كتب جو حمورة في “المسيرة” ـ العدد 1748
وقود “الإسلاموفوبيا” يسرِّع التاريخ الفرنسي
اليسار وماكرون أول الخاسرين
لم تعد مجمل الأخبار الواردة من باريس تتعلق بالنزهات الرومنسية تحت برج إيفل، أو احتساء النبيذ في حانات المدينة. باتت الأخبار القادمة من الجانب الفرنسي لا تشذ كثيراً عن أحداث مرتبطة بحرق المحلات التجارية أو حالات الفوضى والإضطراب الإجتماعي، كما درجة عالية من الإستقطاب الإيديولوجي الحاد نتيجة صعود الإسلام السياسي والحركات اليسارية ونزوعها نحو العنف المفرط. صعودٌ تقابله نزعات يمينية متزايدة وتزيد “الإسلاموفوبيا” في الهشيم ناراً، وفي الإضطراب المجتمعي الفرنسي حدةً.
لم يكن الروائي الفرنسي “ميشال ويلبيك” مخطئاً في مضمون كتابه الخيالي الصادر عام 2015. يحكي كتاب “إستسلام” عن أحداث تجري مستقبلاً في فرنسا، حيث يتنافس حزب إسلامي فرنسي مع حزب يميني متطرف على رئاسة الجمهورية. يفنّد الكاتب مبادئ اليمين الفرنسي كما الإسلاميون ويقاربها مع هوية فرنسا وقيمها التقليدية والوطنية، ويدل على حالة الإستقطاب الحادة في المجتمع التي “لا مهرب منها”. ومنذ إصداره وترجمته إلى لغات أوروبية عديدة، تصدّر كتاب “إستسلام” المبيعات لسنوات متتالية في فرنسا كما وفي ألمانيا وإيطاليا، فيما كان رأي “ويلبيك” حول مضمون كتابه أن ما كتبه ليس إلا “تسريعاً للتاريخ”.
شارفت رؤية “ويلبيك” الخيالية أن تتحقق، إذ تعيش فرنسا الآن حالة من الاستقطاب الإيديولوجي الحاد بين قواها السياسية. اليمين المتطرف في صعود مستمر في فرنسا، أكان انتخابياً أم شعبياً أم حتى اقتصادياً. يرى طيف كبير من رجال الأعمال والطبقة الوسطى الفرنسية مصالحها في تأييد اليمين الفرنسي، على اعتبار أنه يمكنه، إن وصل إلى الحكم، أن يفرض الأمن والأمان ويقلّص من أعداد اللاجئين والهاربين من أفريقيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا، كما الحفاظ على الهوية الفرنسية التقليدية القائمة على الوطنية ومبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وغيرها.
يستخدم اليمين السياسي في فرنسا خطاب “الإسلاموفوبيا” لتعزيز شعبيته، فيدل على خطورة تكاثر أعداد اللاجئين وتغييرهم لهوية فرنسا وثقافتها. يرون في المسلمين القادمين من وراء البحار خطراً على البلاد وأمنها وشعبها، من دون أن يشذ هذا الخطاب عن إستخدام بعض التعابير والمصطلحات والمفاهيم والمواقف العنصرية أو ذات المدلول العنصري. يتلاقى هذا الخطاب “النظري” مع الأحداث “الواقعية” التي جرت مؤخراً في فرنسا والتي شهدت على فوضى أمنية وحرق آلاف المحلات التجارية، واضطرار السلطات الفرنسية لإعلان حالة طوارئ جزئية في بعض المناطق والمدن، كما وقف سير النقليات البرية في ساعات الليل، وذلك في ذروة وقوع حالات الشغب.
بدأت تلك الأحداث في 27 حزيران الماضي، عندما أوقفت الشرطة الفرنسية شاباً من أصول جزائرية يُدعى نائل المرزوقي (17 سنة)، والذي قام بمحاولة الهرب بسيارته فأرداه شرطي فرنسي قتيلاً. أدى تصوير ونشر فيديو الحادثة إلى موجة غضب من المهاجرين واللاجئين و”قبضايات الأحياء” الفقيرة، كما من اليساريين والإسلاميين الساعين إلى تغيير السلطة الفرنسية أو ربما نظامها السياسي برمته. تنامى الإستقطاب سريعاً، ودبت الفوضى في الكثير من المدن وبخاصة في الجنوب الفرنسي، حيث يقطن أغلبية المهاجرين الأفريقيين، كما في باريس وضواحيها الفقيرة التي تعج باللاجئين العرب، الأفارقة والشرق أوروبيين.
لا يمكن الجزم بما إذا كان الإسلام السياسي في فرنسا قد أخذ شكلاً تنظيمياً حقيقياً، أو إن كان قد تحوّل إلى حركة سياسية منظمة تديرها مجموعة واعية لحقوقها السياسية وكيفية العمل والتحرك. من المرجح أن الإسلام السياسي الفرنسي لا يزال في حالة ضياع تنظيمي، يعتاش على ردات الفعل والتصرفات الارتجالية، كما على “الوقود” المحفّز الذي يرفده به اليمين الفرنسي.
صحيح أن إستخدام التعابير العنصرية والرافضة للمسلمين كما سلسلة من السرديات المعادية للمهاجرين وتكثيف مشاعر “الإسلاموفوبيا” من قِبل اليمين الفرنسي تزيد من شعبيته الخاصة. إلا أنها، وفي الوقت عينه، تزيد من شعبية الإسلام السياسي ومن حركيتها. تفيد “الإسلاموفوبيا” طرفي النزاع، فيما يصبح من هم خارج هذا الإصطفاف على هامش الحياة السياسية والقدرة على الإستقطاب الجماهيري.
يبدو أن الخاسرين الأكبرين في فرنسا في الوقت الحالي هما اليسار ورئيس البلاد إيمانويل ماكرون. اليساريون ضعفاء تنظيمياً ومادياً، وينتهجون خطاباً خشبياً قد يصلح لتسعينات القرن الماضي في فرنسا، لكن الأكيد أنه لا يصلح البتة للتقدم الشعبي في الزمن الحالي. كما يبدون قليلي الحيلة والمقدرة ويراهنون على المهاجرين كعربة تنقلهم إلى الحكم أو تزيد من تأثيرهم. يراهن اليساريون، عن سذاجة ربما، أن أعضاء الإسلام السياسي هم بالفعل يساريون، فلا ينظرون إلى الفروقات الدينية والقومية بوصفها عاملاً مهماً في تحديد الخيارات السياسية والوجدانية للناس، ولا يتقبّلون حتى أن المهاجرين المسلمين هم، قبل كل شيء، مسلمون، وذلك قبل أن ينتموا إلى أي أمر آخر.
أما ماكرون، فيواجه موجات من العنف وضمورًا في التأثير، ليس الخارجي فقط، إنما الداخلي كذلك، حيث يبدو مربكاً أمام العنف والفوضى في الشوارع والأحياء والمدن، وغير قادر على استلهام خطاب سياسي أو إيديولوجي أو حتى وعود إصلاحية تهدئ من التفلّت الأمني. يظهر ماكرون كقابض على مقاليد حكم من دون القدرة على أن يستغل السلطة لخدمة الفرنسيين، أو أن يجد توليفة لتعزيز حكمه وسلطته ونفوذه السياسي أمام حالة الإستقطاب بين اليمين والإسلام السياسي في فرنسا.
في محاكاة لكتاب “ويلبيك”، لا تبدو فرنسا بعيدة كثيرًا عن تحويل الرواية الخيالية إلى حقيقة، حيث يتنافس اليمين المتطرف مع الإسلام السياسي الذي يفتقر إلى بعض التنظيم والحركية. فيما “الإسلاموفوبيا” وخطابها الرائج في فرنسا حالياً، يشكل وقوداً للطرفين لزيادة شعبيتهما وقدرتهما على التأثير والنمو. لإستقطاب لن يودي بفرنسا إلا إلى حالة من الإنهيار والفوضى لا تليق بها ولا بمكانتها الدولية وتاريخها الحضاري “المشرِّف”.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]