غابة “الذاكرة والتضحية” تكريمًا.. إنهم لمستحقون

حجم الخط

غابة الذاكرة والتضحية غابة الذاكرة والتضحية غابة الذاكرة والتضحية غابة الذاكرة والتضحية

كتبت غرازييلا فخري في “المسيرة” ـ العدد 1749

شهداء الجيش الفرنسي في ظلال أرز الرب

غابة “الذاكرة والتضحية” تكريمًا… إنهم لمستحقون

هي واحدة من المواقع المهمة لتخليد هذه الذكرى، وإحياء روح التضحية والواجب الوطني في ذهن الأجيال الحالية والقادمة، لتسير قوافل الشهداء شامخةً بين خلود أرزنا ومجد استشهادها، لتكون تضحيتهم من أجل المحافظة على وطنٍ روت ترابه بعطر بخور دمائها خالدةً في الذاكرة، ولتعطي إيماننا قوةً وصلابةً. إنها غابة “الذاكرة والتضحية” التي افتُتحت في غابة أرز الرَّب في بشرّي لتكريم شهداء الجيش الفرنسي الذين قدموا التضحيات واستشهدوا من أجل الحرية والسلام في لبنان، وعملًا بقول بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدّقوها وحيّوها وأقرّوا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض.

تعود الحكاية الى تاريخ 23 تشرين الأول من العام 1983 حين دمّر إنفجار إرهابي مقرًا لقوات المارينز الأميركية، مخلّفًا 241 شهيدًا، إضافة الى مبنى “دراكار” الذي أودى بحياة 58 شهيدًا من المظليين الفرنسيين، لتحطّ رحال ذكراها في رحاب غابة الأرز في بشرّي، هذه الغابة المقدسة التي عمرها من عمر التاريخ، ورمز خلود الإنسان، وتعرف تاريخ الأرض أكثر من الأرض نفسها، هذه الأشجار التي نشرت مجدها في كل لبنان. عمرها قرون من بينها ست أرزات يقارب عمرها 2500 عام، وذُكرت في الكتاب المقدّس 72 مرّةً، ومن خشبها بَنى سليمان هيكل أورشليم، كما زعمت الأساطير أن آدم وحوّاء سكنا في لبنان، وكانا يمضيان فصل الشتاء في مغارة قاديشا، وفصل الصيف في غابة أرز الرب. وورد في “سفر أيّوب” الفصل الأوّل، الآيتان 4 و5 (4-5: 1) أنَّ آدم اتخذ غابة الأرز مقامًا خاصًا له، يقدّم فيها القرابين عنه وعن بنيه، واستعمل نوح منها أخشابًا لبناء سفينته، كما صنع القديس يوسف منها سريرًا للطفل يسوع، كذلك الكرسي الذي جلس عليه المسيح في هيكل أورشليم والمذبح والصليب الذي سمّر عليه كلّها مصنوعة من خشب الأرز.

اللقاء إذًا كان هناك في عرين المجد، في الأرز، بمبادرة من اللبنانيين في فرنسا وعلى رأسهم الرفيق روجيه بو نادر، لمناسبة الذكرى الأربعين لتفجير المبنى، حيث تم افتتاح “غابة الذاكرة والتضحية” في بيت العرابين، بحضور رئيس بلدية بشري فريدي كيروز، والاتحاد الوطني لقدامى المحاربين في لبنان – المهمات والعمليات الخارجية (FNAME-OPEX ) ورئيس الرابطة الدولية لجنود السلام ( AISP/SPIA) المقدم لوران عطار ـ بايرو، ولجنة أصدقاء غابة الأرز، وقائد منطقة الشمال العميد الركن نجيب بولس ممثلًا قائد الجيش العميد جوزف عون.

شرارة الفكرة انطلقت من رغبة “القوات اللبنانية” في فرنسا تكريم شهداء الجيش الفرنسي منذ سنتين تقريبًا، إيمانًا منهم بقدسية هذه الدماء التي سقطت على أرضنا دفاعًا عن الحرية والسلام والإنسان، خصوصًا أنهم كانوا جميعًا متطوعين، أحبوا لبنان وماتوا من أجله، وبالتالي لم يعودوا جنودًا فرنسيين فقط بل أصبحوا يعتبرون من شهدائنا، يقول بو نادر الذي عمل على تأمين التواصل بين قدامى المحاربين الفرنسين ولجنة أصدقاء الأرز في لبنان، فترجمت هذه الفكرة واقعًا على الأرض.

الى أهمية الجانب المعنوي لهذه المبادرة، يكشف بو نادر عن جانب آخر مهم وغير مباشر وهو دعم الاقتصاد المحلي والإنمائي في المنطقة، من خلال تنشيط السياحة فيها عبر مجئ السيّاح الفرنسيين لزيارة معالم “غابة الذاكرة والتضحية”. فالسياحة اليوم هي إبداع وإبتكار وعملية إنتاج مترابطة، وإستراتيجيات وخطط عمل متطورة، من خلال تحويل المقوّمات الطبيعية وغيرها إلى مردود إقتصادي مهم لتحقيق تنمية مستدامة وخلق فرص عمل. وبالتالي علينا أن نتعاون جميعًا كمجتمع محلي لتحقيق هذا الهدف والنهوض بمنطقتنا، من خلال تأمين احتياجات السيّاح الفرنسيين.

رئيس بلدية بشرّي فريدي كيروز اعتبر أن الحدث على أهميته السياحية إنما هو أولا فعل إيمان واحترام لتضحيات كل من دافع عن الحرية والكرامة والسلام في لبنان، وكأبناء هذه المدينة نقدِّر قيمة ومعنى الإستشهاد، منذ أن قدمنا أفضل شبابنا على مذبح الوطن. لذلك عندما تمّ التواصل معنا كبلدية من أجل تنفيذ هذه الفكرة، بادرنا الى تذليل كل العقبات المتعلّقة بها كونها تقع في نطاقنا البلدي، خصوصًا أنها تتعلق بالشهادة من أجل الحرية في لبنان ودفاعًا عن فكرة وجوده واستقلاله. فكنّا من السبّاقين لتنفيذ هذا المشروع، مع العلم بأننا فوَّضنا لجنة أصدقاء الأرز بهذا الموضوع، كونها هي من تملك المشتل الذي ينتج شجر الأرز وهي المعنية المباشرة بهذا الموضوع تقنيًا.

153 أرزة زُرعت باسم 153 جنديًا فرنسيًا ضحوا بحياتهم لإعطاء الأمل والسلام، يقول “كيروز” وتمت إزاحة الستارة عن النصب التذكاري لها، وأقيم للمناسبة قداس إلهي في الغابة ترأسه وكيل وقف أرز ـ التجلّي الأب شربل مخلوف، مؤكدًا على أن العديد من العظماء والشهداء خُلِّدت أسماؤهم بفضل أرزهم.

وتجدر الإشارة هنا الى أن هذه الأرض مقدسة تحتضن العديد من غابات الشهداء، وأهمها غابة شهداء الجيش اللبناني، شهداء المقاومة اللبنانية المسيحية، واليوم أُضيفت إليها غابة شهداء الجيش الفرنسي الذين قضوا منذ نصف قرن دفاعًا عن السلام وعن سيادة لبنان، لتشكل هذه الذكرى محطة حقيقية لتعزيز الإلفة والسلام والحرية. بالإضافة الى وجود أرزات بأسماء شخصيات عالمية مثل الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين الذي زار غابة أرز الرب عام 1832.

وتخليدًا لذكرى الزيارة، أطلقت لجنة الغابة إسمه على الأرزة التي جلس بقربها. ولكن في العام 1992 ضربتها صاعقة وحوّلتها إلى يباس، فبادر النحات رودي رحمة إلى نحتها من دون قطع أو إقتلاع أي شجرة. وبعد عمل شاق استمر ست سنوات، أصبحت الأرزة تمثالًا، أُطلق عليه إسم “منحوتة الثالوث”، تتجسد فيها مراحل الحياة: الولادة والطفولة والشيخوخة، ودخلت موسوعة غينيس كأكبر منحوتة خشبية في العالم. ومن الأسماء المحفورة أيضًا في الغابة المغني العالمي أندريا بوتشللي وغيرها من الأسماء التي لها وقعها. ومؤخرًا إنضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى قافلة العرّابين في غابة أصدقاء أرز لبنان، بعد إنضمام الرئيس الراحل جاك شيراك إلى هذه الغابة في العام 1999.

