أذكر يا إنسان أنك من التراب لا لتعود إليه يومًا ما، بل لأن الله منحك صورته ومثاله وأضفى عليك كرامة إنسانيّة مباركة، لتتعرّف عليه حيث تكون وتدخل معه بعلاقة شخصيّة تجعل منك وارثًا لملكوته السماويّ متى أتيت في مجده. ندخل اليوم زمنَ الصوم الكبير صائمين عن كلّ ما يشوّه صورة الله فينا ويجرح كرامتنا الإنسانيّة.
نسير في هذا الزمن المقبول لدى الربّ ضمن مسيرة كنسيّة قاصدة سلامَ يسوع المسيح القائم من القبر يوم أحد القيامة. نذرّ الرماد على جباهنا لا تعفيرًا وتعبيسًا لوجوهنا لكن استعدادًا لتوبتنا وغفراننا لإخوتنا سبع مرّات سبعين، ولأن قلوبنا تخفق لذاك العيد الكبير حين سنقطف ثمار توبتنا الّتي أينعت سلامًا في قلوبنا وفرحًا على وجوهنا.
نصوم اليوم عن كلّ فكرةٍ متصلّبة تُبعدنا عن أقرب الناس إلينا لأنّنا نريد الطوبى في الملكوت السماويّ، وفي أعماقنا توقٌ يخالج نفوسنا إلى مشاهدة وجه الله بالعين المجرّدة. نصوم اليوم لأنّنا نؤمن أنّ إلـهَنا أبٌ لا يرضى أن يبقى ولدٌ من أولاده خارج حضنه الأبويّ، وهو ينتظر عودة كلّ واحدٍ منّا مهما ابتعدَ بالمسافة وطال غيابُه، فهو المحبُّ والرحوم للبشر، ويداه مفتوحتان دائمًا ليضمّ إلى قلبه كلّ تائب عاد إلى رحمته.
نصلّي في صومنا إلى الربّ يسوع المسيح حامل خطايانا ورافعها معه على الصليب كي لا يبقى أحدٌ خارج نعمة الله وبركته. نتأمّلُ به سائرًا في شوارع أورشليم وهو يضمّد نزف المرأة ورافضًا أن تكون عُرضةً لأحكام الناس أو خاضعةً لشفقتهم ولمزاجيّتهم.
نتمثّل به يوم وضع يده على الأبرص مُعلنًا أنّ الأمراض لا تتفوَّق على المحبّة، وأن لكلّ مريضٍ مكانة عند الله وبين الناس حتّى ولو اشمأزّ منه البعض، فالله منحه صورته ومثاله أيضًا. نطلب من الربّ أن يشركنا معه في عهده الجديد الّذي أبرمه مع تلاميذه، ليكون لنا معه نصيب في ملكوته ونشرب كأس عهده رحيقًا جديدًا. ونعاهده أنّنا لن نتخلى عن مسؤوليّتنا تجاه بعض أمام هول الجمعة العظيمة، ولن نرمي وزر خطيئتنا على الغير خوفًا من الجلّاد، ولن نخاف الظلمة ولا الزلزلة، بل سنبقى راكعين تحت أقدام صليبه كي لا ندخل في تجربة ولا نخرجَ من عرسِ انتصار قيامته ربًّا ومسيحًا.
نَسيرُ في الصومِ الخمسين بهدي الروح القدس لنعبر بحر التجارب دون الوقوع فيها، متَّكِلين على مواهِبِه المتنوّعة الّتي تعطينا الفهم والحكمة كي نختارَ الأفضل في صومنا وحياتنا، وتجعلنا ننتصر دائمًا على كلّ ما يبعدنا عن سُبل الله. نسأل الروح القدس أن يُلهمنا فهم كلمة الله والعملَ بتعليمِه وسط كثرة المضلّلين والعرّافين، وأن يقودنا في سبل الربّ القويمة كي لا نعودَ إلى الترابِ، لنهتف ونهلّل في نهاية الصوم مع التلاميذ: المسيح قام حقًّا قام.