بحسب مؤسس علم التحليل النفسي الألماني سيغموند فرويد “إن زلات اللسان هي أكثر الأشياء التي توضح مكامن الإنسان من دون نفاق وكذب. فهي تقول ما يؤمن الإنسان به، حيث أنها ليست أخطاء بريئة، ولكنها تعبّر عن مكنونات داخلية وأفكار ورغبات لا واعية، قد تكون قُمعت في وقت مضى”. وبحسب عالم النفس الأميركي دانيال ويغنر، فإن “كبت بعض الأمور قد يتسبب بالبوح بها من دون قصد”.
لا تختلف خلفيات “الزلات” في علم النفس وعلم تحليل النفس المشار اليهما، عن خلفياتها في علم السياسة وقراءتها وتحليلها وممارستها، والأمثلة على ذلك كثيرة وزاخرة بالاستنتاجات وترجماتها على حقيقة مآلها ومقاصدها الجوهرية.
نتوقف عند المستجد السياسي والعسكري في فلسطين ولبنان والإقليم الذي طفا على سطح الاهتمامات والهموم منذ “طوفان الأقصى”، وما لحقه من ترددات على غزة والإقليم والعالم.
لن يستطيع المحلل والقارئ أن يسقط الدور المحوري لحركة المقاومة الاسلامية “حماس”، والتي كان لها دور الريادة والبطولة العسكرية في “عملية الطوفان”، ومن بعدها القيادة السياسية المحاورة في محاولة “وقف العدوان”، بوقف إطلاق النار والهدنة الإنسانية بالمفاوضات والتبادل.
في هذا الإطار من المفيد مراجعة التدرج في مواقف قياديي “حماس”، بين “التصاعدي التصعيدي” و”البراغماتي الواقعي التراجعي”، لمحاولة إسقاط النظرية النفسية الفرويدية على اداء وتصاريح قادة حماس ومسؤوليها سياسيًا، عسكريًا، مبدئيًا، واستراتيجيًا.
في اول اعلان لعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول من العام 2023، دعا القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح المسلح لحركة “حماس”، محمد الضيف، “إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”، لتعبّر بعدها “حماس” عن عدم رضاها وخيبتها من اداء المقاومين في لبنان، إذ صرّح المسؤول الحمساوي خالد مشعل في 16 تشرين الأول من العام 2023، أن “الحزب قام مشكورًا بخطوات، لكن تقديري أن المعركة تتطلب أكثر، وما يجري لا بأس به لكنه غير كافٍ. ورأى أن المطلوب اليوم أكثر من طوفان، هكذا يصنع التاريخ، ليس بالخطوات المحدودة الخجولة المترددة، إنما يُصنع بالمغامرات المدروسة”، وفي 17 تشرين الأول، قال المسؤول في الحركة موسى بو مرزوق: “موقف محور المقاومة مخيّب لآمال الفصائل الفلسطينية”، لتأتي بعدها تصاريح ولقاءات محاولة محو وتكذيب “الزلات” الكاشفة للحقيقة.
اليوم وعلى أبواب الهدنة الإنسانية الثانية وأمام كثرة الحديث عن مفاوضات ومبادرات والبحث عن حل نهائي لغزة وفلسطين والمشكلة الفلسطينية، نقع على تصاريح ومواقف “براغماتية واقعية تراجعية” لمسؤولين في حركة المقاومة الاسلامية “حماس”، اعتبرها بعض مطلقيها لاحقًا انها “وضعت في غير إطارها” أو “فُهمت خطأ”.
من المفيد أن نعطي بعض النماذج عن تبدل المواقف أو حتى التماهي مع مواقف العدو الإسرائيلي وأهدافه، (عن خطة “ترانسفير”)، تهجير أهل غزة الى سيناء في مصر، إذ صرح المسؤول في حركة حماس أسامة حمدان في 6 كانون الأول من العام 2023، “أن أي محاولة لدفع الفلسطينيين إلى خارج غزة لا يعني أن القضية الفلسطينية انتهت، لكنهم سيثبتون حيث هم وسيستمرون في المقاومة.
لا أحد يتخيل أن صحراء سيناء ستبتلع الفلسطينيين، بل على العكس تمامًا، ستكون منطقة الحدود هي قاعدة مقاومة أكثر رسوخًا تجاه الاحتلال، إذا ما ظن الاحتلال أن إخراج أحد إليها سيكون حلًا”، ليأتي الفهم والرد فلسطينيًا، فيعتبر المتحدث باسم مفوضية التعبئة والتنظيم في حركة فتح عبد الفتاح دولة، في 7 كانون الأول 2023، أن كلام حمدان “قبول ضمني بتهجير الفلسطينيين إليها، وهذا يتعارض مع الموقف الفلسطيني بكل مكوناته، وكذلك الموقف المصري الحازم برفض التهجير القطعي إلى سيناء”.
ـ عن الاعتراف بإسرائيل:
في 14 كانون الأول من العام 2023، قال القيادي بحركة حماس موسى أبو مرزوق في حوار مع موقع “المونيتور” الناطق بالإنكليزية، إن “الحركة تسعى إلى أن تكون جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية، وإنها ستحترم التزامات المنظمة”، في إجابة على سؤال بشأن موقف الحركة من إسرائيل، وهو ما اعتبره “المونيتور”، “تلميحًا إلى استعداد الحركة للاعتراف بإسرائيل.
وأفاد “المونيتور”، ومقره واشنطن، بأنه عند سؤال أبو مرزوق بشأن توضيح موقف “الحركة” من إسرائيل، قال القيادي إن الإسرائيليين “يجب أن يحصلوا على حقوقهم، ولكن ليس على حساب الآخرين”. وأضاف: “يجب أن تعودوا إلى الموقف الرسمي، الموقف الرسمي، هو أن منظمة التحرير الفلسطينية، اعترفت بدولة إسرائيل”.
وعلى الرغم من نفي بو مرزوق لمضمون “بعض حديثه” لـ”المونيتر” الذي اعتبر كلام المسؤول الحمساوي، “تحولًا كبيرًا عبر طرح الاعتراف بإسرائيل”، فان كلام بعض المسؤولين في حماس يدخل في نفس إطار “المضمون المنفي” لبو مرزوق، فعلى سبيل المثال، يقول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في 13 كانون الأول من العام 2023: “إن الحركة منفتحة على نقاش أي أفكار أو مبادرات تفضي لوقف العدوان، وتفتح الباب على ترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة وقطاع غزة”، وهو ما يتماهى مع بيان حركة حماس في 14 كانون الأول 2023 اذ ورد “الحركة منفتحة على الجهود التي تؤدي إلى تشكيل مرجعية وطنية على طريق استرداد شعبنا لحقوقه الوطنية وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”.
في المحصلة تكاد المهارات الخطابية الحماسية العاطفية والمنمقات اللفظية تسقط أمام أحكام العقل والتحليل العلمي، أكان سياسيًا أو نفسيًا، لتسقط معها أوهام النصر المبين وإزالة إسرائيل من الوجود، أمام الريبة من واقع الصفقات والمؤامرات والخيبة من مُوَقِّع التنازلات والتراجعات.