حاليا، تعمل بلدية بشرّي على تنشيط السياحة في المنطقة وتشكل غابة “التضحية والذاكرة” عنصرًا مهمًا في جذب وتشجيع السياح الفرنسيين الى المنطقة، بحسب كيروز، حيث أصبحت عائلة كل شهيد فرنسي معنيّة بزيارة هذه المنطقة، وبالتالي فهي تساهم في دعم العجلة الاقتصادية، وبدورنا نعمل على تأمين كل إحتياجات السيّاح من خلال تنظيم العمل وتوحيد الجهود في هذا القطاع، مثل جمع المنتوجات الغذائية المصنّعة من قبل سيدات المنطقة تحت إسم واحد يراعي المواصفات والشروط الموضوعة من قبل الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيسمح ببيعها وتصديرها الى الخارج، يختم كيروز.

ولأن منطقة دير الأحمر تشكل إمتدادًا طبيعيًا لمنطقة بشرّي، وتنحدر الأغلبية الساحقة من عائلاتها منها، كان لا بد من التعاون في ما بينهما في هذا المجال، حيث تم وضع برنامج تعاون خاص بين بَلدَتَيّ بشرّي ودير الأحمر بحسب ما يقول مدير جمعية DMO في دير الأحمر طوني سعاده، خصوصًا أنه سيتم رفع علم فرنسي كبير في الغابة، وقد بدأت التحضيرات لوضع برنامج سياحي للوافدين الفرنسيين الذين سيشاركون في هذا الحدث، حيث سيتم القيام بجولة لهم في المدن السياحية اللبنانية الساحلية، إنطلاقًا من بيروت، مرورًا بالبترون وبشرّي حيث يزورون غابة شهدائهم، لينتقلوا بعدها الى زيارة منطقة دير الأحمر.

وللمناسبة تم وضع برامج خاصة ومتنوّعة تُحاكي جميع الأذواق مع الأخذين في الإعتبار الفئات العمرية للسيّاح الفرنسيين، وتتضمن هايكينغ لمن يحب المشي في الطبيعة، أو ركوب الدراجة الهوائية، حيث لدينا العديد من الدروب السياحية في المنطقة، يضيف سعاده، إضافة الى القيام بجولة في جرود المنطقة وزيارة معالمها الأثرية مثل قصر بنت الملك أو آثار الدرب الروماني في بلدة بتدعي.

وللأماكن الدينية حصتها أيضًا مثل مزار سيدة بشوات العجائبية وكنيسة سيدة البرج الأثرية، وكنيسة نبحا الأثرية البيزنطية. كما تم وضع برنامج خاص لمحبي النبيذ يتضمن زيارة لخمارتين في المنطقة، وجولة في العديد من الكروم، والتي صُنّفت من أفضل كروم إنتاج النبيذ. ويرافق السيّاح فريق متخصص مؤلف من حوالى 15 شخصًا تراوح أعمارهم بين الـ20 والـ65 عامًا، ويتوزعون بحسب تخصصاتهم ومهاراتهم. ويختم سعاده: “نعمل اليوم مع روجيه بو نادر على إنشاء مكتب سياحي في فرنسا لتنظيم هذه الرحلات الى لبنان”.

تكمن أهمية هذه الغابة بمدى ارتباطها بمجد الأرزة الأبدي، وبالتالي كل إسم محفور على أرزة سيبقى خالدًا بخلودها من تغرس الأرزة على اسمه يبقى خالدًا خلودها، وبالتالي هناك العديد من الأفكار للسنوات القادمة، ويتم العمل اليوم على إقناع مشاة البحرية الأميركية و”اليونيفيل” بالمبادرة نفسها، فيصبح عدد الأرزات 750 أرزة لـتكريم 750 جنديًا سقطوا من أجل السلام في لبنان، ليستريحوا في ظل أغصان أرز الربّ الخالد.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل