مار أنطونيوس أبو الرّهبان.. والميراث سمك وحلاوة

حجم الخط

مار أنطونيوس أبو الرهبان تركَ كلَّ ما يملك من مالٍ ليتبع الربّ يسوع حتّى النهاية، تنسّك في صعيد مِصر في القرن الرابع ميلاديّ وأصبح كوكبًا رهبانيًّا يجذب قلب كلّ من أراد اتّباع المسيح. تبع مار أنطونيوس، رهبانٌ كثيرون ليعيشوا تكرّسهم الرهبانيّ بحسب نهجه وعلى طريقة نسكه القَشِفة، حيث يعيشون شظَفَ الحياة ولا يتملّكون سوى حبّهم للربّ يسوع. ينذرون حياتهم وجهد أيديهم وعرق تعبهم في سبيل إعلاء شأن القِيَم الإنسانيّة المسيحيّة النابعة من المشورات الإنجيليّة، مقابل الخضوع لغريزة تملّك المادّة والمال.

طال هذا النهج الرهبانيّ شغَفَ الشبابِ اللبنانيّ، واندفع العديد منهم للانضواء في الحياة الرهبانيّة تاركين خلفهم كلّ تعلّقٍ بالأرضيّات وقاصدين التطويبات الإنجيليّة في الملكوت السماوي. حلّقوا فوق أقصى قِمَم الإنجازات الإنسانيّة، إذ خرج من بينهم مار شربل قاصدًا ما لا يخطر على قلب بشرٍ في محيطه العربيّ، خَطّ بتكرّسه الرُهبانيّ طريقةً أعلى من القِمَمِ الشاخصة في عقول الناس، وأصبح قدّيسًا ساكنًا عن يمين الله الآب. حفروا بسواعدهم صخور الجبال وجعلوها بساتين مثمرةً تعطي طعامًا وغذاءً لكلّ فقيرٍ محتاجٍ. تعلّموا في كتبهم الرهبانيّة أنّ وجود الإنسان قيمة بحدّ ذاته، وتطوره الثقافي والعلميّ لا ينفصل عن الغاية الساميَة من تكرسهم للمسيح، لذا درسوا تحت السنديانة أصول العلم قبل أن يؤسّسوا المدارس والجامعات في القرن العشرين كي لا يكون التعلّم حِكرًا على أولاد القصور. أصبحوا في تكرّسهم الرهبانيّ أعمدة هيكل الوطن الإيمانيّ والأخلاقيّ والتربويّ والعَمَليّ، وأضحت أديارهم ومراكزهم المرجعيّة في أيّام الحاجة والفاقة على الصعد كافّة، لأنّهم يعملون في أرضهم ومؤسّساتهم من دون أيّة غاية شخصيّة أو مادّيّة بل ليكون اسم الله مسبّحًا.

أصبح هذا النهج الإيمانيّ الرهبانيّ والعمليّ مدرسة قداسةٍ، فأعطى القدّيس تلو القدّيس، إذ كانوا رهبانًا اعتنقوا نهج القدّيس مار أنطونيوس، ولكن كلّ واحدٍ بطريقة معينة، تقدّسوا في المحبسة والدير والعمل اليدويّ والعمل الاجتماعي، وأفضت جميع الطرق إلى قلب الله ونالوا جميعًا النصيبَ الأفضل في الملكوت السماويّ. وللمفارقة أنَّ جميعهم كانوا لبنانيّين آمنوا بوجود الله الحاضر معهم أينما حلّوا، وتيقّنوا أن أرض رسالتهم هي لبنان انطلاقًا من كنيستهم اللبنانيّة، لذا حلّقوا فوق كلّ من فقد إيمانه بكنيسته وثقته بوطنه، لأنّ العمّانوئيل يكون معنا حيث نكون ونتكرّس ونعمل.

يجدّد الرهبان في عيد مار أنطونيوس نذورهم الرهبانيّة لينطلقوا من جديدٍ بزخمٍ أقوى من السابق، لأن الربّ يطلب قلوب شبابٍ تخفقُ دائمًا بقوة وعزيمة لا تتوقّف أمام خيبات الأمل ولا تُخيفها أو ترهبها الصعاب، يجدّدون إيمانهم به كونه الأوّل والآخر ومصدر الحياة الأبديّة. توارثوا عن أسلافهم في هذا العيد، أكل السمك والحلاوة، إذ كان رهبان الماضي متنسّكين على قمم الجبال وفي كهوف الأرض حيثُ لا سمكَ ولا حلاوة، لذا كان العيد فرصةً لهم للنزول إلى المدن لشراء السمك والحلاوةِ أمّا النبيذ فيُخرجونه من خوابي أديرتهم خمرًا عتيقًا مقدّسًا. ما زال حتّى يومنا هذا الشباب اللبنانيّ يتكرّس على هذا النهج طالبًا الكمالَ عند الله وحسب، وما زال مار أنطونيوسُ أبا هؤلاء الرهبان.​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل