وصار جورج عبد المسيح، رئيس الدائرة الإعلامية الأسبق في القوات اللبنانية، هو الخبر. خبر أليم لمناضل عشق القضية فكان قلمه وفكره عتاده في ساحات النضال.
رحل جورج عبد المسيح، وودعته حدتون البترونية بلوعة وحزن، هو الذي عاش الألم وخانته صحته مرات عديدة، فسحق التراجع الصحي بإرادته الصلبة وقلبه الكبير الذي خانه هذه المرة. رحل جورج عبد المسيح غير متنبه الى أن أبطال الكلمة هم تمامًا كما أبطال الساحات، لا يشيخون، لا يتعبون، لا يكبرون، ولا يرحلون. يبقون في القضية وللقضية، فيتحول الرحيل مرة جديدة الى شعلة تنير الأجيال.
صعب سيكون فراق جورج عبد المسيح، صعب على البترونيين والقواتيين، هو الذي ناضل بفكره وقلمه وأفكاره، فكان لولب الحركة الثقافية والرياضية والإنمائية والحزبية في المنطقة.
لم تكن رحلته النضالية سهلة، منذ لقاء الدكتور سمير جعجع في العام 1978 ومرحلة “القطارة”، الى رئاسة الدائرة الإعلامية في “القوات”، فأيام الاحتلال السوري ومرحلة الاضطهاد. لم يرتح المناضل بعد استقلال لبنان وخروج الاحتلال السوري منه، فكان دينامو الحركة الثقافية والإنمائية في البترون، رئيسًا لجمعية بترون الإنمائية و”مكودِرًا” صامتًا للجيل الشاب.
في العام 1978 وعن طريق الصدفة، التقى جورج عبد المسيح بالدكتور سمير جعجع. لقاء فيه من الصدفة والقدرية ما يثير العجب! كان خطر التسلل السوري الى بلدات وقرى البترون كبيرًا، وكان الشباب ومعهم عبد المسيح، يتجولون على مدخل بلدة حدتون البترونية تحسبًا. مّرت آليتان عسكريتان، خرج من إحداها سمير جعجع، باحثًا عن الدكتور نبيل خليفة، خال عبد المسيح. عرّف أحد الشبان الحكيم على عبد المسيح، الذي فوجئ بسمير جعجع مجالسًا الشباب مخاطبًا إياهم بكثير من المعنويات. قبل مغادرته، التفت الحكيم الى عبد المسيح قائلًا: “ميّل علييّ الصبح ع القطارة” (التي تبعد كيلومترات قليلة عن حدتون). ومنذ ذلك الوقت بدأت مسيرة عبد المسيح، الذي ترك حركة “الوعي” وانتقل الى “القوات اللبنانية”، فكان في مرحلة القطارة لولبًا، وفي رئاسة الدائرة الإعلامية التي أدارها لثماني سنوات كلمة تحفر في الصخر، هو الذي استلمها في مرحلة وصفت بأصعب المراحل الأمنية والسياسية، يوم كانت الكلمة تُضاهي بقوة الحق، أزيز الرصاص، وعضوًا في الهيئة التنفيذية لسنوات. وقبل حلّ حزب “القوات اللبنانية” ودخول الدكتور جعجع الى المعتقل، أدّى جورج عبد المسيح دورًا فعالًا في منطقته، يوم قاد المجموعة السياسية القواتية، في مرحلة الانتقال من النضال العسكري الى النضال السياسي، مسطرًا نجاحًا ملفتًا في المهمة السياسية التي أوكلت اليه، فكان أداؤه مثلًا احتذت به المناطق الأخرى.
لم يتمكن جورج عبد المسيح من كتابة مذكراته الدسمة، فقد أحرق وثائقه بعد حملة الاضطهاد التي تعرضت لها “القوات اللبنانية” ودخول جعجع الى السجن، لكنه برع في الملفات الإنمائية والثقافية وفي اللقاءات الحوارية متحدثًا دمسًا وخلوقًا.
“نُصح عشرات المرات بمغادرة لبنان وبترك العمل السياسي والابتعاد عن الساحة، لكنه بقي متمسكًا بالنضال السياسي زمن الاضطهاد والاعتقال، وكان السوريون يتهمونه بتحريك الانتخابات البلدية والنيابية في البترون، فيمعنون في التضييق عليه وعلى عائلته وترهيبهما. استدعي الى التحقيق في مركز الأمن السوري في كفرعبيدا مرات لا تحصى، ولم يتراجع”، يقول أنطوان عبود رئيس بلدية شبطين وابن اخت عبد المسيح.
“ضمير القوات في منطقة البترون”، بهذه الكلمات يُعرّف الرفاق جورج عبد المسيح، هذا الصديق الصدوق، والمناضل “السلس ـ الحاد”. سلسل في تعامله مع الآخرين لاسيما من يختلف معهم رأيًا وحاد بالتشبث بالمبادئ التي يؤمن بها. ناضل بصمت ومن وراء الكواليس فطبعت حواراته الراقية وفكره الخلاق في عقول عارفيه، هو الذي لطالما اعتبر القلم أشرس وسيلة لتحقيق الأهداف.
هذا المكافح الصلب ابن العائلة الحدتونية المتواضعة وخريج كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، حمل همّ القواتيين، وكان صوتهم لا بل ضميرهم في إقناع من ضاقت بهم سبل الحياة الى التشبث بأرض الأجداد وعدم ترك لبنان. بحرقة ودموع يتذكر أنطوان ابن اخته، كلمات عبد المسيح التي حفرت في وجدانه يوم قرر ترك البلاد مجددًا. قال له: “انا وقف حلمي”، وكأن أحلام عبد المسيح تتحطم مع مغادرة الشباب للبنان.
“جورج خسارة كبيرة، كان اللولب من دون مسؤوليات وهو الذي كان يحرك النشاطات، إنه رجل انمائي بامتياز ورحيله سيُكرسحنا”، هكذا يختصر المؤرخ نبيل يوسف رحيل عبد المسيح.
لا يختلف نضال جورج عبد المسيح السياسي والثقافي عن نضاله العائلي والاجتماعي، فهو الأب الحنون والزوج الصادق والأخ والخال والعم الذي لا يقدّر بثمن، يقول أنطوان.
رحل جورج عبد المسيح وفي جعبته الكثير من المشاريع التي لم يكن قد انجزها بعد. تعب المناضل في سنواته الأخيرة، تعبت صحته وخانه قلبه الذي كرّسه وفاء للوطن والقضية. رحل جورج عبد المسيح قبل قيامة لبنان الذي حلم به، رحل لينضم الى الأبطال، حراسنا من عليائهم، فضمته تربة حدتون الى صدرها كما ضمت الأجداد. رحل وهو العارف بأن الرب لن يترك أرضه مهما ظن البعض أنه فعل.
رحل جورج عبد المسيح لكنه نسي أن الأبطال لا يرحلون وإن فعلوا.