الأب يوسف عوده يكتب: تاريخ المسيحيين المقاومين في رؤية سمير جعجع ـ 1 ـ

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1748

حين قرر الله الآب التدخل المباشر في حياة البشر، أرسل إبنه الوحيد إلى أرضٍ محددة لينطلق منها في التدبير الخلاصي ليخلِّص البشرية من عبودية الخطيئة ويعيدها إلى حرية أبناء الله.

تجسّد الرب يسوع في بيت لحم وسار على شاطئ الجليل وصعد إلى أورشليم لأن رسالته الخلاصية لا تتم إلا في أرض معينة كانت في فكر الله منذ التكوين وانطلاقاً من جماعة بشرية خاصة اختارها الله الآب منذ الأزل.

ومنذ القرن السابع ميلادي وحتى يومنا، لم يتغيّر شيئاً: إرادة الله ثابتة والشعب الماروني هو هو، والأشرار ما زالوا متربِّصين به شراً، والمفارقة أن الأشرار، تتغيّر وجوههم وصفاتهم ولغتهم، لكن الهدف واحد: تغيير هوية شعب الله واقتلاعهم من هذه الأرض. لذلك اتخذ القرار عام 1975 على مستوى الدول العظمى، إجلاء المسيحيين من لبنان فورا، لكن فاتهم أن المسيحي في لبنان لا يساوم على أرضه لأنها معمّدة على إسم الله، فاختار أن يسير على درب الصليب ليذكره الرب يسوع متى أتى في ملكوته، بدل أن يركب الباخرة ويخرج من التاريخ اللبناني كما منذ زمن بعيد المماليك والعثمانيون…

مقاطع اخترناها من مقدمة كتاب “مسيحيون مقاومون” للأب يوسف عوده سكب فيه عصارة فكر راهب مسيحي مقاوم وسرد على صفحاته سيرة كبار لعبوا دورا في تاريخ الأحداث اللبنانية وقارنها مع الأبحاث اللاهوتية والتاريخية ليصل إلى النتيجة التالية: “هناك علاقة متينة بين إرادة الله من خلال شعب لبنان وبين الاضطهاد الدائم لهذا الشعب. هناك درب صليب لهذا الشعب تنتهي دائما بمجد القيامة، لأنه شعب الله وله رسالة انطلاقاً من جبل لبنان. فالشعب الذي أعطى خمسة قديسين معلنين من قبل الكنيسة في أقل من مئة سنة، لا بد أن يكون هذا الشعب تحقيقا لملكوت الله على الأرض”.

في العدد الأخير من سنة 2023 التي حملت عصارة تاريخ وطن وشعب ينتظر الخلاص كما الخروج من سلطة الفراغ التي فرضها حكام الممانعة، اخترنا الشخصية التي بدأ بها الراهب الماروني سيرة “مسيحيون مقاومون” إنه سمير جعجع.

في “المقدمة” كتب الأب عوده: “حان الوقت الآن لكي أشهد لمرحلة كُتِبَ عنها الكثير ولكن بأسلوب بخسٍ طغت عليه المادية والعبودية. سأكتب هذه الشهادة عن رجال كانوا في القرار، يوم خُيّروا بين الموت في جبال لبنان والهجرة إلى أصقاع العالم، حيث لا رسالة ولا شهادة ولا تحقيق لإرادة الله، بل العيش اليومي وتعداد الأيام ليموتوا لاحقاً عن حياةٍ لا خلود لها، فاختاروا النصيب الأفضل إذ حقّقوا مشيئة الله في لبنان ودخلوا إلى سفر ملكوته من دون عناء سفر.

سأشهد لرفاق قاوموا جحافل منظمة، عُدَّةً وعديدا، بما توافر لديهم من خبرةٍ وسلاح، لكنهم كانوا الأعمق إيماناً والأكثر بذلاً بأنفسهم في سبيل من يحبون. سأنقل مشاعرهم يوم فضلوا الموت أحرارًا على العيش الذلّ، وسأكتب رأيهم بحربٍ فُرضت عليهم وحُمِّلوا وِزرها عندما أوقفوها بقرار شخصي منهم. ستعرفون قيمة من حملَ أشلاء جسده لكي نحيا بسلام وطمأنينة.

 

في هذا العدد الأخير من السنة ننقل ما أورده الأب عوده تحت عنوان “مناضلون”:

يوم استعرت الحرب في لبنان عام 1975، تجنّدت جميع فئات المجتمع للدفاع عن الوطن وحماية أهله. لم تقتصر المقاومة على الشباب فقط، بل نشأت بصلوات الرهبان والكهنة وأقلام المفكرين والمعلمين، كما شارك في الدفاع عن لبنان الأطباء والممرضات، زوداً عن النساء اللواتي دبّرن حاجات المقاومين وطعامهم.

قصدتُ بعض النخبة منهم وتكرّموا بأسطر معبرة عن حقبة مصيرية من تاريخ لبنان دوّنوا وجهة نظرٍ تعبّر عن شعب مقاوم استبسل كي يبقى لبنان، وتخبرُ عن رجال قاوموا المخرز بأعينهم وانتصروا لأنهم شعب أراد الحياة فاستجاب له القدر. بالإضافة إلى ذلك كتبوا إنصافاً لمقاومين بذلوا أنفسهم كي نتنعم بوطن وهوية عوضاً عن بطاقات لجوءٍ سياسي إلى أصقاع العالم.

 

الدكتور سمير جعجع

إنه القائد الذي قلب الطاولة على الجميع بعد استشهاد الشيخ بشير الجميل حين تضعضعت القيادة، فحمل راية المقاومة وصرخ: “الأمر لي”… زرت الدكتور سمير جعجع في مكتبه وحصلت على هذه الخلاصة عن تاريخ المسيحيين المقاومين في لبنان.

يعتبر الدكتور جعجع أن مسيحيي لبنان عمومًا والموارنة خصوصا شعب مقاوم. لقد بُنيت القرى والبلدات المارونية ضمن حصنٍ حصين في بطون الجبال وأعماق الوديان لتكون عصية على الجيوش الفاتحة وأنجبت هذه التحصينات شعباً مقاوماً وسيطر المنطق المقاوم على اللاوعي التاريخي لدى الموارنة منذ تأسيس البطريرك يوحنا مارون الكيان الماروني، وحتى يومنا حيث يعيش الموارنة هذا اللاوعي المقاوم.

يقول الدكتور جعجع: حين فشلت الدولة اللبنانية في حماية المسيحيين عام 1975، وتقاعست عن أداء واجباتها، حرّك اللاوعي المقاوم عقول الموارنة وانتفضوا على مخطط إزالتهم من لبنان وتهجيرهم وتكودروا في مقاومة مسيحية في وجه المخطط الفلسطيني. بما أن الشعب المسيحي شعبٌ لا يعيش إلا في نظام عام، أسس دولة بديلة قوامها جبهة لبنانية بديلة عن الحكومة، والمقاومة العسكرية بديلة عن الجيش، بالإضافة إلى الهيئات الشعبية لتتولى أعمال البلديات وشؤون المواطنين اليومية من معيشة وطبابة وتعليم.

بحسب الدكتور جعجع لا مكان للمسيحي عموماً والماروني خصوصاً سوى لبنان، لأنه ينتمي إلى شعب يتفاعل مع بيئته ولا يستطيع العيش على الهامش في بلدٍ لا يشبهه في التطور، كما يرفض تقييد حريته الفكرية والدينية، لذلك لا يرى مستقبله إلا في كنف دولة تضمن له العيش بكرامة مع باقي الديانات، يعيش فيها قناعاته الإيمانية والفكرية، ويعمل على تطويرها دائماً لتتماشى مع تطلعاته الريادية في العلم والثقافة. لهذا السبب يدافع دائما عن الدولة لأن استمراريته من بقائها.

