حين يُسائل شهداء سيدة النجاة لبنان ويسوع

حجم الخط

كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” ـ العدد 1749

حين يُسائل شهداء سيدة النجاة لبنان ويسوع:

متى تقترن شهادتنا بالحق والعدالة؟

وصار عمر ذكرى تفجير سيدة النجاة 30 عامًا.

لو كانت امرأة أو رجلًا، لكانت الآن تقطف أجمل سنوات العمر، لكن الذكرى هي واحدة من أسوأ ذكريات الوطن، والتي لو تحققت لأجلها العدالة، لوجدت لها على الأقل بلسمّا مع الأيام. لكنها بقيت ذكرى استشهاد أرواح بريئة، وقتل وطن مضرّج باحتلال إرهابي، والأقسى منهما بعد، استشهاد العدالة على مذبح الرب تمامًا، ومحاولة وضع حزب “القوات اللبنانية” في قفص الاتهام لإصدار حكم الإعدام وتخفيفه الى المؤبد! فخرج الحزب ومعه رئيسه الدكتور سمير جعجع من تحت سابع أرض حرًّا، كما كان على مدى 11 عامًا في السجن حرًّا!

الأحد 27 شباط 1994، كل سنة كل سنة نتحدث عن ذاك التاريخ، نكتب ونتذكّر ونستنكر. وفي كل سنة ومنذ ثلاثين عامًا، يبعد الشهداء أكثر وأكثر، ويتوغّل الأهالي في يأسهم أكثر وأكثر، وتتوغّل العدالة في لبنان في موتها أكثر وأكثر وأكثر.

كأن الله يختار تواريخه ليسجّل في مفكرة البشرية أحداثًا لا تُنتسى، وتبقى علامة سوداء على صفحة إنسانية منكوبة بشرورها. والسؤال لماذا يفعل الله ما يفعله، لماذا يترك الشر متحكّمًا بالإنسان إذا كان يعلم مسبقًا بمخططاته الجهنمية؟! كلما جاء 27 شباط يسأل اللبنانيون ذاك السؤال المحيّر، ويسأل أهالي شهداء ذاك الأحد السؤال إياه.

الأحد 27 شباط 1994 دوّى الشر بأبهى حلله في كنيسة سيدة النجاة، ليحصد 11 شهيدًا و56 جريحًا، وليأسر وطناً بحاله في معتقل العمالة للاحتلال السوري، عبر وجوه قبيحة عبدة للنظام السوري، زرعت العبوات في الكنيسة لتحصد رضى أسيادها قادة الاحتلال.

ثلاثون عامًا مرت، وفي كل ذكرى نسأل أين هم الشهداء؟ ربما يسكنون الملل الذي يقارب اليأس حتى لو أصبحوا من سكان السماء. لكن من قال إن السماء استكانت بسكناهم وإنها ليست غاضبة، وإنها لا تطالب بالعدالة؟! “لو السما راضية معناها ما في سما وما عنا رب عادل ناطر يحاسب ويحقق لشهدائنا العدالة”، قالها مرة أحد الأهالي في مقابلة تلفزيونية في ذكرى التفجير.

كلام موجع يعبّر عن يأس الأهالي من تحقيق العدالة لشهدائهم. العدالة في لبنان؟ مضحكة هذه المقاربة، منذ نحو أربعين عامًا حتى اللحظة هل تحققت العدالة ولو لمرة واحدة، لضحايا ذهبوا اغتيالًا وغدرًا وتشلّعًا؟! هي لعنة الاحتلالات المتعاقبة، هم يسكرون من دمائنا وأشلائنا ونحن نسكر في الخيبة والمرارة، مرة واحدة كادت العدالة أن تزهر، حين تولى القاضي طارق البيطار ملف تفجير المرفأ الإرهابي في ذاك الـ4 آب المروّع، وبدأ بالاستدعاءات بعدما توصل الى خيوط خطيرة في ملف التفجير. طلبوا منه التراجع فرفض. هددوه ولم يكترث. ولما تخطى تهديداتهم أبعدوه عن الملف وعزلوه. هذا هو القضاء في لبنان، هذه هي عدالة الإرهابيين في لبنان. يعيش الإرهابي من دماء الضحية، يفرح من موت الأبرياء ويدخل هؤلاء في قعر قعر الظلم والنسيان.

يجلس شهداء كنيسة سيدة النجاة على عرش شهادتهم يسألون العدالة في لبنان، ويُسائلون الرب، متى تتحقق العدالة، لماذا ما زلنا منذ ثلاثين عامًا نموت؟ متى نستحق الراحة لنحقق رجاء القيامة مع المسيح؟ نحن استشهدنا لكننا ما زلنا عالقون بين البقاء والرحيل، مشلّعون باللاعدالة، فمتى نحقق رحيلنا الهانئ العادل يا الله؟

كان أحد النازفة والزمن صوم، وبعد أن انفجرت العبوة الأولى عند مذبح الرب صباحًا عند التاسعة والربع تمامًا، وكان من المقرر أن تنفجر عبوة ثانية كانت مزروعة تحت أقدام العذراء مريم، لكن شاءت الأعجوبة ألا تنفجر، وإلا استشهد كل المصلّين الذين كانوا يرفعون صلواتهم ذاك الأحد المبارك. تدخلت الأعجوبة في اللحظات الأخيرة ليقتصر عدد الشهداء على 11 شهيدًا، وجرحى بالعشرات تعافت أجسادهم مع الوقت، لكن بقيت ندوب الروح عالقة على معالمهم. فهم لم يتخطوا اللحظة، وكلما حان موعد الذكرى يتألمون في أجسادهم وكأن الانفجار يدوِّي فيهم من جديد. إنه ألم الظلم، هو وجع اللاعدالة. إنه القهر من وطن تحوّل الى مقبرة أبنائه وهم بعد أحياء.

ما زال شهداء الكنيسة أحياء يحومون حول المكان، يرون وجه المجرم القبيح العبد الذي خطط ونفذ المجزرة، يرونه سعيدًا لأن هذا وطن يكافئ المجرمين، فيترقّون ليصبحوا نوابًا ورؤساء، بينما يُسجن الأحرار وتُلصق بهم تهمة “مجرمون”، كما فعلوا بقائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، والمئات من رفاقه الشباب، حين اتهموهم بالتفجير واقتادوهم الى المعتقلات.

عند مذبح كنيسة سيدة النجاة يقف شهداء كنيسة سيدة النجاة يسألون الرب “ألا تنوي أن تحرّرنا يا إله المحبة والعدل؟ ألن تحقق لأجلنا العدالة ولو جاءت متأخرة؟ نريد أن نتحرّر من أثقالنا، حرّرنا يسوع من عبء الظلم ممكن؟”. لا يرد يسوع بالمباشر لكنه يعرف طرقه تمامًا لتحقيق العدالة، يلتفت الى الشهداء كمن يعاتبهم، ويربت على أرواحهم مطمئناً “لا تخافوا أنا أُمهل ولا أُهمل، ولن يبقى فوق هذه الأرض لا عبدًا ولا محتلاً، وستكون للبنان حريته وعدالته… تأكدوا”. هكذا وعدهم ونحن نؤمن بوعوده.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل