوسف، كي تدور بها بمعيَّة أبوَّته على أطفال أشباه لك، لا مأوى لهم ولا مأكل وملبس وهدايا ولا عيد، هم أشباهك المولودين ولادتك بين الفقرِ المدقع والتَّشرُّد المطلَق. هؤلاء هم أخوتك الصِّغار الذين أتيتَ تُجلسهم إلى جوارك بين ذراعي أبيك يوسف، يحملكم إلى بيت لحم اللقاء والمحبة، يهزجون لك أهازيج الفرح العظيم ويهللون تهاليل الشاروبيم وينشدون أناشيد السّاروفيم:

* الشعب الجالس في الظلمة قد أبصر نورًا عظيمًا.

* المجد لله في العلى وبين الناس المسرَّة.

* قد ولد لكم مخلص هلل هلل هللونوي.​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل