بضربة قاسية وغير متوقعة، أسقطت “القوات اللبنانية” ما عرف بـ”الاتفاق الثلاثي”، فكانت انتفاضة 15 كانون الثاني من العام 1986 وكان تاريخ. الانتفاضة، أتذكرون؟ لم تكن تلك معركة خائن وموالي للاحتلال السوري، كانت وكما هي حتى اللحظة، معركة “القوات اللبنانية” مع مفهوم الممانعة، مع سطوة الاحتلال السوري على لبنان، مع لبنانيين تطرفوا ضد لبنان مع الغريب. هي معارك مختلفة الوجوه والأدوات، وحتى الأماكن أحيانًا، لكن القضية كانت ولا تزال واحدة، الحفاظ على سيادة لبنان الكيان والأرض.
في تلك الأيام كنا يافعين جدًا، ولا نفهم بالسياسة وأبعادها، ولا نعرف حتى ما معنى أن يحمل شباب بارودة وسط شارع سكني مكتظ بالناس، لم نكن حتى نعرف كيف نصنِف الناس، كنا نرى ونعرف أن ثمة شباب يلبسون البدلة الزيتية واسمهم “القوات اللبنانية”، انطلقوا مع البشير واستمروا من بعده يدافعون حتى الاستشهاد عن لبنان، يقاومون الفصائل الفلسطينية المسلحة والمحتلين السوريين، كنا كمن يعيش ثابتة في يومياتنا لا تتزحزح، بأن من يحاول أن يؤذينا، ثمة من سيدافع حتمًا عنا، ومن يحاول انتزاع الجمهورية من حريتها وكرامتها، سيتلقى حتمًا صفعة من شباب اسمهم القوات ونقطة على السطر، وكنا مطمئنين.
وفجأة ذات صباح حصلت الانتفاضة في شوارع المنطقة الشرقية، لم نخف كثيرًا لأننا لم نتمكن من تحديد أبعاد ما يحصل، وأكثر من ذلك، كنا نعلم أن ثمة شباب سيدافعون عنا، وهم مستعدون للتخلي عن كل شيء يفرحهم في الحياة فداء الوطن، شباب نذروا حياتهم لهذا المفهوم المقدس الذي اسمه لبنان، ولأجله تخلوا عن الكثير الكثير كي لا نخسر “أرض الرب”، كما كنا نسمعهم يطلقون عليها.
يقولون ومن أجبرهم على ذلك؟ لا شيء، لا أحد تحديدًا، ولكن ثمة قوي جبار مهيمن متحكم بضمير هؤلاء، هو من ألزمهم وألهمهم بالمقاومة، منذ ما قبل تاريخ تلك الانتفاضة، منذ يوحنا مارون وحتى اللحظة. كانت تلك الانتفاضة جزء لا يتجزأ من سيرة تلك المقاومة النبيلة لكل احتلال مهما كان وجهه، وانتفاضة 15 كانون لم تخرج عن ذاك الإطار. محطات كثيرة توالت، من بعد إسقاط الاتفاق الثلاثي وتلك المقولة الشهيرة يومذاك “اما مخايل الضاهر أو الفوضى”، فاختارت القوات “الفوضى” بمعناها السيادي، وتصدت لكل تلك القرارات الكبيرة المعلبة التي كان من شأنها ابتلاع لبنان في جوف سوريا.
كان للاحتلال السوري آلاف الوجوه المحلية التي تساعده على تحقيق أهدافه في لبنان، وكانت وحدها القوات في المواجهة، واجهت الكثير وكلها مشاريع هيمنة وابتلاع، ومنها انتفاضة 15 كانون.
لا تدخلوا في الأسماء، ما عادت تهم، لا تدخلوا في التفاصيل صارت من الماضي، إنما تمعّنوا في العناوين العريضة وعندما تفعلون، وخصوصًا بعد غياب سنين طويلة عن تلك الأحداث، ستقرأون التفاصيل بشكل مختلف، بطريقة أكثر علمية وموضوعية، إذ ستعلمون أن تلك الانتفاضة ما كانت الا تفصيلًا صغيرًا من مخطط كبير كان يُعد للبنان، لو لم تتدخل “القوات اللبنانية” وتخربط كل تلك المشاريع بالضربة القاضية. المفارقة أن العدو آنذاك، استخف بقدرة هؤلاء الشباب، واعتبر انه بتغطية أميركية هو قادر على تغيير موازين القوى، فجاءت الضربة ضربتان، إفشال الاتفاق الثلاثي وهزيمة المحتل على أيدي “القوات اللبنانية”.
أسقطت مجموعة من الشباب المسيحي المقاوم، جيشًا جرارًا بعديده وترسانته، وأصدقائه الكثر في الداخل، لتحوِل مسار التاريخ في اتجاه آخر مغاير تمامًا. صحيح أنه وبعد سنوات كان الاحتلال السوري حقق بعضًا كثيرًا من أحلامه في احتلال لبنان، لكن في تلك اللحظة التاريخية الكبيرة سجّل الزمن اللبناني في مفكرته، أن حزبًا مقاومًا أسقط بعناده وعنفوانه وإصراره على سيادة لبنان، اتفاقًا سوريًا برعاية دولية وتنفيذ لبنانيين، هدفه ابتلاع لبنان.
ليس دائمًا صحيح، بأن العين لا تقاوم المخرز، “القوات اللبنانية” اسقطت حتى هذه المقولة الشعبية التي تبرر الاستسلام والهزيمة، أعطت القوات عبر تلك الانتفاضة وما تلاها من تواريخ مقاومة، وصولًا الى اتفاق الطائف وحتى اللحظة، درسًا بأن “إذا بدنا فينا”، المهم أن تبقى الشعلة ملتهبة، وشعلة القوات لا تنطفئ، لا ترتاح ولا تريح أيضًا، ودائمًا على أتم الاستعداد للقيام بانتفاضات، كما حصل في البرلمان في الفترة الأخيرة، حين مددت ولاية قائد الجيش متحدية مع حلفائها، مخططًا امنيًا خطيرًا على لبنان. كانت وستبقى القوات بطلة الانتفاضات التي ستسقط أي اتفاق ومخطط ومكائد تحاك ضد سيادة وحرية وكيان لبنان، وبوجود هؤلاء الشباب نحن مطمئنين.