في معظم أنحاء العالم “الشتي خير”، فالناس تنتظر سقوط الأمطار التي كلما زادت كميتها كلما امتلأت البحيرات، وارتفع منسوب الأنهر وغاب شحّ المياه خلال فصل الصيف. غير أننا في لبنان “غير شكل” عن معظم بلدان العالم، ونكاد نصلّي ونطلب ألا تتساقط الأمطار عندنا في فصل الشتاء بغزارة ونقول “ما تشتي منتبهدل”، جرّاء “البهدلة” والمصائب التي تحلّ علينا كلما لاحت الأمطار في أجوائنا ومع كل شتوة حتى ولو لم تكن بكميات غزيرة.
بات “مسلسل” معاناة اللبنانيين مع حلول فصل الشتاء وموسم الأمطار كل سنة، أشبه بالمسلسلات المكسيكية أو التركية أو البرازيلية التي لا تعرف نهاية. فمنذ سنوات طويلة ترافق الكوارث والفيضانات والسيول حياة اللبنانيين كلما حلّ فصل الشتاء، والأمطار تغرق الأوتوسترادات والطرق وتحوّلها إلى بحيرات، والناس تعلق في سياراتها لساعات وساعات، فيهبّ رجال الدفاع المدني والصليب الأحمر وفوج الإطفاء لنجدتهم وسحبهم من سياراتهم، و”المسلسل” يتكرر كل سنة في حلقات متجددة.
الأسباب كثيرة، من الإهمال المتمادي للأوتوسترادات والطرق وعدم خضوعها لصيانة متواصلة على مدار العام، إلى تنظيف أقنية تصريف المياه والمجاري المائية والأنهر التي تسجّل تعديات كثيرة عليها من قبل بعض أصحاب النفوذ والمنتفعين، من خلال المخالفات وإقامة إنشاءات مختلفة عليها وتضييق مجاريها ما يعيق حركة المياه وانجرافها إلى البحر، إلى عدم مسؤولية بعض المواطنين الذين لا يحترمون الشروط البيئية بعدم رمي النفايات في الأقنية والوديان والأنهر ومجاري المياه، وغيرها من الأسباب.
تعدّدت الأسباب لكن النتيجة واحدة، كوارث وخسائر وحوادث، وصولاً إلى مصائب ومآسٍ إذ يتسبَّب هطول الأمطار الغزيرة أحياناً بسقوط ضحايا وإصابات، كما حصل على سبيل المثال نهاية كانون الأول الماضي بعدما قضى 4 أطفال جرّاء انهيار سقف غرفة كانوا بداخلها في منطقة مزيارة قضاء زغرتا شمال لبنان، وقبله بنحو شهرين انهيار مبنى في المنصورية نتيجة الأمطار الغزيرة ما أدى إلى سقوط 8 ضحايا وجرحى وتشريد نحو 40 عائلة، بالإضافة إلى انهيار أكثر من مبنى في طرابلس خلال السنوات الماضية وسقوط ضحايا وجرحى، وغيرها من الحوادث المؤسفة نتيجة سقوط الأمطار في فصل الشتاء.
من غير المفهوم حالة العجز التي تبدو مسيطرة وسط كل هذه المعاناة المتمادية مع حلول فصل الشتاء وبداية موسم الأمطار كل سنة. وكأن قدر اللبنانيين الغرق كلما هطلت الأمطار، أو أن يعتادوا على انتظار “العلقة” داخل سياراتهم وسط البحيرات الناشئة على الأوتوسترادات عند كل شتوة، وأن يعيشوا في ظل الخوف من السيول الجارفة والانهيارات الصخرية، وصولاً إلى الخشية من انهيار بيوتهم ومحلاتهم على رؤوسهم لأن السيول تدخلها بعدما تعوم الطرق بالمياه التي لا تجد منفذاً عبر الأقنية والمجاري المسدودة.
قبل أسابيع عامت بيروت وجونية وغيرهما من المناطق بعد هطول كمية غزيرة من الأمطار، وعجز نهر بيروت عن استيعاب كمية الأمطار المنهمرة وفاض عن حدوده، وكذلك منطقة جونية التي تحوّل أوتوسترادها إلى موقف للسيارات العالقة داخل بحيرة من المياه، وغيرهما من المناطق الكثيرة التي عانت من المشكلة ذاتها. في حين، المواطنون لا حول ولا قوة لهم إلا بعض رجال الدفاع المدني الذين يحاولون قدر المستطاع إسعاف الناس العالقين، بالإمكانيات المحدودة المتوافرة لديهم.
من المؤسف ألا شيء يمكن أن يطمئن اللبنانيين لغاية الآن بأن هذه المشكلة ستجد طريقها إلى الحل في وقت قريب، بظل الأوضاع المعروفة، بل يكاد اللبناني يفقد الأمل باي حل لأي مشكلة. لكن على الرغم من كل الظروف والتبريرات التي يمكن أن يتحجج بها كثيرون، لا شيء يبرّر حالة العجز التي نشهدها، والمطلوب مضاعفة الجهود والتعاطي مع أزمة الأمطار والسيول التي تتكرر مع كل فصل شتاء بالأولوية التي تستحقها.
من غير المقبول أن يُحتجز عشرات آلاف المواطنين في سياراتهم على الأوتوسترادات التي تتحول إلى بحيرات مع كل شتوة، وأن تفيض مياه الطرق والمجاري على المنازل، وتعريض حياة الناس لخطر جدّي كلما هطلت الأمطار وسقوط ضحايا وإصابات يمكن تجنّبها. لا يعقل أن يتحول هطول الأمطار في لبنان من نعمة إلى نقمة ومصيبة تحلّ على اللبنانيين، فيما دول كثيرة تحلم شعوبها بجزء يسير من كمية الأمطار التي تتساقط عندنا. فهل من يسمع؟