التفلّت الأمني وضحاياه

حجم الخط

كتبت “المسيرة” – العدد 1748

التفلّت الأمني وضحاياه:

سلطة عاجزة وس.ل.ا.ح غير شرعي

في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان، ازداد التفلّت الأمني بشكل مطرد. عمليًا، إن انهيار قيمة العملة اللبنانية الذي نشهده اليوم ما هو إلا نتيجة سطوة منظمة مسلّحة على قرار الدولة من جهة، وسوء إدارة الدولة واقتصادها من جهة أخرى. يرافق هذه “الحالة الجهنمية” تصاعد ملحوظ بنسبة السرقات في مختلف المناطق، كما اعتداءات متكررة ومتزايدة على الأماكن المقدسة ودور العبادة. من أسباب التفلّت الأمني الوضع الاجتماعي المذري، والذي يقوم بضرب واحدة من أهم حقوق الإنسان وهي الحق بالحياة. لا تغيب السياسة وأسبابها عن الحالة التي يعيشها لبنان على الصعد الاقتصادية أم الأمنية، إذ إن سطوة “ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه” على قرار الدولة وسيادتها، وتدخلاته الخارجية، لم تفِد إلا بجلب الويلات على لبنان واقتصاده. فأي دولة في العالم ستهبّ لإنقاذ لبنان وهو محكوم بشكل غير مباشر من ميليشيا مسلّحة؟

 

حق الإنسان بالحياة

إن حق الإنسان في الحياة هو من أعلى وأهم مستويات حقوق الإنسان التي تؤكد عليها الشرائع الدينية والدساتير الوضعية. هذا ويُعلّق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهمية كبيرة على الحق في الحياة والأمن الجسدي والحرية. والحق في الحياة يقوم على حقيقة أن للشخص الحق بأن يعيش حياة صحية وبكرامة ورفاهية، وأن يتمتع بالحرية، وألّا يُقتل على يد شخص آخر وألّا يتعرّض لأي انتهاك في أي مكان يوجد فيه.

تحدثت مواد كثيرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن حق الإنسان في التمتع بالحياة، فيما أبرزها هي المادة الأولى التي تنص على التالي: “يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء”. فيما تأتي أيضًا المادة الثالثة لتؤكد على أن “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه”.

على الرغم من هذا التأكيد الواضح، إلا أن الحديث عن حقوق الإنسان بات ضربًا من الترف أو ربما الهذيان، نظرًا لواقع لبنان المتردي وأولوية الكثير من الأمور الأخرى على حقوق الإنسان الأساسية. ما الرادع، حقيقة، في أن يمرّ أي لبناني في أي مكان ويُقتل برصاص طائش أو بعصا سارق؟ وهل من تجارب مشجعة كثيرة لحالات مماثلة تم فيها توقيف المعتدي؟ أي قانون وأي نظام وأي دولة تستطيع الدخول إلى وكر لمخيم أو إلى مربّع لـ”ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه” من دون توقّع ردة فعل عنفية منه، أو إلى خيمة نازح من دون صدور بيانات شاجبة من عشرات المنظمات المحلية والدولية؟ أصلاً، أي هيبة بقيت للدولة اللبنانية ليعمّ الأمن والأمان ويُصان حق الإنسان اللبناني في الحياة؟

 

التفلّت الأمني في لبنان

على الرغم من وجود مثل هذه الشرائع الدولية التي تحمي الإنسان، يتعرّض تنفيذها وتطبيقها لتحديات كبيرة في لبنان. هذا وتبقى مجمل حقوق الإنسان في خطر بسبب الظروف الصعبة التي يواجهها البلد، مما يمسّ حياة الناس ويعرّضها للخطر.

لقد كانت إحدى نتائج الأزمات السياسية والاقتصادية التي عصفت بلبنان في الأعوام الثلاثة الماضية، التفلّت الأمني الذي يعرّض حياة اللبنانيين للخطر المستمر. وبسبب ارتفاع نسبة الفقر في لبنان وتدهور الأوضاع المعيشية وغياب الخدمات الرئيسية ومنع الناس من سحب أموالهم من المصارف، زادت حالات السرقة والقتل والخطف مقابل فدية وبعض أنواع الجرائم الأخرى، بهدف تلبية الحاجات المالية والاقتصادية. كما أن هذا الوضع أدى إلى حوادث اقتحام لبعض المصارف بقوة ا.ل.س.ل.ا.ح في بعض الأحيان، مما هدّد حياة الموظفين والزبائن.

والتفلّت الأمني في لبنان ليس وليد الأعوام الماضية فقط، ويعود لأسباب كثيرة، لعلّ أبرزها انتشار الأسلحة بطريقة عشوائية، مما يسهّل انتشار جرائم القتل والسرقة وا.ل.ا.ن.ت.ح.ا.ر، وإطلاق النار سواء في مناسبات الفرح أو الحزن أو أي إشكالات عائلية أو عشائرية… كل ذلك يجعل حياة الإنسان في تهديد دائم. والأمثلة في هذا الإطار كثيرة جدًا وما هذه إلا بعض أخطرها وأغربها في آن.

في بداية العام الجاري أطلق رتيب في جهاز أمن الدولة النار على أصدقائه والحاضرين في أحد محلات الحلويات، وذلك بسبب إشكال على دفع الفاتورة. مثل آخر: تم اختطاف وقتل الشيخ العكاري أحمد الرفاعي، على الرغم من مكانة رجال الدين في مجتمع تقليدي كالمجتمع اللبناني. كذلك الأمر، تم إطلاق النار بشكل عشوائي في منطقة الجناح خلال اشتباكات عائلية، حيث أصابت رصاصات المشتبكين إحدى الطائرات المدنية قبل هبوطها في مطار بيروت.

وما يعزز هذا الواقع الرديء شبه غياب لسلطة الدولة سواء الأمنية أو القانونية، بحيث يتلاشى الوجود الأمني القوي للدولة اللبنانية، كما تغيب المساءلة الفعلية وتطبيق القوانين التي تبقى بغالبيتها حبرًا على ورق. هذا طبعًا إلى جانب تقاعس المسؤولين المعنيين في لبنان في البحث الجدي عن حلول للأسباب التي أدت إلى التفلّت الأمني.

 

المنظمة المسلّحة والتفلّت الأمني

عدا وجود ا.ل.س.ل.ا.ح العشوائي والحالة الاقتصادية الصعبة، سبب آخر يهدد السلم الأهلي في لبنان وهو س.ل.ا.ح منظمة “ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه”. هذه المنظمة العسكرية الناشئة عام 1982، والتي تدين بالولاء المطلق للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يشكّل وجودها خطرًا مباشرًا على حياة الأفراد. ليس الأمر مرتبطاً بأن أفعالها الداخلية والخارجية قد أدت إلى أزمات سياسية واقتصادية بين لبنان ودول العالم وحسب، إنما لأن ا.ل.س.ل.ا.ح الذي تمتلكه المنظمة يشكّل خطرًا على لبنان واللبنانيين والأجانب.

يظهر التفلّت الأمني بشكل أوضح في البيئات الشعبية التي تسود فيها سطوة “ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه”، إذ لا يمر أسبوع من دون اندلاع اشتباك عائلي أو عشائري أو حتى سياسي بين مناصري الحزب وآخرين. فيما “غزوة عين الرمانة” شاهدة على كيف أن تفلّت ا.ل.س.ل.ا.ح قد يؤدي إلى فوضى بشكل سريع وخطِر يهدد السلم والأمن بشكل حقيقي. في تلك الغزوة، أراد “ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه” وحليفه حركة “أمل” عرقلة التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت، فنظموا مظاهرات مسلّحة وعشوائية في منطقة العدلية وقرب منطقة عين الرمانة، سرعان ما تحوّلت إلى مناوشات عسكرية. ليست هذه الحالة يتيمة، إذ سبقها اشتباك أنصار “ح.ز.ب.ا.ل.ل.ه” مع عرب خلدة وغيرهم في بيروت والجنوب.

إن وجود منظمة مسلّحة على الأرض اللبنانية، تتسيّد على القرار الاستراتيجي اللبناني، ولها مقوّماتها وبنيتها العسكرية، سرعان ما تؤدي إلى عسكرة مجتمعها، فينتهي الأمر بتفلّت الوضع الأمني من عقاله، وخروج الأمور عن السيطرة. فمن يسلّح مجتمعه ويغذيه بالذخيرة والإيديولوجيا سرعان ما سيجد مجتمعًا غير قابل للانضباط واحترام القانون، وبالتالي مجتمعًا يشكّل خطرًا على ذاته بداية، وعلى بقية اللبنانيين وحقهم في الحياة.

 

الاعتداءات على دور العبادة

لم تسلم دور العبادة والمراكز الدينية من التفلّت الأمني الحاصل، والذي تتحمّل مسؤوليته، بشكل مباشر، السلطات اللبنانية الغائبة والمشلولة والفاشلة. هذا وشهد نهاية العام 2022 وبداية العام الحالي موجة من الاعتداءات على المراكز الدينية جلّها تابعة للمسيحيين، وذلك في مسّ واضح بأصول العيش التآلفي بين العائلات الروحية القائم عليه لبنان.

من شبه المؤكد أن الاعتداءات غير مترابطة ولم ينفذها حزب أو سلطة أو جماعة منظمة، إنما مجموعات متعددة من الفقراء والنازحين والساعين لبعض الكسب المادي. لكن لا يعني ذلك، بمطلق الأحوال، تبرير الأحداث الأمنية التالية، إنما الإضاءة على تعاسة السلطة الحاكمة.

في 24 كانون الأول 2022، تم رسم رموز شيطانية على جدران أربعة منازل يسكنها مسيحيون في منطقة بريح في قضاء الشوف. ثم بعد أربعة أيام، أي في 28 كانون الأول، تمت سرقة كنيسة في رياق – حوش حالا. تلاها، في الثامن من كانون الثاني 2023، اعتداء على كنيسة الأم الفقيرة في جبيل وبعثرة محتوياتها من قبل رجل سوري تم توقيفه في اليوم التالي.

حادث لافت أثار العصبيات الطائفية وكاد أن يودي إلى أزمة حقيقية حصل في بلدة كفرقاهل الكورانية في 12 كانون الثاني عندما قام شقيقان وأباهما بالتلّفظ بعبارات طائفية بحق المسيحيين والصرح البطريركي في بكركي عند قيام دورية من الأمن اللبناني بإيقاف أعمالهم المخالفة للقانون.

من بعدها كرّت مسبحة الاعتداءات على المراكز الدينية بهدف السرقة، وذلك ما هو إلا دليل على تفلّت الوضع الأمني، بعدما ما عاد بعض المواطنين يعيرون اهتمامًا لأي اعتبارات مناطقية أو دينية أو سماوية حتى. في 20 شباط، تم تحطيم مزار للعذراء مريم في قرية القريّة الصيداوية، وفي اليوم نفسه تمت سرقة كنيسة المخلّص في قرية قيتولي الجزينية.

في 28 آذار، تمت سرقة محتويات كنيسة مار أنطونيوس البدواني في قرية شكا، ثم تم اعتداء على مدافن الطائفة المارونية في طلعة سهل الصباغ في حارة صيدا في 31 من الشهر نفسه. كما لم تسلم الأبواب الحديدية لمدافن في بلدة دورس البعلبكية من السرقة في 10 نيسان، تلتها في اليوم التالي سرقة جرس كنيسة مار أنطونيوس في قنابة برمانا. ثم، في 15 نيسان، الاعتداء على كنيسة مار جرجس في قرية الصفرا التي خُلع بابها وسُرقت مكيّفات وأجهزة إلكترونية وغيرها من الأغراض الدينية.

هذا غيض من فيض الاعتداءات على دور العبادة والمراكز الدينية، في دليل واضح أن التفلّت الأمني بات يشكّل خطرًا حقيقيًا على المجتمع اللبناني ككل، وسط غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة وسطوة المنظمات المسلّحة على السيادة اللبنانية.

 

خاتمة

لا مغالاة في القول إن السلطات اللبنانية الحاكمة قد أثبتت فشلها في تحقيق الأمن المجتمعي للبنانيين، بكل أبعاده ومقوّماته، وعليه لعل أكثر ما يتواتر في ذهن كل من يتداول هذا الموضوع هو كيفية الوصول إلى حلّ وطريقة للنهوض بالوطن للعيش بكرامة وحرية، وبناء دولة ديمقراطية عادلة وقادرة يثق بها اللبنانيون.

لتحقيق هذا الأمر يُفترض أن تكون سلطة بكل ما للكلمة من معنى، أي أن تملك الإرادة والمقدرة على الفعل والتأثير، وألّا تكون رهينة منظمة مسلّحة. كما يُفترض أن يتم انتخاب رئيس جديد للبلاد ينتشل اللبنانيين من حالة الفوضى واللاإستقرار واللاأمن، كما يكون ضنيناً على مصلحة لبنان العليا، وغير مرتبط أو مرتهن لمحور إقليمي. تتلوها عملية بناء جديدة للدولة والأمن والاقتصاد والقضاء والإعلام والتربية، كما إصلاحات ضرورية لتحقيق التقدم والخروج من الأزمة الحالية، وإلا يصبح البحث عن تركيبة جديدة في لبنان أمرًا ملحًا وضروريًا، لأن الاستمرار على هذه الحال بات خطرًا على الحضور والوجود وحياة الأفراد والجماعات.

• مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل