كتب سيمون سمعان في “المسيرة” ـ العدد 1749
أموال المودعين على سكة “العودة”
هل تحصل المعجزة؟
“أموال المودعين”، باتت قضية قائمة بذاتها بمعزل عن قضية هشاشة القطاع المصرفي ودوره، والأزمة الاقتصادية برمّتها، وانهيار المؤسسات وتحلّلها، على أهمية هذه القضايا وجوهريتها في أي مخطط لإنقاذ البلد وإعادته حيًّا إلى سكة التعافي. لكن، ونتيجةً لأهمية “أموال المودعين” في قصة جنى العمر والاتكال على القرش الأبيض في الأيام السود كتلك التي تسود البلد حاليًّا، ونتيجةً لتراكم الأزمات والانهيارات التي تدفع أي فرد إلى التمسّك أكثر بما يعطيه جرعة من الاطمئنان، تمسّك المودعون بمدّخراتهم الضائعة في المصارف. هذا حق مكرّس لهم بغض النظر عن الظروف المحيطة أو حاجتهم الماسّة إليه. ومؤخرًا خرج حاكم مصرف لبنان بالنيابة وسيم منصوري ليقول إن إعادة الودائع ليست أمرًا مستحيلاً. فكيف سيتم ذلك وما قدرة المعنيين من دولة ومصارف على تحقيقه؟
تتقاطع الإحصاءات حول حجم أموال المودعين على أن حوالى 90 مليار دولار أميركي، من هذه الأموال اختفت بعد ثورة 17 تشرين الأول عام 2019 بطرق مختلفة. وبحسب دراسة إحصائية أجراها المركز اللبناني – الأوروبي، فإن حوالى 27 مليار دولار من مصرف لبنان صُرفت على دعم الاستيراد على مختلف أنواعه وخصوصًا المحروقات والمواد الغذائية. وحوالى 20 مليارًا حُوّلت من قبل المصارف اللبنانية الى الخارج لأغراض عديدة ومنها تهريب أموال وسداد مستحقات. وحوالى 45 مليارًا قروضًا أعطيت للمقترضين من أموال المودعين تم تسديدها على دولار 1500 ليرة لبنانية وشيكات لولار. وبعملية حسابية لمجموع هذه الأرقام يظهر اختفاء حوالى 90 مليار دولار. وهذا أمر له علاقة بفساد الطبقة الحاكمة قبل أن يكون نتيجة أزمة أو ظروف!
والمعلوم أنه بعد 17 تشرين فرضت المصارف قيودًا غير قانونية على عمليات السحب والتحويلات بالدولار، واحتجزت أموال المودعين قسرًا، فيما خسرت الودائع بالليرة قيمتها بفعل الارتفاع المستمر لسعر صرف الدولار في السوق السوداء. وفيما ينقسم المودعون بين مليئين وغير مليئين، وبين لبنانيين وأجانب، برزت الحاجة الملحّة لحل هذه الأزمة بعدما عجز مودعون لهم في المصارف عشرات آلاف الدولارات من الدخول إلى المستشفى، أو دفع تكاليف تعليم أبنائهم في الخارج، أو مواصلة مزاولة أعمالهم، أو إدارة مؤسساتهم التي آلت إلى الإفلاس أو الإقفال. وهذا الواقع دفع العديد من المودعين إلى اقتحام مصارف بالقوة وتهديد الموظفين للحصول على ما تنتهي إليه المفاوضات من مبلغ مالي.
هل تحصل المعجزة؟
نظرًا لتفاقم هذه الأزمة، شدّد المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان على “ضرورة أن تقوم الدولة اللبنانية بمواكبة الاستحقاقات القادمة بمسؤولية في ظل التطورات التي تجري بالمنطقة والتي ستكون لها انعكاساتها على مختلف الأصعدة، خصوصًا وأن لبنان يعاني أزمة اقتصادية بدأت منذ العام 2019 ولا تزال مستمرة. ورأى أن الأساس هو في إيجاد حل لأموال اللبنانيين المحجوزة في المصارف وإعادة هيكلة المصارف على قاعدة عدم تحميل المودع الخسائر.
