إن المواجهة، في هذا الزمن الرديء، ينبغي أن تكون بين نضال متزن من أجل وطن منفتح، ماجد، إنساني بامتياز، تكلله القيم العليا، وبين ما يوصف بكفاح رجعي ينتسب الى القرون الحجرية، ويعيد البلاد الى ظلال التخلف الجاهلي. أما الواقع فيؤكد، وللأسف، على أن الرأي لإحياء الحق، هو غائب، وأن إشعال الرجعية لترميد الترقي، هو الحاسم في موضع الحسم.
ما أحوجنا، اليوم، الى جرأة واضحة طموحة تعتبر أن الوطن هو ميلاد الروح، ما أحوجنا الى جرأة لا تبقى نائمة في عتمة الخبايا، بل تبتكر مواجهة ترسم مقولة أن إدراك الحق ليس صعبا، وأن تحمل المشقة، في سبيله، هو أمر يستحقه. إن كل ما سوى تلك الجرأة، لم يعد يتمشى مع حالة البلد، ومع حاجة أهله، فالخطب، والمناظرات، وسائر الأساطير الشبيهة، لن تفكك عالم القلق الذي يشحن الناس باليأس، من هنا، فالبلاد الثكلى، وبالرغم من أنها تتقطع وجعا، لا تقبل أن تطلب الشفقة، بقدر ما تحتاج الى جرأة في ذوي الوطنية الصافية، والإلتزام النافذ، والهمم المستعدة للمواجهة.
إن واقع لبنان، اليوم، خشن وذو نبرة مليئة بالأنات، وإن ناسه مصعوقون، يعانون وإن لم يقترفوا ذنبا. لست أدري ما إذا كان القيمون يعون أن ظلام المصير بدأ يزحف على كيان الوطن، وأن الشعب بات مسلوب الأمل، ينتحب متروكا لصلاته وتضرعاته، في أرض حكم عليها الأقربون والأبعدون بالموت مسمومة، ومسخوها جهنما لا تطاق، وراحوا يرقصون حول نارها شياطين جحيمية.
ويبقى السؤال : من سمح بتحويل البلاد ضحية ؟ من ترك المجال للشذاذ بأن يعيثوا فيها فسادا، وفوضى، واحتيالا، مجسدين روح الشر ؟ لماذا اغتر من اغتروا بالذين تظاهروا بالتقوى، ومارسوا البشاعات من فتك، وقتل، وترهيب، وسفك دماء ؟ إذا كان ميزان العدل، ولكي ينشر الحق في الناس، يقضي على القاتل بالقتل، مطعونا بسيف، أو متأرجحا تحت حبل، أو نافثا آخر حياته فوق كرسي كهربائي… فهذا شأن بائس يمزق الحق، لكنه، عندما تسيل في الوطن أنهار المرارة، وتحط في ضلوعه عواصف الخوف من الآتي، يلجأ الى التحلل من قيد الخضوع، ويخرج من عصمة الخنوع، من دون الإكتراث لما يفرض من تضحيات، فلا بديل عن المواجهة، وبجرأة.
كنا، كثيرين، ولما نزل، ننفر من شعارات مزيفة يبرئ بعضهم ذمتهم في تأييدها، خوفا، أو تزلفا، أو مقايضة لمنفعة، ويمشي أصحابها في الناس وعلى جبينهم لصيقة مكتوب عليها ” حماة البلاد “… وهي بطاقة تخولهم المرور فوق الرؤوس، وتصدر مجالس القرار، مواجهين الوطن وأهله بالمنة والتحدي. وكنا ننقم، ولما نزل، على أولئك المتزلفين الباهتين، أصحاب عاهات كانوا أو أصحاء، لأنهم خرائب ضعيفة، ومعدومة مزايا الوطنية والرجولة. أوليس الضعف عاهة ؟ والإنصراف عن الإنتصار للوطن، عاهة أيضا ؟ إن فوق قامة هؤلاء، ذلا ينتصب على قائمتيه، وهم ركوع.
كان لبنان عرس الشرق، ونزهته، وحلما بريئا من أحلام الأطفال، وصاحب جلالة فوق صدره أوسمة ترسل ألقها المحلى بالرقي، والسلام، والحرية، والطمأنينة، يتمختر رشيقا، مزهوا بحضوره، وحضارته المميزة، وفجأة، كأنما الخيط انقطع بالمغزل، يدلي رأسه، ويقع مغميا، أو بنترة مشبوهة، وهو الأصح. وبعد أن كان لبنان قطعة من الفردوس، صلبا صحيح الجسم، صار، بهذه النترة السامة، أعرجا وأكتعا وأعورا، ومصابا بالشلل والخرس، وممزق الضلوع وكأنه جذع مسوس. ليتنا نقتدي بشاعرنا ” الياس أبو شبكة “، الذي طارد بعصاه السوداء ” أفاعي الفردوس ” !!!
لقد جنى على لبنان من أوهمه بأنه يرتاح الى حماته في تفريج همومه، وتقليب أموره المصيرية، لأن عندهم سداد الرأي، وحسن التفهم، ووطنية الولاء، ما يخولهم أن يمنوا عليه بالعافية. وللأسف، أقام لبنان شركة مع جماعة الحماية، على الرغم من رفض كثيرين من أهله، ودفع، لقاءها، سيادته، وهويته، ودولته، وأصبح فقدانه وجوده قاب قوسين أو أدنى. لذلك، ينبغي فسخ هذه الشركة، ومن دون تعثر، لإنهاء حال التسلط، والتهميش، وزلزلة الكيان، ومصادرة القرار، ولاستعادة الدور ذي الأصداء الدولية، ليعود وقعه عظيما. ومن المؤكد، حينها، أن ينهض المجتمع العالمي الحر، ويصافح لبنان داعيا له بالتوفيق.