إنّ مشهدَ مزودِ الميلاد، عَصِيٌّ على مَنْ لا يعرفُ أنّه حِليةٌ كونيّةٌ هي الكمالُ في الألوهة. فالمزودُ، بِمَن فيه، وحولَه، يشكّلُ مفهوماً محوريّاً في أعمالِ الله، أو أسمى أعمالِهِ التي لا تُحصى، لأنّهُ الهيكلُ المقدَّسُ الذي طوَّعَ المستحيل، إذْ أقامَ ارتباطاً أبديّاً بين الإنسانِ والإله، لا ينتهي باشتياقٍ الى الجلجلة.
صورةُ المزود هي أكثرُ من مشهدٍ يعلنُ عن أعجوبةٍ لمَنْ ينتظرونَ أن يتشَفّوا من زمانهم، بها. إنّها شَوقٌ الى بُعدٍ للحياةِ لم تَرْقَ إليه في تاريخها، فالربُّ ساوى، في لبوسه جسداً، بينه وبين الإنسان الذي كان منبوذاً، وفي ذبولٍ، فأصبح، في مشهدِ المزود، جزءاً من نفس الله، ونسخةً من شكلِهِ، ووُهِبَ قدرةَ إعطاءِ إشارةِ بَدءِ تَطوافِ الخلاصِ على العيون.
في المزود، أشرقَت طلائعُ المحبةِ التي أكّدَت على أنّ علاقةَ الله بالإنسان ليسَت دَوراً في الزّمان، بقَدرِ ما هي نوعٌ من عشقِ اللهِ إيّانا، مَشهَدَهُ في المزودِ الذي يحملُ شَوقاً دفعَ بالآبِ الى مغامرة إرسال إبنه الى الأرض التي كانت جثّةً متكلّسة، لينبشَ قبرها، ويخرجَها قامةً على ساقَين. فالمزودُ، في جوهرِهِ، هو أعنفُ نكبة للخطيئة، نكّلَت بشياطينِها، وأدخلَت الدّنيا تحت وصاية الخلاصِ بالمحبّة، من هنا، أعلنَ المزودُ الشّروعَ في إنجاز ذلك الجسرِ بين عالَم السماء وعالَم البشر، أو بين الله اللّامتناهي غيرِ الخاضع للوقت، وبين الإنسان المحدود.
لقد فرضَ المزودُ انقلاباً جذريّاً في مفهومِ الحقيقة، فبعدَ أن كانَ طقسُ عبادةِ الآلهةِ الغيبيّين أصلاً في المفهومِ الكَونيّ، بحيثُ أنّ هذه الآلهةَ كانت تشكّلُ مبدأَ العقائدِ القديمة، والذي ينبثق منه وجود العالم، وهذا وَهمٌ ميثولوجيٌّ أَقحمَ مفهومَ الحقيقةِ في إشكاليّاتٍ فيها تنافرٌ، قرَّرَ اللهُ أن يكشفَ تلكَ الحُجُبَ عن الحقيقة، فأرسلَ ابنَه وسيطاً يُخرجها الى النور، وبهذا بدأ عهد جديد، هو عهد النعمة.
لم تكنْ قراءةُ مجتمعِ ما قبل المزود، للمزودِ بالذّات، قراءةً بهيّة، بِقَدرِ ما كانَت جَبهَويّةً ترفضُ، بشكلٍ قاطعٍ، أن يُجهضَ المولودُ صيغةَ الشعب المختارِ الموعودِ بحُكمِ الكون، وحيداً، ويُرغمَهُ بالتّنازلِ عنها لمصلحة المحبة الكليّة. وهكذا، هدم المزودُ الزّعمَ بأنّه سيكونُ الجهازَ الإيديولوجيَّ الذي يسلّطُ طبقةً معينةً على البشرية جمعاء. وفي المقابل، مارس المزودُ، بلاهوتهِ، تحريرَ الناس من إرغامِهم على الإمتثال الى القهر والدموع، وخلقَ، في ذواتِهم، كياناً سماويّاً خارجاً عن إطارِ الزمانِ والمكان، وهذا، بالذات، هو الحالةُ الثوريةُ للمزود، أو ما يُسمّى بالمبادئِ الكونيةِ لوجودِ يسوع المسيحِ الإنسان.
إنّ قراءةً ناضجةً لمفهومِ المزود، تُظهر أنه الطريق لاندماجٍ متواصلٍ بالله، وليس بالتّجريدِ، والتّفريق، والنّأي، بل في نطاق الملموسية، والحركة، والتّجسيم. كذلك، أزهقَ المزوُد صورةَ الإلهِ الوثنيّ، المخيف، وأكّدّ على صورة الإلهِ الذي يُبَرِّئ ولا يُجَرِّم، يخلِّصُ ولا يظلم، بالرَّغم من العداوة التي نسجَها الإنسانُ مع ربِّه، ومع نفسِه، ولِقُرون. فالمزودُ هو كلامُ قلب الله الى قلبِ العالَم، بعيداً عن الأساطيرِ المُشَوِّهة لأصلِ الكون، وهكذا، تَمّ كشفُ الحقيقةِ لذاتِها، وللإنسانِ الذي صارَ، بها، جديداً.
هل كانَ العالَمُ ينتظر من الله دليلَ إعجاز؟ إنّ اللهَ غيرُ مُلزَمٍ بذلك، ولا يكلِّفُ ذاتَه حسرةَ التضحية بإبنِه الوحيد، إرضاءً لمصنوعاتِه. لكنّ اللهَ ذا الحكمةِ، والمحبّة، رأى أنّ المزودَ هو الوقتُ الوحيدُ الذي يُمكنُ أن يُرفَعَ فيه كأسُ الجسد من دون جسد، أو هو الآيةُ الوحيدةُ التي اختلفَ، فيها، أَسلوبُ دَفعِ الله للآيات، فبدا، بذلك، الأقوى والأَظهر، ربّما لأنّه أراد أن يُنبِئَ بعلامته.
إنّ المزودَ ليس عقدةً قصصيةً بحاجة الى تَراجِم، وليس عِظةً منمّقةً بالوصفِ لتُبهِر، إنّه قولُ الله لنا: “السلامُ عليكم”، لكنّ مَنْ أجابَ اللهَ، في الناس، قليل!!!.