رفيق الحريري، حين ينده الحب أحيانًا، يصبح الورد شوكًا يغرز في قلوب الشوق على من حضنتهم الأرض بدل عناق الأحبة. 14 شباط 2005 الواحدة وخمس دقائق، دوى الموت في وسط بيروت، فاستشهد رفيق الحريري الرجل الكبير وتكلل قبره بالغار، ومن القبر اياه خرجت أكبر ثورات الحب المعلن على الوطن، ثورة الأرز، لتنشر أغصانها فوق قبر الشهيد الكبير، ولو كانت ثورة تعمدت بالدم والنار وأشلاء قافلة من الشهداء.
هو عيد الحب، وليس أعظم من أن تحب حتى الشهادة، مضى العمر في لبنان ونحن نحب حتى الاستشهاد، حفرت الأرض قبورنا وعند كل قبر وردة حمراء وعيون يسوع المكللة بالعنفوان تظللنا. عيون يسوع تظلل الجميع، كل تلك الإنسانية الفائقة الحب لأرضها، قضينا العمر كله نحمل بيرق لبنان ونتضرّج بالدم والغار ليبقى لنا لبنان وسنبقى نفعلها الى أبد الآبدين.
قتلوا الحريري يومذاك، ولكنهم عمليًا كانوا يريدون اغتيال لبنان كله، أعوام طويلة عبرت، وعبر فيها حكايات وطن كل يوم يزيد جروحاته أكثر، كل يوم تنهب مساحاته أكثر وأكثر، كل يوم يتجذّر فيه الاحتلال وكل احتلال أسوأ من الذي سبقه، فمتى الحرية يا الله، متى الانعتاق؟!
ماذا نقول للشهيد الرئيس الحريري وكل من سبقه ولحق به؟ أن الغرور يا وطن، الغرور الذي استبد بالبعض وأخذهم الى البعيد هو من قتلهم؟ الغرور الفائق الى درجة أنهم ظنوا أنهم أصبحوا أكبر من بلادهم لمجرد أنهم أقوياء بالسلاح، بتلك الخِردة التي لا تصنع رجالًا، بل تصنع إرهابيين وليس أكثر، وهذا ما اثبتته الأيام المرّة مع هؤلاء. هل أنتم فعلًا أكبر من بلادكم؟ لو عاد الشهيد الحريري لذكّركم بمقولته الشهيرة “ما حدن أكبر من بلادو”، ووحدها شهادة الكبار تتجرأ على التشبه بالأرض التي استشهدت لأجلها.
يوم اغتالوا الحريري قلنا انتهى لبنان، ولم ينتهِ. بل خرج من رحم الموت في ذاك التفجير الوحشي الذي يشبه منفذيه والمخططين له تمامًا، خرجت أجمل الثورات على الاطلاق، ثورة الأرز.
نعرف لماذا اغتالوه، “لأنه شكل حالة تتجاوز قدرتهم على ضبطها، حالة فريدة، واجهت السوري في مرحلة عز تحكمه بلبنان، حالة ذهبت باتجاه أفكار الاستقلال والسيادة، من شخصية فرضت إيقاعها المحلي والدولي، اعتبروا أن حجمه الذي تجاوز مساحة لبنان أصبح يشكل على الاحتلال السوري خطرًا مباشرًا وصار بالنسبة إليهم عقبة أساسية في اتجاه فرض المزيد من السيطرة على لبنان، فاغتالوه” يقول شارل جبور رئيس جهاز التواصل والاعلام في القوات اللبنانية.
اغتاله بشار الأسد وعبر أجهزة الاتصالات نفّذ “حزب الله” الجريمة، ودارت الأيام دورتها تسعة عشرة عامًا، وها هو اليوم الحزب إياه، يمنع عن عناصره استعمال الهواتف الخلوية في الجنوب، لأن إسرائيل تقتنصهم عبر تلك الهواتف، ولأن من البيئة الحاضنة ما غيرها، يخرج عملاء ليخبروا إسرائيل عن أماكن وجود بعض القيادات من بينهم! أي مفارقة هذه، كما قتلتم تُقتلون، مفارقة تثبت أن الله يرانا، وأنه يمهل ولا يهمل.
يوم اغتالوا الحريري ظنوا أننا دخلنا في الاستسلام والإذعان والخوف، لم يعرفوا أننا نحن المقاومون الفعليين ومنذ يوحنا مارون، لم نلقِ سلاحنا يومًا، وأسلحتنا فتاكة، العناد والشجاعة وحب تراب الارض، تراب الارض التي إن اضطررنا نقتات منها لنبقى في الانتماء والوفاء. اغتالوه، فدُفن في أرض بيروت، والى الأرض إياها جاء كل لبنان ليعلن ثورة الأرز على المحتل السوري وعملائه من ممانعي آخر الأزمان البائسة تلك. من رحم ذاك الاغتيال المدوي، خرج اللبنانيون الى اللقاء من الطوائف كافة، ليعلنوا على الاحتلال وعملائهم في الداخل، الغضب حتى الثورة. تفجّرت قوة 14 آذار، وبسببها تم جلاء الاحتلال السوري عن لبنان. كان استشهاد الحريري الشرارة التي فجّرت غضب اللبنانيين وسخطهم، على من حولوا الأرض الى معتقل كبير للأحرار والمناضلين الشرفاء. لحظة الموت تلك، تغمست أيضًا بالحب الكبير، 14 شباط عيد العشاق، شاء الرب للبنان أن تكون تلك اللحظة إعلان الحب الكبير أيضًا على أرض الأرز والسنديان والوعر، أرض، رغم أنها تعيش اليوم أسوأ كوابيسها من احتلال أصعب بكثير لأنه يحمل هوية أبناء البلد ولكنهم يلبسون عباءة الغريب، وباسمه يغتالون ويحكمون، ومع ذلك لن ينسوا بحياتم أن ثورة الأرز التي انطلقت لحظة اغتيال الحريري، تتربص بهم عند كل مفترق طريق، وأن الثورة ستنجح وأن للثورة أوجه كثيرة وعندما ينظرون الى نضال “القوات اللبنانية” وحلفائها السياديين، يعرفون أن كل احتلال الى زوال والبقاء للبنان لأن “ما حدن، ما حدن أكبر من بلادو”.