لكي تبقى تجربتها حية في الذاكرة كما كانت حاضرة في الوجدان، يعيد موقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، نشر مقال للزميل نجم الهاشم، كتبه في “المسيرة” في العام 2019، لمناسبة ذكرى تأسيس “الجبهة اللبنانية”، يتناول فيه ظروف تأسيس الجبهة، تاريخها، دورها، أبرز رجالاتها، كما الخضات التي تعرضت لها.
في 31 كانون الثاني 1976 تم الإعلان من مقر جامعة الكسليك عن تأسيس “جبهة الحرية والإنسان”. وفي 21 و22 و23 كانون الثاني 1977 تم الإعلان في خلوة دير سيدة البير عن مقررات “الجبهة اللبنانية” وعن تنظيم هذه الجبهة ووضع نظام داخلي لها في ما يمكن اعتباره إعلانا للتأسيس الثاني والانتقال من “جبهة الحرية والإنسان” إلى “الجبهة اللبنانية” التي استمرت تجتمع وتصدر البيانات تحت هذا الإسم.
منذ العام 1976 وحتى العام 1987 عاشت الجبهة اللبنانية وعايشت كل المحطات المفصلية. ومثلت طيلة هذه المرحلة وجدان قضية وشعب ووطن وكانت بحجم المسؤولية التي حملتها دفاعًا عن لبنان. لم يكن من السهل أن تختصر الجبهة كل الأحزاب والتيارات والشخصيات الاستقلالية والسيادية، ولكنها فعلت من دون أن تلغي خصوصية أي من هؤلاء الذين انضووا تحت قيادتها وكانوا يعبّرون عنها منفردين ومجتمعين.
لم تولد الجبهة من فراغ ولكنها استطاعت أن تملأ فراغاً كان مطلوباً ألا يظل فراغاً. قبل الجبهة كانت الهواجس موجودة والخطر موجودًا وكانت الحاجة إليها موجودة، وعندما ولدت كان الإعلان عن ولادتها كأنه إعلان عمّا كان صار معلومًا.
قبل 31 كانون الثاني 1976 تاريخ الإعلان الأول عنها كانت هناك اجتماعات تمهيدية لبلورة هذه الفكرة التي استدعتها ضرورات المعارك السياسية والعسكرية. الذين التقوا في الجبهة كانوا التقوا في ميادين المواجهة كل من موقعه وخلفيته وتنظيمه. في الأساس كانت الفكرة موجودة وكانت الحاجة ماسة وكان الخطر يدق على الأبواب وكانت الدولة قد غابت وكان مطلوبًا أن يكون هناك من يتصدى للخطر ويتحمّل المسؤولية ويخرج إلى الجماعة الخائفة والقلقة ليقول إن الوقت قد حان لتولي القيادة.
كان من الطبيعي أن تولد الجبهة من رحم الأفكار التي كانت سبقت ولادتها من لجنة بحوث الكسليك ومن المؤتمر الدائم للرهبانيات اللبنانية ومن عدد من المفكرين والباحثين، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون اللقاء الأول في دير الكسليك لأنه كان القاسم المشترك بين الجميع، وكان من الطبيعي أيضًا أن يتم الإعلان عن عهد الجبهة في 13 شباط 1976 من دير مار أنطونيوس في الأشرفية.
كان المطلوب أن تلتقي القيادات السياسية والعسكرية والحزبية والفكرية في إطار واحد. وهكذا كان اللقاء طبيعيًا بين الشخصيات الأولى التي تكوّنت منها الجبهة: كميل شمعون وبيار الجميل وشارل مالك وشربل قسيس وفؤاد الشمالي وشاكر أبو سليمان وجواد بولس وسعيد عقل وغيرهم من الأسماء التي كانت في الكواليس ووراء الستار تساهم في خلق الأفكار وتقديم المقترحات وصياغة المواقف.
ولدت الجبهة في 31 كانون الثاني 1976 بعد عشرة أيام فقط على تهجير الدامور وبينما كانت المعارك تشتعل في كل المناطق. كان يكفي أن ينتقل كميل شمعون من قصر السعديات إلى الإقامة في قصر بعبدا حتى يكون منذ البداية الرئيس الفعلي للجبهة حتى من دون الإعلان عن مثل هذا الأمر في البداية. وكان يكفي أن يكون بيار الجميل رئيسًا للكتائب ليكون قطب الجبهة الثاني مستندًا إلى قوة عسكرية حزبية منظمة. وكان من المطلوب أن يتم التوازن بين حضور بيار الجميل وكميل شمعون وبين حضور الشخصيات التي لم يكن لديها تنظيمات مقاتلة، وكان من الرائع أيضًا أن يكون حضور الجميع متساويًا تقريبًا.
لم يكن من المتاح في مرحلة التأسيس تلك أن يكون الرئيس سليمان فرنجية عضوًا في الجبهة لأنه كان رئيس الجمهورية ولكن ممثلين عنه كانوا يشاركون بطبيعة الحال لأن قوات عسكرية تابعة له كانت تشارك في القتال على الأرض على أكثر من جبهة.
ولادة الجبهة ترافقت أيضًا مع بداية تبدل في موقف النظام السوري من مجريات الحرب والتحالفات وكان المطلوب أولاً مواكبة محاولة الخروج من الحرب من خلال الوثيقة الدستورية التي كان يتم التحضير لها بين الرئيس فرنجية ورئيس النظام السوري حافظ الأسد وقد تم الإعلان عنها في 14 شباط 1976 بعد يوم واحد من الإعلان عن عهد جبهة الحرية والإنسان.
ولكن وحدة التنظيم السياسي ضمن الجبهة بقيت في تلك المرحلة عرضة للاختلاف في المواقف. بداية كان هناك اختلاف حول مقاربة العلاقة مع النظام السوري بين من هو رافض وبين من يعتبر أنها لا مفر منها لتقطيع المرحلة الضاغطة عسكريًا. وكان هناك اختلاف وتمايز في النظرة إلى انقلاب العميد عزيز الأحدب بين من اعتبره منقذاً للبنان ومن اعتبره انقلابًا على الشرعية، خصوصًا أنه طالب باستقالة رئيس الجمهورية. وهذا الموضوع، أي المطالبة باستقالة الرئيس كان موضع اختلاف بين من وافق على الفكرة وبين من رفضها، خصوصًا بعدما تمسك فرنجية بالبقاء في سدة المسؤولية حتى آخر يوم قبل أن يكون هناك حل وسط بتعديل الدستور وانتخاب رئيس للجمهورية قبل ستة أشهر على أن يتسلم مقاليد الرئاسة في 23 أيلول، وعلى هذا الأساس كان الياس سركيس مرشح الجبهة اللبنانية وقد تم انتخابه في 8 أيار 1976.
لم يكن هذا التوافق على تقطيع المرحلة يعبّر عن وحدة موقف حقيقي، ذلك أن الاختلاف عاد وظهر حول العلاقة السياسية مع النظام السوري من جهة وحول دخول القوات العسكرية التابعة للنظام إلى لبنان في حزيران 1976 ثم حول دورها بعد تحوّلها القوة الأكبر ضمن قوات الردع العربية وتوسيع انتشارها داخل المناطق الشرقية بينما كانت الجبهة بشكل عام تعتبر أن المطلوب ألا يشمل انتشارها هذه المناطق وأن تعمل على سحب ا.ل.س.ل.ا.ح الفلسطيني.
صحيح أن الجبهة كانت أيدت انتخاب الرئيس الياس سركيس ولكن العلاقة معه لم تكن متوازنة وشابتها في البداية نزاعات كثيرة. وإذا كان دخول لبنان مرحلة من السلام الخادع قد أمّن انتقال السلطة ومحاولة إعادة بناء الجيش والدولة، فإن تلك المرحلة شهدت أيضًا حدثين على مستوى الجبهة هما مشاركة الرئيس سليمان فرنجية فيها كعضو أساسي بعدما كانت بدأت اجتماعاتها معه كرئيس للجمهورية في قصر بعبدا، ثم بعد انتقاله إلى القصر البلدي في زوق مكايل قبل أن يستقر في الكفور. أما الحدث الثاني فكان التخلي عن تسمية جبهة الحرية والإنسان والانتقال رسميًا إلى تسمية الجبهة اللبنانية مع خلوة سيدة البير في 23 كانون الثاني 1977 وخروج الدكتور فؤاد الشمالي منها ثم الشاعر سعيد عقل.
العام 1978 شهد خلوتين للجبهة في زغرتا وفي إهدن وذلك بعدما بدأت مرحلة السلام تنهار بعد حوادث ثكنة الفياضية في شباط 1978 وعودة الخلاف مع النظام السوري عسكريًا وسياسيًا، الأمر الذي انعكس خلافاً كبيرًا مع الرئيس الياس سركيس خصوصًا لجهة عجزه عن ممارسة دوره كقائد أعلى لقوات الردع العربية.
الخضة الأولى الكبيرة حصلت داخل الجبهة مع أحداث إهدن وما سبقها وتلاها وأدت إلى خروج الرئيس سليمان فرنجية منها وفصل مناطق الشمال عن العمق المسيحي. ولكن هذا الخروج وإن كان أضعف الجبهة إلا أنه لم يحل دون استمرارها بقوة أكبر لاحقاً عندما توسعت عمليات الحرب بين القوى المسيحية وبين الجيش السوري في حرب المئة يوم.
الخضة الثانية التي تعرضت لها الجبهة كانت مع الحوادث بين الكتائب والأحرار وبعد عملية 7 تموز 1980. ولكن بحس المسؤولية الذي تحلى به الرئيس شمعون أمكن تخطي هذه المرحلة التي شهدت تكريس قيادته السياسية للجبهة وتكريس قيادة الشيخ بشير الجميل العسكرية “القوات اللبنانية” التي شهدت عملية التوحيد التي تعذر الوصول إليها في كل المحاولات السابقة، وبذلك أضحى الشيخ بشير الممثل القوي لـ”القوات” داخل الجبهة وانطلقت عملية الإعداد لوصوله إلى رئاسة الجمهورية. وبهذا الحضور لبشير وللجبهة تمت مواجهة حرب زحلة.
