في بيان منسوب الى “الحرس الثوري” الإيراني مفاده أنّ “الصبر الاستراتيجي للمقاومة و “ح.ز.ب ا.ل.ل.ه” لن يخرج عن إطار العقلانية والمنطق”. تمّ ضبط إيقاع تفاعل منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه مع الاعتداءات الاسرائيلية التي طالت عمق منطقتها الأمنيّة في عملية اغتيال صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، وما تلاها من اغتيالات واعتداءات.
وجاء الرّدّ الموعود في استعراض صاروخيّ على المراكز الاسرائيلية. وممّا لا شكّ فيه أنّه أوقع بعض الخسائر، لكن الحملة الاعلاميّة التي تلت عملية الردّ هذه، أظهرت لكأنّ منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه قد استهدفت مقرّ وكالة الفضاء الأميركيّة. وهذا ما يعكس الاحباط الموجود في قلب بيئة هذه المنظّمة التي باتت بحاجة إلى تبريرات في الاعلام لإشباع رغباتها الثأريّة، من عدوٍّ لا حدود أمامه.
فيما بدا واضحًا أنّ منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه، ومن خلفها نظام الملالي لا يبحثان عن أيّ نصر عسكريّ في الميدان لعلمهما بعجزهما عن تحقيقه بوجه آلة القتل الاسرائيليّة، ولإدراكهما المسبق بأنّ أيّ نصر عسكري مع عدوٍّ كإسرائيل لن يكون إلا مؤقّتًا، ونتائجه ستأتي كارثيّة – انتقاميّة على قاعدة النموذج الغزّاوي.
لذلك يبحث محور إيران عن كيفيّة استثمار قدرته العسكريّة في لبنان ديبلوماسيًّا من خلال الرسائل التي ما فتئ أمين عام المنظمة بإرسالها حيث قال في خطابه الأخير إنّ “أمام لبنان فرصة تاريخية لتحرير الأرض اللبنانية ووقف الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية” مضيفًا أن “أي نقاش في ملف الحدود وتسويتها مؤجل الى ما بعد وقف إطلاق النار على غزة”. هذا الموقف التراجعي من قبل منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه يعكس قناعتها بالعمل الديبلوماسي التي تأمل هي وإيران أن تكرّرا تجربة حافظ الاسد في الجولان في حرب ٦٧ وفي لبنان في احتلال المنطقة الشرقية في ١٣ تشرين ١٩٩٠ لإنهاء تمرّد الرئيس السابق ميشال عون ضدّه بعدما لم يؤمّن الاسد وصوله إلى قصر بعبدا.
وحتى الانتهاء من حرب غزّة التي نأت منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه بنفسها عن الدخول بشكل أفعل وأعمق في صلبها، تكون قد فتحت باب المفاوضات الحدوديّة بشكل مضمَرٍ، ستحاول عدم إظهاره للعلن حفاظًا على غضب جمهورها، وبحثًا عن عمليّة إخراجٍ جديدةٍ لنصرٍ إلهيٍّ جديد، قوامها حلّ قضيّة الحدود البريّة مع إسرائيل. فيما على ما يبدو أنّ أيّ زيارة للمبعوث آموس هوكشتين إلى لبنان قد تكشف هذا المسار الديبلوماسي السرّي بالكامل. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أي حلٍّ للنقاط الخلافية ال ١٣ مع العدو الاسرائيلي لن ينتج حلًّا في مزارع شبعا التي هي بحاجة إلى اعتراف من الدولة السوريّة بلبنانيّتها.
لكن وسط هذه الرّحى الديبلوماسيّة التي تُطحَنُ فيها سرديّات المقاومة والممانعة ووحدة الساحات، ما لا يمكن إغفاله أنّ مصلحة العدوّ الاسرائيلي تقتضي بتدمير ما تبقى من لبنان، قبل الدخول في أيّ مسار مفاوضاتيّ مع الدولة. هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانيةٍ لا يبدو أنّ الجتمع الدّولي اليوم مستعدّ لتكرار تجربة مهادنة أو مفاوضة أيّ فكر تطرّفيً في العالم لتحقيق مصالح اقتصاديّة آنيّة؛ لأنّ هذه المصالح ستبقى عرضة لأي اعتداءات عند اهتزاز هذه التعهّدات التي ستبقي هذه المشاريع الاقتصاديّة الكبرى عرضةً للابتزازات المتطرّفة.
ومن جهةٍ ثالثةٍ، وهي الأهمّ، أنّ وجود فريق سياسي تتّسع جغرافيّته السياسيّة الحضوريّة برلمانيًّا وشعبيًّا، كفيل وحده بإسقاط هذه المحاولات التي تخوضها منظّمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه مع المجتمع الدولي على حساب استمرار سيطرتها على السيادة اللبنانيّة. فما كان صحيحًا في تسعينيّات القرن الماضي ما عاد كذلك. فالانقسام لم يعد مذهبيًّا أو دينيًّا إنّما هو بين مشروعين كِيانيّين واضحي المعالم الاستراتيجيّة.
وحتّى لو نجحت هذه المنظّمة بإقناع المجتمع الدولي الذي تتهجّم عليه ليل نهار ، بحجّة أن لا قدرة عنده ليطبّق قراراته سوى بقوّة الخضوع لأمر الواقع المسلّح؛ كما سبق فقال ذلك أمينها العام ذلك في همايوناته السرديّة الخطابيّة الأخيرة بعد عمليّة الاعتداء على السيادة اللبنانية “عاروريًّا ” و إسرائيليًّا؛ لو نجحت بذلك، فهي ستواجَه من قبل هذا الفريق اللبناني الكبير الرّافض بأن يعيش تحت رحمتها، وخدمة للمشروع الفارسي التوسّعي، وللمشروع التشيّعي الصفوي.
وأمام هكذا احتمال، مرتبط بالتطوّرات الميدانيّة، المواجهة الكِيانيّة فُتِحَت على مصراعيها. فالحضارة الصفويّة التي غزت بوساطتها الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران الشيعة الجعفريّين المنخرطين في صلب الكيانيّة اللبنانيّة باتت حضارةً مرفوضةً لأنّها لا تشبه لبنانيّتنا. ولن نسمح لها بأن تحوّر المسار الحضاري لشيعة لبنان الأحرار الذين لا ينتمون كلّهم إلى هذه المدرسة الحضاريّة. ولن يستطيع اللبنانيّون تحرير مَن مِن لبنانيّيهم انخرط في هذا المسار الحضاري. لذلك كلّه، لم يعد مجديًا الحديث عن لبنان الرسالة من منظار هذه الجماعة. لكن المكوّن الحضاري الشيعي هو في صلب كيانيّتنا اللبنانيّة.
من هنا علينا البحث جدّيًّا كلبنانيين في هذه التركيبة التي زادت هجانتها مع ما نجحت منظمة ح.ز.ب ا.ل.ل.ه بتغييره في صلبها. ولن تنحو باتّجاه الأصالة الكِيانيّة في وطن جديد إلّا على أسس اتّحاديّة – حياديّة. وهذا لن يتمّ إلا بعد العودة إلى الدولة عبر انتظام مؤسساتها، وليس العكس. وإلّا مَن أخرجَ نفسه من صلب الكِيانيّة اللبنانيّة هو المعني بأمرين لا ثالث لهما: إمّا العودة الطوعيّة – القسريّة، وإمّا الانفصال القسريّ – الطوعيّ.