تركوا منازلهم الدّافئة والتحفوا ثلج الجبال. منهم من ترك أمًّا أو زوجة أو أولادًا إيمانًا منه بواجب الدّفاع عن وطنه لأنّ الخطر دقّ الأبواب. هكذا هم أبطال المقاومة اللبنانيّة. آمنوا بقضيّة الوجود المسيحي الحرّ في لبنان والشرق. وحملوا قضيّتهم حتّى نجحوا بلبننتها، وليس العكس؛ كما يفعل اليوم مدّعو المقاومة الذين يصنّفونها في إطار إيديولوجيّ مذهبيّ لا تشبه تاريخ لبناننا بشيء.
لم يحتفلوا بعد هذا القرار بعيد مع أحبّائهم. بل أعيادهم كلّها أضحت على الجبال وفي المتاريس، لنعيّد نحن مع أحبّائنا وفي منازلنا. حتّى في عيد الميلاد، الذي يرمز إلى عيد تجدّد الحياة مع ميلاد السيّد الحقيقي، لم يتركوا واجبهم لحظة ليعودوا إلى تلك الأحضان الدّافئة.
أذكر في تلك الأيّام يوم كنت لمّا بلغت العاشرة بعد، عندما أسأل والدتي عن أخي، لماذا لا يعيّد معنا في عيد الميلاد؟ كانت تجيبني والغصّة تخفي نصف صوتها: “إن ترك مهامه وأتى ليحتفل معنا في هذا العيد، قد لا نعيّده مرّة ثانية”. وهكذا كنّا نحتفل بالميلاد بغياب أخي. وبصلاة أمّي وأمّهات كثر في الميلاد وهنّ ودمعاتهنّ وحدهنّ، بقي أخي سالمًا، وبقي لبنان حرًّا، ورحلت أمّي، وبقينا معًا اليوم نعيّد بالميلاد.
…فور عودته من مهامه كان يخبرنا عن جمال الميلاد بين الرّفاق؛ محظوظون هم لأنّ قائد ثكنتهم كان يحتفل معهم بالعيد ككاهن، فيشعرهم بخشوع هذه اللحظات، لاسيّما عندما كانوا يرابضون في الثلوج في عيون السيمان، ووطى الجوز، والعاقورة وغيرها من الدّساكر والقلاع. يحفرون مغارة صغيرة في الثلج، ويضعون فيها الطفل يسوع، ويشعلون نارًا متواضعة بالقرب منها، على بقعة ترابيّة، غفلت عنها الثلوج، علّهم يشعرون بالقليل من الدّفء. فكان يغلبهم برد الثلج، ليعودوا فيغلبوه بدورهم بدفء ترنيمة “عيّد الليل” بصوت “أبو صخر” الأجشّ، والرّياح الباردة تعصف بهم كأزيز الرّصاص.
كان الاحتفال بليلة الميلاد عند الرفاق واجبًا مقدّسًا تمامًا كواجب الدّفاع عن لبنان. ففي وجدانهم أنّ اليد التي تحمل بندقيّة، إن لم توازيها في الثانية مسبحة الصلاة، فستحوّلهم من مقاومين نُبلاء إلى ما لم يسعوا إليه يومًا.
ما يستوقفني في هذا العيد، صورة لسمير جعجع وهو يتناول العشاء على إحدى الجبهات في مدينة بيروت المكلومة مع رفاقه ليلة الميلاد. كنت دومًا أطرح السؤال بيني وبين كِياني: “ألا يملك هذا الرّجل أيّ عائلة، أو بيت، أو أصحاب، أو حتّى دفئًا ليحتفل بالميلاد معه”؟ وعندما كبرت الأيّام في كياني، عرفت أنّ بيت هذا الرّجل وعائلته وأصحابه ودفأه هم أولئك الذين نذروا أنفسهم لنبقى نحن نحتفل بالميلاد في منازلنا. ولتبقى كنائسنا دافئة في الميلاد، هم كانوا يتدفّؤون بنسائم الثلوج، ويجوبون الشوارع والأزقّة ساهرين ومصابيحهم مشتعلة لتبقى شعلة الميلاد في قلوبنا نحن مشعّة.
ومضت السّنون، ميلاد يسلّم على ميلاد. بعضهم اليوم يحتفل بالعيد مع ربّ هذا العيد في السّماء. هم صاروا ذخيرتنا في الميلاد. شفعاؤنا هم، يزوروننا في كلّ لحظة، ومع كلّ دمعة أمّ صامدة حتّى اليوم تعدّ كم ميلاد قضت تنتظر لقاء فلذة كبدها الذي سبقها إلى أحضان الميلاد الحقيقي. ترى هل يعرف أولئك الذين يعملون ليل نهار على تشويه صورة هؤلاء الأبطال، ولاسيّما في زمن الميلاد، كيف تقضي الأمّهات اللواتي ما زلن حتّى اللحظة ينتظرن أيّ إشارة عن أبنائهنّ المخفيّين قسرًا في السجون السوريّة ليلة الميلاد؟
على الرغم من الغصّة والألم وحسرة الفراق، لاتزال بسمة الطفل يسوع مرسومة في عيون هؤلاء المقاومين الذين لم يتعبوا. من مغارة حفروها في الثلوج، أو في ثكناتهم الباردة، ها هم اليوم بعدما أعادوا بناء كنائسهم في قراهم، وباتوا بدورهم آباء، وبعضهم أجدادًا، لا زالوا يحتفلون بالميلاد مع أولادهم وأحفادهم، وفرحهم أكبر لأنّ فلذاتهم يشيدون مغارة الميلاد في الكنائس وساحات القرى، ويعلون الأشجار الميلاديّة المزيّنة بالأعلام اللبنانيّة والقوّاتيّة، ولأنّ بعضهم يحمل في جيناته شعار “دومًا أوفياء”، يأبى ألّا تكون صورة شهيد لم يعرفه يومًا إلا بالقرب من مغارة سيّد الميلاد الحقيقي.
إصرار أبطال المقاومة اللبنانيّة على الاحتفال بعيد الميلاد أزهر هذا الفرح الذي تعيشه قرانا ومدننا اليوم، رغم الصعوبات التي نمرّ بها، إلّا أنّ إصرار هؤلاء في زمنهم على حرصهم في الحفاظ على روحيّة الميلاد، هو الذي حفظ رجاء الميلاد في قلوبنا. نحن مدينون لهم. فلولا لم يزر الميلاد هؤلاء، لما كنّا نحن اليوم هنا. ومخطئ مَن يظنّ أنّ فرح الميلاد هو وليد الساعة؛ إنّما هذا الفرح الذي نصرّ على عيشه في كلّ ميلاد، نابع من مسيرة هؤلاء الأبطال الذين حافظوا على الميلاد، ومن قدسيّة الشهداء الذين باستشهادهم هم فقط، بقي الميلاد رمزًا للوجود المسيحي الحرّ في لبنان. حتّى صار الميلاد لبنانيًّا ولمّا يعد فقط ميلادًا مسيحيًّا، لأنّ لبناننا هو لبنان الميلاد؛ ورجاؤنا دومًا في الميلاد لأنّنا دومًا أوفياء.