ترشيح بشير لرئاسة الجمهورية تم عبر الجبهة اللبنانية. كان الرئيس كميل شمعون طامحًا أيضًا ليكون مرشح الجبهة، ولكن التطورات العسكرية والسياسية وحّدت الجبهة حول قرار ترشيح بشير الذي كان وصوله إلى الرئاسة بمثابة وصول الجبهة اللبنانية ونجاح تجربتها وخياراتها.
بعد اغتيال بشير وانتخاب شقيقه الشيخ أمين الجميل خلفاً له، وبعد سلسلة الحروب في الجبل وبيروت والضاحية، ضعف موقف الجبهة اللبنانية التي كان انضم إليها فادي فرام ممثلاً لـ”القوات” بعدما صار قائدها. في 27 آب 1984 توفي الشيخ بيار الجميل ففقدت الجبهة أحد ركنيها الأساسيين ولكنها استمرت مع انضمام الدكتور إيلي كرامه إلى عضويتها بعد اختياره رئيسًا للكتائب.
كانت الجبهة قد اعتمدت مقرًا لها في دير مار جرجس عوكر التابع للرهبانية الأنطونية. من ذلك المكتب المتواضع الذي كان كناية عن غرفة صغيرة كانت الجبهة تصدر بياناتها التي ينتظرها اللبنانيون وتذيّلها بعبارة عاشت الجبهة اللبنانية عاش لبنان وتحاكي هواجس الناس ومخاوفهم وتحاول أن تبقى على قدر آمالهم. ومن حول تلك الطاولة المستطيلة الخضراء وتحت صليب خشبي معلق على الجدار كان أركان الجبهة يلتقون ويبحثون ويتداولون في مختلف القضايا.
وقد انعكست على الجبهة سلبًا الخلافات داخل الصف المسيحي، خصوصًا بعد ا.ن.ت.ف.ا.ض.ة 12 آذار ثم مع سعي إيلي حبيقة الذي تولى رئاسة الهيئة التنفيذية لـ”القوات اللبنانية” لفرض الاتفاق الثلاثي الذي عارضته الجبهة، وخصوصًا الرئيس كميل شمعون. في 12 تشرين الثاني 1985 حصلت عملية التفجير التي استهدفت الجبهة خلال اجتماعها الأسبوعي في دير مار جرجس في عوكر، ولكن وإن تم تدمير قسم كبير من الدير فإن أعضاءها نجوا من المحاولة وإن كانوا تعرضوا لإصابات بقيت طفيفة. كان يكفي أن يطل الرئيس شمعون مضمدًا بعد الانفجار ليتأكد الناس أن الجبهة مستمرة. ولكن بفعل هذه العملية خفت لقاءات الجبهة خصوصًا مع محاولات حبيقة تنصيب قيادات جديدة في الكتائب والأحرار قبل أن تعود بعد انتفاضة 15 كانون الثاني التي أسقطت الاتفاق الثلاثي.
بعدما أصبح الدكتور سمير جعجع رئيسا للهيئة التنفيذية في “القوات” بات ممثل “القوات” داخل الجبهة، وبعد انتخاب الدكتور جورج سعاده رئيسًا للكتائب بات ممثلاً للحزب فيها وباتت تعقد اجتماعاتها في مقر المجلس الحربي.
العام 1987 شهد وفاة ركني الجبهة كميل شمعون في 7 آب وشارل مالك في 28 أيلول وانتهى بذلك عهد الجبهة الذهبي، خصوصًا أن اجتماعاتها كانت تقطعت، لا سيما بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس شمعون في 7 كانون الثاني 1987 وبقيت هذه الاجتماعات مستمرة، ولكن دور الجبهة الطليعي كان غاب في ظل التطورات وانتفى تلقائيًا مع حكومة العماد ميشال عون العسكرية.
طيلة عشرة أعوام تقريبًا مثلت الجبهة اللبنانية ضمير لبنان الكيان وكانت المدافع الأول عن حريته وسيادته واستقلاله والأحرص على عودة الجمهورية القوية والدولة والمؤسسات ضماناً لاستمرار لبنان الوطن الذي يتسع لجميع أبنائه، وهي في كل أدبياتها وبياناتها وخلواتها وقراراتها لم تخرج عن هذا الخط وبقيت الصوت الصارخ في وجه محاولات تبديل صورة لبنان. وهي نتيجة كل ذلك تبقى مثالاً يُحتذى في القيادة الواعية والحكيمة على رغم الخضات الكثيرة التي مرت بها، ذلك أنه وعلى رغم كل الظروف استطاعت أن تبقى وأن تستمر.