كتبت غرازييلا فخري في “المسيرة” – العدد 1748
“مخايل رشيد عوّاد” أو “مخول” كما كان يحلو لرفاقه أن يُنادوه، ناسك القضية، المقاوم، المثقف، المفكر، المحلل الهادئ، والملهِم لكثير من الرفاق الذين كانوا يسمعونه ويتمثّلون بنضاله الذي لم يعرف التعب. ثقافته الواسعة وعمق تحليلات وعلاقته الإيمانية بمسيحيته نهلها منذ أن كان يجلس في حضن والده في عمر السادسة ليقرأ الإنجيل المقدس باللغة السريانية، وأكمل عمله بتواضعٍ في الظل من محراب صومعته. قواتيته تنبع من داخله، نذر كل طاقاته في سبيلها، فكان راديكاليًا عنيدًا يصوغ الخطط وتحركات النضال لوضع الأمور في نصابها، وناضل طيلة الأعوام الـ11 في سبيل إطلاق الدكتور سمير جعجع من اعتقاله السياسي.
بدأ “مخول” هذا المتمرّد وصاحب القناعات الحاسمة نضاله بصورة مبكرة مع رفاقه من بلدته حصرون، ومن ثانوية بشرّي الرسمية، عندما كان طالبًا على مقاعدها، وساهم مع رفاقه في إطلاق الموجة الثانية للقوات اللبنانية في بشرّي وجُبتها، انطلاقًا من إيمانه بأن القوات اللبنانية هي حركة مقاومة وتغيير، وانتمى الى مدرسة المقاومة المسيحية الفكرية والسياسية بدءاً من جبة بشرّي وثكنة القطارة، وجبهة الشمال ومخيمات التدريب، مرورًا ببرج الفيدار وصولًا الى معهد الإعداد الفكري في بلونة ومرحلة اعتقال الحكيم الصعبة والنضال السلمي وجهاز التنشئة السياسية في طبرجا، فكان رجل القضية اللبنانية بامتياز.
كيروز: قوّاتية مخول تنبع من عمق علاقته بالمسيح
لا يدّعي رفيق دربه النائب السابق “إيلي كيروز” الذي شكّل معه ثنائياً رائعاً، جمعهما النضال القواتي في سبيل القضية اللبنانية، الإحاطة بمخول الإنسان والرفيق والصديق والمناضل والمفكر.
تعود معرفة “كيروز” بمخول الى العام 1982، حيث التقيا في ثكنة القطارة للمشاركة في دورة فكرية ـ لاهوتية ـ تاريخية مع الدكتور سمير جعجع، والدكتور جان مراد، والأستاذ ميشال ناصيف كيروز. كان “مخول” وقتها ثائرًا يفتش عن خيارات سياسية بديلة، وعن منطق آخر في العمل السياسي. وكانت القطارة في البدايات رمزًا للثورة الشمالية على الإقطاع والعائلية، وكانت ديرًا ومقرًا لقيادة الشمال في القوات اللبنانية، ومقصدًا للباحثين عن التغيير في المجتمع المسيحي ولنخب فكرية متعددة، وهناك “تعرّفنا على تيار دوشاردان الراهب اليسوعي والعالم الإنتروبولوجي الذي جمع بين إيمانه العميق بالمسيح الكلي وأبحاثه العلمية الدقيقة، وكان يعتقد بأن لا تناقض بين المادة والروح، بل تكامل وجهين لحقيقة كونية واحدة”، يقول كيروز.
ويؤكد أن “مخول” آمن بأن المسيحية لا يمكن أن تكون ديانة إسكاتولوجية فقط، تتطلع الى خلاص الإنسان الروحي وحسب، وإنما هي ديانة التجسّد والقيم الأرضية للتجسّد، وخلاص الإنسان النهائي يبدأ من هنا من الأرض. وانحاز الى اللاهوت السياسي أي أنه على السياسي المسيحي أن يُخرج السياسة من عالمها القائم على المساومات والأنانية ويجعلها في خدمة الخير العام.
كما درس مراحل تطور التاريخ المسيحي، وتبيّن له أن المسيحيين استطاعوا أن يصمدوا في مواجهة الاضطهاد ويحافظوا على هويتهم التاريخية. ولكنه تخوَّف من استعادتهم لبعض المحطات الانقسامية في تاريخهم، وسعى الى الحوار والوحدة المسيحية كمقدمة الى التفاهم اللبناني ـ اللبناني.
“عندما ضرب النظام الأمني اللبناني ـ السوري ضربته التي أرادها مميتة، كان مخول مناضلًا شجاعًا وفاعلًا في مواجهة آلة القمع ومخططات العقل الأمني المريض. وفي أحداث 7 آب 2001 انتهى مخول الذي كان يحاضر في مصلحة طلاب القوات في أنطلياس معتقلًا عند مديرية المخابرات. وقد استطاع خلال مرحلة النضال السري السلمي المحافظة مع الرفاق على التواصل والمتابعة مع المنسقين والناشطين على رغم التهديد والتقطيع الأمني في تلك المرحلة الدقيقة والخطيرة”.
ويضيف كيروز: “بعد خروج الحكيم من المعتقل ودخول القوات حقبة السلم الأهلي، كان مخول شريكًا في التفكير في الكثير من المواقف السياسية والبيانات الإعلامية والمواضيع المهمة. ومع إنشاء الجامعة الشعبية وفي ما بعد جهاز التنشئة السياسية برز دوره كمرجع فكري وتاريخي وسياسي وملهم لجيل من الشباب والطلاب”.
على الرغم من شغف “مخول” بمارونيته، وبتاريخ الكنيسة المارونية وبطاركتها إلا انه بقيّ إنساناً حراً مستقلاً، شغوفاً بالعقول الحرة في التاريخ، وفي طليعتهم اللاهوتيون والفلاسفة الغربيون، قرأ لكبارهم، خاصةً القديس توما الإكويني، وتوقف عند رسائل البابوات الذين شكلوا اسهامات كبرى في صياغة العقيدة الاجتماعية للكنيسة، ولا سيما المجمع الفاتيكاني الثاني الذي قارب كل المسائل انطلاقًا من الشخص وفي اتجاه الشخص.
الأب إبراهيم: أكبر آلامه خيباته من بعض الأشخاص
قواتية مخايل عواد تنبع من عمق علاقته بيسوع المسيح، وتأثره بالآية 25:31 من إنجيل متى التي تقول “كل ما فعلتموه لإخواتي الصغار لي فعلتموه”، يقول الأب ميشال إبراهيم الذي رافق مخول على مدى عشرين عامًا، مستذكرًا فترة معرفته به وما اكتسبه منه من فكر نيّر ومعرفة وثقافة، معتبرًا أنه أسطورة معرفة وإيمان ونضال وتواضع، ترك بصماته في قلوب العديد من الأصدقاء، عمل على تجسيد قيم الإنجيل أي بناء الإنسان الداخلي بحيث يكتشف المرء معنى وجوده بالنضال الفكري الداخلي ويعمل جاهدًا للحفاظ على علاقته بربّه وبإنسانيته، فثبت في معرفة الذات ومعرفة الرب، وهذه هي الصخرة التي بنى عليها مخول حياته للنضال والدفاع عن الوجود المسيحي.
ويروي الأب إبراهيم أنه يوم 9 كانون الأول 2021، وبعد انتهائه من القداس في أحد السجون، ذهب لزيارة “مخول”، وهناك جرى اعتراف أو مراجعة لكل حياته، وعندها اكتشف العديد من الزوايا الجديدة في حياة “مخول” الروحية.
ويكمل الأب إبراهيم “عندما علمت بمرض مخول الخبيث جرى حديث معه حول آنية الموت، والجسد الذي هو سجن الألم. وقد واجه آلامه بصخرة علاقته مع يسوع، وكانت أكبر آلامه خيباته ببعض الأشخاص الذين لم يكونوا على قدر توقعات نضاله، ويمكن تسمية ذلك بقلق الخيبات الذي هو قلق وجودي مسيحي، ولكنه لم يتعب يومًا من النضال ولم يستسلم على الرغم من كل الخيبات التي مرّ بها”.
وانطلاقًا من إيمانه بمسيحيته وبأولوية الفكر السياسي في العمل الحزبي من أجل وعي وثقافة أكبر في المجتمع المسيحي، عاش “مخول” لسنوات مواكبًا شباب القوات في المراكز العسكرية، وساهم بشكلٍ غير مباشر في التحضير لانتفاضة 12 آذار 1985 في البيئة الطلابية مراهنًا على الجيل الشاب من أجل التغيير واستقلالية القرار المسيحي واللبناني، وهو من مؤسسي معهد الإعداد الفكري في القوات الذي أطلق دينامية فكر ونقاش حول القضايا الأساسية التي تتصل بالوجود المسيحي والمقاومة المسيحية في لبنان. وقد شكّل فيه علامة فارقة، فكان مكتبةً حيّةً شغوفًا بالكتاب.
“مخول” بأقلام الرفاق
تقول ألين حكيّم في منشئها ومعلّمها “مخول”: “عملاقٌ هو أمام الحياة والمعرفة والنضال، وإيمانه بالتزامك خاصةً عندما لا تؤمن أنت بهذا الالتزام. هو المعلّم الذي لا يكلّ من العطاء، يحاور الله ويجالسه ويجلسك في حضرته، متطرف في إبداعاته. هو كالفن يوقف الزمن ويُخلِّده. إنه ذاك المغامر الحالم بأروقة الحياة، الذي يكلُّ الكلل من إصراره، وعندما تسترق النظر من خلف الكلام الى الواقع، تقول هذا من صنّاع التاريخ، من الأدمغة المحرِّكة لنضالٍ طويلٍ، وحارس بوابة جماعةٍ قد شعرت بثقل النعاس وكان من أيقظها، نسج التاريخ والنضال بإرادةٍ صامتةٍ وحكمةٍ ومعرفة”.
ويعتبر لوسيان شهوان أن “مخول” هو مصدر إلهام لكثير من الناس، وتحديدًا للشباب المسيحي الملتزم الذي دافع عن لبنان والوجود الحرّ أثناء احتلال سوريا للبنان. حمل التزامه وحبّه للقضية اللبنانية ومشى بحبّ على درب المسيح. كما كان سندًا فكريًّا ومعنويًّا كبيرًا جدًا. “لا يمكنني إلا أن أتذكره في كل تفصيل يتعلّق بالأحداث الحالية والمرحلة الدقيقة التي نمرّ بها. نظرته ومقاربته لكافة الأمور لطالما اعتبرتها نقطة أمل دائم في مجتمع النفوس الضعيفة، مجتمع ينهشه الكبرياء والتعالي، والتسلّط الأعمى، الزبائنية المقيتة والمواقف الباهتة الرماديّة”.
“هودي تلاميذ مخول: جملةٌ أفتخر بها، ووجوده في حياتي صنع فرقًا كبيرًا على عدّة مستويات وأهمّها الإنسانيّة. وفي لحظات ضعفي ومرضي لعب مخول دورًا استثنائيًا في نظرتي للأمور وفي تعاملي مع مراحل المرض، وعندما تغلّبت عليه، فهمت جيدًا صدى كلماته العميقة التي أعطتني جرعات معنويّة كبيرة جعلتني أستمرّ. لقد أحبّنا كما نحن، وعمل على تعزيز نقاط قوّتنا وبطريقة هادئة وبابتسامة مريحة”. ويختم شهوان بأن “مخول” هو ضمير القضية، المناضل والإنسان قبل كل شيء، استطاع أن يغرف من صميم هذه الحياة ليترك أثرًا كبيرًا في صميم كل واحد منا، فكان حبيب القلب والعقل.
“مهما قلت لن أفي مخول حقّه”، تؤكد كارول بو فرحات. عرفته لأكثر من 15 سنة، وأقلّ ما يمكنني القول إنّ وجوده شكّل نقطة تحوّل في مقاربتي للأمور الفكريّة، السياسيّة والأهم، الحياتيّة اليوميّة. هو معلّم وصديق رغم ثقل الكلمة لما تحمله من مسؤوليّة. هو اليد البيضاء التي رسمت خطوط واضحة توجّه جميع من عرفه وخصوصًا الشباب منهم، لتحديد مسارنا من خلال مساعدتنا على معرفة مَواطن القوّة والقدرات التي لدينا ومن ثمّ تفعيلها واستثمارها، ليس فقط في الشأن العام، بل أيضًا في حياتنا المهنيّة والشخصيّة.
وتتابع مهما قلت عن “مخول” هو قليل، ولن أتطرّق لتجربتي الشخصيّة معه لأنني لن أتمكن من اختصارها ببضعة سطور. سأكتفي بالقول إنّ الله يضيف نعمًا كثيرة على حياتنا و”مخول” كان إحدى أثمن هذه النعم.
كل شيء مع “مخول” كان له معنى أكبر وأبعد من الزواريب السياسية الضيقة. يقول تلميذه رودريك شربل، وهو في العمق التزم قضية بناء الإنسان فكان يجسد بمسيرته القيم المارونية بجميع أبعادها وزرع في كل من كان له فرصة مشاركته دربه النضالية هذه القيم. أكثر ما نفتقده اليوم هو «مخول المعلم”.
هو وطنٌ في رَجُل… يقول أندرو حبيب، سليل عائلة أعطت الكنيسة المارونية إكليروسًا أصحاب رؤيا، واختزنت شخصيته إنجازاتهم، وحَفِظت ذاكرتُه خططَهم وهو صاحب الذاكرة الصُّوَريّة، وطُبِعَت في عقله كتاباتهم لا سيّما المكتوبة منها بالسريانية القديمة التي لم نكن نعرف، غير “مخول”، من يستطيع قراءتها، أحبّ الفلسفة وكان بينه وبين فهم “ديكارت” حاجز اللغة، فقام بحفظ القاموس العربي-الفرنسي وهو في سنّ الثانية عشرة، ليقوم بعدها بترجمة فلسفة ديكارت للغة العربية ليتسنّى لوالده الاطلاع على أفكار الأخير.
ويتذكّر أندرو أنه حين كانت القوات في زمن النضال السّرّي، تنظر باهتمام إلى تمتين العلاقة بالأب سليم عبو، وبعد أن علم “مخّول” بوجود اهتمام في الجامعة اليسوعية بإيجاد مَن يعرف قواعد اللغة اليونانية القديمة، تطوّع لتعلّم المسألة وقدّم بشكل مدهش نتاج العمل للمعنيين، وإضافة للسريانية واليونانية القديمتَيْن والحديثتَيْن، كان يتقن العربية والفرنسية والإنكليزية، وعلى دراية كبيرة بالروسية والألمانية والعبرية، وكان بدأ مشروع تعلّم اللغة الصينية. يوم زار الباب يوحنا بولس الثاني لبنان، كتب له باللغة البولندية على قِسْمٍ منتقى بعناية من اليافطات التي رفعتها الناس في الشوارع، كي يطّلع خليفة بطرس على قضية أبناء مارون وأحوال بلاد الأرز و”سجينها”، من دون أن يفهم “مخبرو السوء في دولة السجن الكبير» ماذا يُكتب”.
ويتابع: “هو قارئ نهم للفلسفة والتاريخ والسياسة والعلوم الحديثة والأدب، إضافة الى خبرات التخطيط والتفكير الاستراتيجي والقتال التي اكتسبها أيام الحرب، جعلته ممّن يقرأ أحداث السياسة كمن يقرأ كتابًا مفتوحًا أمامه، وأنا أشهد على عدد المرات التي لا تُحصى التي أصاب فيها في التحليل السياسي، وتوقّع أحداثًا بحدّ ذاتها قبل أشهر من حدوثها”.
“لا أعلم كيف كانت ستكون الأمور لولا “مخول”، يختم أندرو، ولكنّي أعلم أن هذه الخامة من الرجال، لا تلدها الأرحام إلّا كل بضع مئات من السنين، حين يقرّر الله أن ذلك لا بدّ منه، ليتبدّل معها مسار تاريخ شعبنا، ويتغيّر عمّا كان سيكونه”.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]