ما أعاد تحريك الأمر بقوة هو تداول أنباء نقلاً عن مصرف لبنان، أن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري يفكر بإعطاء مبلغ بالدولار للمودعين الذين لا يحصلون على الدولار من المصارف وفق التعميمَين 151 و158”. لكن قيمة المبلغ الذي سيحصل عليه المودعون عند تطبيق هذا القرار وموعد تطبيقه، هما “قيد الدرس حاليًا في المصرف” كما أفاد مسؤول في المركزي لـ”المسيرة”. وهذا يعني أن المسألة ستستغرق بعض الوقت قبل أن يحصل المودعون على حقوقهم، خصوصًا أن ثمّة معوّقات كثير عملية وقانونية أمام تنفيذ القرار المنتظر.
وأشار إلى أن “منصوري يسعى للوصل إلى حل عملي يساعد المودعين ولا يحمل تداعيات على القطاع المصرفي، بانتظار ما ستقوم به الحكومة بموضوع سعر الصرف الجديد”. ويلفتون إلى أن “هكذا حل وإن كان لا يفي بمتطلبات حقوق المودعين ولا يستنبط آلية متكاملة لإعادة كامل الودائع، إلا أنه يحل بعض المآزق الآنية للمودعين ريثما يكون البلد برمّته دخل مرحة الحلول”.
وتعليقًا على ذلك يرى إقتصاديون أن “تعويم الليرة والتوقّف عن اعتماد سعر للودائع وسعر آخر للسوق السوداء، أي تعدّد أسعار الصرف، والذي بدأ الحديث عنه بقوة عبر اعتماد منصة “بلومبرغ”، يمكِّن المودعين من سحب الدولار من المصرف بقيمته الحقيقية وبحسب سعر الصرف العالمي”. ويعتبرون “الأمر جيدًا إذا تمكّن المودعون من الحصول على مبلغ شهري كافٍ وكامل بالدولار، لأن ذلك سيساهم تلقائيًا بالحد من الهيركات على ودائعهم، فضلًا عن أن قيام الحكومة بتحديد سعر مناسب للدولار الرسمي في موازنتها، وهو نفسه سيكون الدولار المصرفي، سيساهم تلقائيًا في تحسين وضع المودعين وبالتالي دورة اقتصادية أقل اضطرابًا في البلد”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسعار صرف الودائع منذ الأزمة وحتى اليوم مرّت بقِيَم متعددة، لكن سعر 15 ألف ليرة كان الأكثر اعتمادًا.
ويضيفون أنه “عندما تصبح قيمة الودائع عائمة لن يتحمّل القطاع المصرفي دفع مبالغ ضخمة من دون أن يتأثر بقوة، إذا لم يتم تقسيط طويل الأجل لهذه الودائع. وبذلك تكون المصارف أعادت أموال المودعين بقيمتها الحقيقية (لكون سعر الليرة أصبح معوَّمًا)”. لكن تبرز هنا مسألة أخرى هي كيفية الفصل بين ودائع مجناة بتعب الناس وودائع يعتبر البعض أنها إما مهرّبة من أنظمة خارجية أو بنتيجة شكوك في مصدرها وأنها قد تكون ناتجة عن عمليات تبييض أموال؟ وجوابًا على ذلك يشدد الخبراء على “أن الودائع هي حق لأصحابها ولا مبرر قانونيًا للتمييز في ما بينها. وإذا كان من يدّعي أن بعض الودائع غير نظيفة فكان عليه ألّا يقبلها في الأصل، لا أن يدّعي بذلك لعدم الإفراج عنها أو للمماطلة في إعادتها، بعد نشوب الأزمة”.
فرضيات ومطالبات ووعود
فضلاً عما يقوله الاقتصاديون، ماذا يقول القانون وهل هناك إمكانية لتطبيق ما يتم الاتفاق عليه من مقررات؟
رئيس اتحاد المودعين في المصارف المحامي حنا البيطار كشف لـ”المسيرة” عن الكتاب الذي وجهه إلى حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري مطالبًا إياه بتعديل التعميم رقم 158 الذي ينصّ على دفع 800 دولار أميركي شهريًا للمودع المشترك به على أساس 400 دولار نقدًا بالدولار و400 دولار نقدًا بالليرة اللبنانية، بـ”هيركات” وصلت نسبته الى 80 في المئة. ودعاه لرفع المبلغ إلى 1000 دولار على الأقل، بما يتماشى مع المتطلبات الدنيا لعيش المواطن.
وقال: “ما لا نفهمه في مسألة الودائع هو سكوت كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية عن سرقات موصوفة وجرائم مالية مشهودة ارتكبتها المصارف بالتشارك الكامل مع البنك المركزي ومع عصابة أشرار، أخرجت تهريبًا وتبييضًا 62 مليار دولار إلى المصارف الأوروبية، هي بمعظمها من أموال المودعين”.
وتابع: “إذا كانت الحكومات لا تُمثِّل الناس، فأين كان مجلس النواب وأين هو اليوم من سرقة أموال المودعين، ومخالفة قانون النقد والتسليف، وقانون الموجبات والعقود، وقانون العقوبات؟ وأين هو من مخالفة لبنان، حكومةً وبنكًا مركزيًّا، ومصارف، للمعاهدات الدولية؟ بل أين مجلس النواب من إقرار قانون ضمان الودائع وخطة إعادة أموال المودعين؟”
وشدد البيطار على أهميّة إقرار قانونين أساسيين هما: “شيك المريض” و”شيك الطالب”. وقال “طالبنا مجلس النواب باستصدار قانون يُنصِف هذه الفئة من المودعين. فهناك أناس لديهم مبالغ كبيرة في المصارف ولا يستطيعون دخول المستشفى، بل يموتون على أبوابها، أو يموتون من القهر أكثر مما يُميتهم المرض. فخبرية إفلاس المصارف كاذبة، وإلا فلتتفضل لجنة المال والموازنة ومصرف لبنان ووزارة المال وجمعية المصارف ويكشفوا لنا مقدار المال الموجود في المصارف والمال الذي تمّ إقراضه للدولة والمال المهرّب إلى الخارج. هذه نقاط أساسية نرددها دائما، لكن لا أحد يتجرأ على أن يُعطي جواباً.
أما المحامي بول حرب المتابع قانونيًّا لهذه القضايا فقال لـ”المسيرة”: “بعيدًا عن الشعبويات والانفعالات، المسألة هي مسألة أرقام وتوفُّر أموال، والمقاربة المطروحة هي معرفة ما إذا كان بالإمكان بالنتيجة إعادة الحقوق (كلها أو بعضها) إلى أصحابها. وبحسب أرقام مصرف لبنان، فالهوة في حجم الودائع تبلغ اليوم 92 مليار دولار. أي أنه لا تتوفر أموال لإعادة هذا المبلغ”. وبسؤاله عن سبب وعد المودعين بإعادة حقوقهم، أجاب: “بالأرقام والتقنيات القانونية والمالية المتاحة، وبعيدًا عن الانفعال العاطفي émotionnel، يستوجب تخفيض هذه الهوة من مصادر متعددة منها:
ـ إعادة مبلغ 100 ألف دولار بالتقسيط الشهري لكل مودع (على قاعدة التعميمين 151 و158) باتت مبدأً مسلّمًا به أو موافقًا عليه من جميع الجهات السياسية والمصرفية بمن فيها الدولية. وبتنفيذ هذا المبدأ تعاد للمودعين أموال تُقدَّر بحوالي 20 مليار دولار.
ـ تحويل جزء من ودائع كبار المودعين إلى أسهم في المصارف، على طريقة الـ bail in، مما يؤدي إلى تخفيض القيمة الإجمالية لهوة الودائع بمقدار 10 مليارات دولار تقريبًا.
ـ إعادة أو حسم جزء من الفوائد المستوفاة على الودائع قبل تشرين الثاني 2019، علمًا أن حجم هذه الفوائد قد يناهز أو يتخطى الـ 9 مليارات دولار.
ـ حذف جزء من الودائع بمبلغ يتراوح بين 5 و7 مليارات دولار”.
وأضاف: “بنتيجة تطبيق الوسائل الأربعة، وعلى افتراض صحة التطبيق وصحة الأرقام (المستقاة من مصرف لبنان)، ينخفض العجز في الودائع من 92 مليارًا إلى 42 مليار دولار، وهو ما يوجب على المصارف ومصرف لبنان والدولة تأمين المصادر لإعادته للمودعين. وهذا يمكن أن يتم عبر بيع أصول الدولة أو استثمارها”.
وجوابًا على التساؤلات عما فعله حزب “القوات اللبنانية” على هذا الصعيد، أشار حرب إلى أن النائب غسان حاصباني طرح مشروعًا بهذا الخصوص، إلا أنه رُفِضَ الطرح. ومن الاقتراحات مشروع الصندوق السيادي، وتخصيص جزء من صندوق عائدات الغاز، ومنها مؤخرا الـ zero coupon (وهو برأيي من أذكى الطروحات وأفعلها لغاية اليوم). إلا أنه لم يتم حتى الآن إقرار أي من هذه الوسائل أو اعتمادها، لأسباب تارةً سياسية وطورًا تقنية تخصّصية”.
وشدّد على أن “موضوع المساءلة والمحاسبة والملاحقة، هو حق وواجب، إنما النتيجة بكل الفرضيات المطروحة وبأفضل الأحوال تُوصِل دائماً إلى عجز هوّة أقلها 40 مليار دولار. وبالتالي يقتضي إيجاد الحلول لتوفير هذا المبلغ. فمن أراد المساهمة في استعادة الودائع فليطرح وسيلة تقنية جديدة أو فليؤيد وسيلة مطروحة بإيجاد الأطر الصحيحة لاعتمادها. فهذا ما يعيد للمودعين حقّهم، وكل ما زاد أو خالف ذلك فهو كلام بكلام”.
مقابل ذلك، هناك من المودعين من يقول: “ربما أصبحنا مع الطروحات المتداولة كمن يُطالب ذئبًا بإرجاع حَمَل افترسه، والذئب يَعِد بذلك. وهنا لا بد من أن يُعيد المال من أخذ المال وليس السماح له بالتنعُّم به، والبحث عن مصادر أخرى لرد الأموال والحقوق لأصحابها. ولكي نكون عادلين، لا يمكننا أن ننفي أنَّ للمصارف بعض الحجّة خصوصًا تجاه أولئك المقترضين الذين سدَّدوا قروضهم على دولار ال 1500 ليرة. فالمودع المقترض أخذ حقّه وفق هذا المبدأ طبعًا بعد احتساب قيمة الوديعة وقيمة القرض. أما من لا يسري عليه هذا الأمر فقد تمّ اختلاس ماله من قِبَل مختلس محدد. والمشكلة هي في تداخل الحكومة والمصارف”، متسائلاً: “ما كانت قيمة الدين العام قبل الأزمة، وما هي القيمة اليوم؟ وهل هناك استفادة حكومية مما حدث، وعلى حساب من”؟
ويبقى السؤال المحوري الأبرز: هل ستعود أموال المودعين، وبأي صيغة، ومتى؟
أما الجواب فهو ألّا عجلة في القطار تسير بمفردها. فإما تسير جميع العجلات معًا وإما يبقى القطار في المحطة بانتظار صافرة الانطلاق بعد ترميم السكة!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]