أثقلت هذه المهمة كاهل المسيحي في لبنان لأنه طوال الحرب كان عليه الدفاع عن وجوده على جبهة أولى، والحفاظ على وجود الدولة واستمراريتها على جبهة ثانية.

ترافق التنظيم العسكري مع معالجة القضايا الحياتية اليومية من بطاقة الاستشفاء المجانية وخلق إيرادات مالية شهرية لعدد من العائلات المهجرة عبر مشاريع توأمة مع مدن أوروبية. كما أوجد شبكة حافلات للنقل العام المشترك وسيّرها بشكل منتظم لامست أعالي الجبال. ونعمت المناطق الشرقية باستقرار أمني وحياتي واجتماعي ما رفع قيمة العقارات وشجع على الاستثمارات التجارية والسياحية.

 

البعد الروحي في حياة سمير جعجع

…ينظر الدكتور جعجع للرهبان على أنهم يمثلون البعد الروحي في المجتمع، لأنهم يحملون بذور الوجود الإلهي ويوزعونها على الناس من خلال خدمتهم الديرية والكنسية والاجتماعية. بالإضافة إلى القديسين منهم الذين يعطون الرجاء للمسيحيين في البقاء والثبات في هذه البقعة لتحقيق إرادة الله الآب بين شعبه، ونشر رسالة المسامحة والسلام في المنطقة.

كما يشكل الرهبان البعدين الاجتماعي والتاريخي للشعب اللبناني من خلال تقاليدهم الحياتية وأديارهم وهم مثال البعد الاقتصادي للشعب من خلال استثمارهم الأراضي الزراعية والمؤسسات التربوية والاستشفائية والاجتماعية، إذ تقوم هذه المؤسسات برسالتها المسيحية وتؤمن فرص العمل لكثيرين من الشباب المسيحي.

بالإضافة إلى ذلك، يشكل الرهبان قوة دفع روحية وأخلاقية للمجتمع، فهم يعلّمون أسس الأخلاق المسيحية وينشرون تعاليم الكنيسة في علاقاتهم مع المواطنين. كما يعتبر الدكتور جعجع أن الرهبان يمثلون البعد العسكري للمجتمع حين تدعو الحاجة لأنهم بحسب تاريخهم كانوا الأوائل في الدفاع عن المسيحيين اجتماعياً وغذائياً. وكونهم من ذوي الاختصاصات في كل المجالات، ما يجعلهم اقادة في السلم كما في الحرب ومراحل الكوارث والمجاعات.

للمسيحي دور ريادي في لبنان بحسب الدكتور جعجع شرط أن يكون في جهوزيته لتلقف أية فرصة ستنسخ له في المستقبل. يجب أن تكون الجهوزية على مستوى الجماعة برمتها وعلى كافة المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية… وبما أننا موجودون في منطقة تفتقر إلى الثروات المادية والاقتصادية يجب الانفتاح اقتصادياً على دول الجوار عموماً، والعربية خصوصاً. زد على ذلك أن المسيحي يلعب دور الريادة في المنطقة نظراً لانفتاحه العلمي والثقافي على الغرب كونه يمتلك جامعات متخصصة في التكنولوجيا والمعلوماتية والاقتصاد…

أخيرا يرى الدكتور جعجع أن التخصص يجب أن يشمل المجالات العسكرية والأمنية خصوصا على مستوى الضباط القادة الذين يتولون أمور المؤسسات العسكرية وضباط التحقيق والمعلوماتية والطب…

أما الاختصاص الأهم فهو لرجال السياسة لأن للسياسة علم يشمل موادا علمية كثيرة على مستوى الدراسات المعمقة والعليا بالإضافة إلى كونها فنٌ على رجل السياسة أن يمارسه باحترافية وأخلاق عالية.

 

من كتاب “مسيحيون مقاومون” – للأب يوسف عودة

الحلقة المقبلة: هنري كريمونا

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل