بتنا في زمنٍ أصبحت كلمة “ضحية” مصطلحاً مألوفاً، يقتحم أحياءنا وشوارعنا، ويتغلغل في نفوسنا وعواطفنا، ويثقل همومنا همّاً إضافياً، إذ بات لهذا المصطلح صور ومشاهد كثيرة لا تعدُّ ولا تحصى.. والمستشفيات لها حصة منها. كيف لا، و”أشباك التجارة” امتدت لتجعل من “حق الحياة” أيضاً سلعة يتحكم بها نظام العرض والطلب، فتصبح أبواب المشافي أشبه بمسارح والدخول إليها رهنٌ بسعر البطاقة. باتت المستشفيات في قلب واقعٍ لطّخ رسالتها بغبار “الفضة” بسبب غياب الدولة المتمادي. المستشفيات التي في كل غرفة منها قصة “حياة” والتي يبحث الناس في أروقتها عن حق الحياة لا بل عن هذا الأمل، أصبحت اليوم منصة ألم لبعض المرضى، إثر الأوضاع المعيشية التي لا تسمح لأي مريض بالدخول إليها، فيضطر إلى اللجوء لطبابة “الدولة” التي تعجز بدورها عن القيام بأدنى الواجبات وتضع “حق الحياة” برهن “الضمير”.
هذه المشاهد ليست نتيجة قلمٍ وحبر، إنما هي لسان حال كل من ذاق علقم الانتظار أمام أبواب المستشفيات باحثاً عن ثغرة من الحياة والأمل، مما يفرض علينا طرح التساؤل حول الواقع الاستشفائي في لبنان، وهل باتت الحياة حكراً لمن يملك ثمنها من الفضة؟
أولاً، تجدر الإشارة إلى أنه علمياً نظام الاستشفاء يعتبر نظاماً مختصاً بتأمين الطبابة والعلاج لكل إنسانٍ، ويختلف تعريفه باختلاف المدارس، إذ هناك “الأنظمة العامة” و”الأنظمة الخاصة” و”نظام التأمين الصحي ـ Assurance”:
فالأنظمة العامة أو “المستشفى الحكومي”، هي الأنظمة التابعة إدارياً للدولة وتعتبر من أكثر الأنظمة الناجحة في الدول التي تستوفي شروط “الدولة” ومعاييرها، ما يبعد هذا الاحتمال عنّا مسافات ضوئية، إذ أن المستشفى الحكومي في لبنان ضحية “الموت السياسي” قبل أن يشرّع أبوابه للخدمة. والمقصود هنا أنه ضحية النعرات السياسية والتمويل غير المتوازن وانعدام الرقابة والإدارة، على الرغم من أنه يضم نخبة من أطباء الوطن الذين بدورهم يضخون الحياة في هذه المستشفيات على قدر طاقتهم باسم “الضمير والإنسانية”، وهذا ما ترجمه الواقع في خضم أزمة “كورونا” مع طاقم الأبطال الذين خدموا الإنسانية على الرغم من عدم حصولهم على المداخيل لمدة أشهر.
أما الأنظمة الخاصة، والمقصود “المستشفيات الأهلية” أو “الخاصة” التي تخضع لإدارة القطاع الخاص، فهي تدخل ضمن إطار “الغاية في تحقيق الأرباح”، بالتالي يصبح الاستشفاء لقاء بدلٍ باهظٍ، ما يضعه ضمن إطار موجَّه إلى فئة معينة من الناس، أو ما يعرف بـ”الطبقة المخملية”. وفي حديث لموقع القوات اللبنانية الإلكتروني مع أحد الأطباء في القطاع الخاص، تبيَّن أن كلفة ليلة واحدة في غرفة العناية داخل مستشفى بجودة محترمة تتراوح ما بين الـ500 والـ1000 دولار أميركي.
بالإضافة إلى هذين النظامين، أحد الحلول الاستشفائية في العالم هو “نظام التأمين الصحي ـ Assurance”، القائم على التضامن المالي في المجتمع لقاء توفير الخدمات الصحية. أي أن الفرد يدفع للشركة بدلً نقدياً يعتبر مقبولاً لكل الفئات، وبالمقابل تتعهد الشركة بتقديم الخدمات الصحية وفقاً لشروط الاتفاق.
في هذا الإطار قام فريق موقع “القوات” بجولة بحثية حول الأرقام المطروحة في السوق والمعايير المتبعة. وفي حديث مع أحد المسؤولين في هذا القطاع، اتضح أن هناك معايير للإتفاق على مفهوم التأمين: أولها “السن”، إذ إن علاقة السن بـ”الكلفة” علاقة تصاعدية، فكلما تقدم المرء بالعمر ترتفع كلفة الضمان (أطفال ـ شباب ـ شيوخ)، بالإضافة إلى اختيار النظام الأنسب للحاجة (IN) والذي يشمل الكلفة الاستشفائية فقط، أو (OUT) أي كلفة الفحوصات الخارجية (المختبرات)، علماً أنه من الممكن الالتزام بالإثنين معاً. أما من ناحية الأرقام، فلا معيار ثابت بين شركات التأمين، إذ يختلف بحسب المواصفات والجودة. غير أن الكلفة لن تقل عن 100 و200 دولار أميركي لأصغر فئة سنوياً بالحد الأدنى، وتتدرج صعوداً.
كل ذلك في واقع يضع موظف القطاع العام تحت رحمة دخلٍ شهري يتراوح بين الـ”100 والـ300″ دولار أميركي كحد أقصى، في ظل غياب شبه نهائي لـ”الضمان الاجتماعي”. بالتالي يصبح حتى نظام “التأمين” صعب التحقيق بالنسبة إليه، خصوصاً في خضم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي دخل بها لبنان منذ العام 2019.
في الخلاصة، عندما تستوفي “الدولة” شروطها تصبح كل أنواع أنظمة الاستشفاء خاضعة لبوصلة القانون والمصلحة العامة، وتصبح المستشفيات منبراً لتطبيق رسالة “الحياة” وليس لاستهلاكها باسم “العملة” ولدواعي الربح والكسب. إنما يبقى السؤال: هل فقدان معايير الدولة يعلل سبب انعدام الضمير والإنسانية داخل القطاع الاستشفائي؟