رولا بشعلاني الشاهدة على مجزرة سيدة النجاة واستشهاد شقيقتها

حجم الخط

رولا بشعلاني شقيقة ميراي

كتبت جومانا نصر في “المسيرة” ـ العدد 1750

رولا بشعلاني الشاهدة على مجزرة سيدة النجاة واستشهاد شقيقتها

“قولي لرفقاتي ما ينطروني بوكرا ع الثلج”

 

27 شباط 1994. الأسبوع الثالث في زمن الصوم. رولا بشعلاني توجّهت كما العادة في كل أحد إلى كنيسة سيدة النجاة لخدمة القداس في جوقة الكورال. ذاك الأحد، أحد النازفة كانت تحضّر التراتيل الخاصة بذاك اليوم وإلى جانبها أختها ميراي التي كانت تتهيأ لقراءة الرسالة والمشاركة في القداس والتراتيل.

التاسعة و15 دقيقة… أصوات المصلين والأباتي أنطوان صفير تصدح بـ”قاديشات آلوهو”… ميراي تستعد للنهوض من مكانها والصعود إلى المذبح… فجأة دقّ نفير الموت. انفجار داخل كنيسة سيدة النجاة طوى الصفحة الأخيرة من عمر 11 ضحية وميراي ابنة الـ12 عامًا من بينها. لحظات وشّحت فصول الحياة في عائلة بشعلاني وعائلات الضحايا والجرحى بالأسود القاتم. ومشى حزب “القوات اللبنانية” ورئيسه سمير جعجع ومعهما وطن بكامله جلجلة النزف المستمر.

30 عامًا على جريمة، على مجزرة والسؤال لا يزال يرتفع على صليب العدالة. من فجّر كنيسة سيدة النجاة؟

وبعد 30 عامًا رولا بشعلاني تتكلم للمرة الأولى عن لحظات الرعب والموت والإنكار والغيبوبة، هي التي لا تزال تعيش في حالة تروما أبدية، والوطن متقوقع في آحاد النازفة!

27 شباط 1994. كما العادة صباح كل أحد كنا نستعد ميراي وأنا للذهاب إلى كنيسة سيدة النجاة التي أرتادها منذ انتقال العائلة للسكن في منطقة الكسليك، ولم أتجاوز بعد سن التاسعة. ووفقًا للترتيبات يجب أن أكون في تمام الثامنة صباحًا لإنجاز التحضيرات المتعلّقة بالتراتيل التي ستنشدها الجوقة وكذلك الرسالة والنوايا. يومها كانت ميراي تتحضر للامتحان المقرر يوم الثلثاء في مدرسة سيدة اللويزة حيث كانت تتلقى علومها، فسألتني إذا كان بالإمكان أن تتأخر قليلًا لأنها أمضت الليل وهي تدرس على أن تلحق بي مع جيراننا الذين يسكنون في نفس المبنى واعتادوا الذهاب إلى كنيسة سيدة النجاة كل نهار أحد.

تمام الساعة الثامنة دخلت الكنيسة. كل شيء كان هادئًا وفي مكانه الطبيعي. رسمت إشارة الصليب قبل أن أتقدم إلى المذبح وبدأنا في تجهيز آلة الأورغ التي سيعزف عليها أحد أعضاء الجوقة، ووضعت علامة على نص الرسالة المخصصة لقداس “أحد النازفة” في الكتاب المقدس. وبحسب الترتيبات كان مقررًا أن تتلوها شقيقتي ميراي، ووزعت النوايا على الأطفال.

الثامنة والنصف وصلت شقيقتي مع الجيران. أطلعتها على نص الرسالة التي ستقرأها تمام التاسعة والربع وبدأت تتمرن عليها.

تمام الساعة التاسعة قرعت أجراس سيدة النجاة وامتلأت الكنيسة بالمؤمنين وبدأ العزف وارتفعت أصوات التراتيل. جلست في مكاني قرب عازف الأورغ وإلى جانبي ميراي وأطفال الكورال.

التاسعة و15 دقيقة. إنه موعد الرسالة. المصلّون والأباتي صفير والجوقة ينشدون “قاديشات آلوهو”. نهضت ميراي عن الكرسي للتوجّه إلى المذبح لتلاوة الرسالة كما هو مقرر. فجأة وبلحظة البرق دوى انفجار قوي في الكنيسة ولم أعد أشعر بشيء. أصوات الصراخ والعويل كانت تدوي وكأنها تأتي من قعر بئر عميق. وعبقت الكنيسة بالغبار وابتلعت رائحة البخور.  قوة الانفجار قذفت بي أمتارًا إلى الأمام وارتميت على الأرض. الأطفال الذين كانوا إلى جانبي كانوا يصرخون بشكل هستيري بسبب الخوف. فجأة تنبّهت إلى أنني لم أرَ حذاء ميراي من بين أحذية أطفال الجوقة الذين كانوا يقفزون من فوقي، مع ذلك لم أفقد الوعي وكنت أرى المشاهد المرعبة تمر من أمامي وكأنه شريط سينمائي لكنه في الواقع كان كابوسًا ولم أصحو منه إلى اليوم!

عندما توقف تدافع المؤمنين حاولت أن أنهض وبدأت أفتش بين الدخان والغبار بحثاً عن ميراي. فكرت أنها قد تكون وجدت منفذًا آمنًا وهربت إلى الخارج. وليته كان كذلك.

عندما فقدت الأمل من أن تكون لا تزال داخل الكنيسة، تسمّرت في مكاني وبدأت أصرخ بشكل هستيري: ميراي… ميراي. وحدها صورة الموت والدمار المجبول برائحة الدماء كانت ماثلة أمامي ولا تزال محفورة في ذاكرتي حتى اليوم. وكيفما نظرت كان المشهد واحدًا: الغبار يكسو المكان، صراخ، بكاء، عويل، رائحة دماء ولا أحد قادر أن يسمع نداء الآخر من شدة الهلع وكثافة الغبار الناجمة عن قوة الانفجار.

فجأة شعرت بيد تهزني، وإذا بأحد المصلّين يقول لي: “ميراي ع الأرض وراكي”. نظرت إليها وكانت الصدمة… كانت ميراي ممددة على أرض الكنيسة وكانت تضع يدها على وجهها ربما خوفًا أو بهدف حماية عينيها… تأملت في أناملها الصغيرة المغطاة بالدماء وكانت مهشمة بسبب ضغط الانفجار وكأنه لم يبقَ منها إلا العظام. لكن المفارقة أنها كانت لا تزال واعية. سألتها ما إذا كان بإمكانها أن تقف. ففعلت من دون أن تنطق كلمة واحدة.

ما أن وصلنا إلى باحة الكنيسة الخارجية حتى سقطت أرضًا. صرخت بأعلى صوتي ميراي ميراي… حاولت أن أتأكد ما إذا كانت هناك إصابات أخرى في جسمها. لكن لا شيء كان ظاهرًا للعيان. حملتها وركضت بها إلى الطريق وإذا بسيارة تتوقف وقد عرفت لاحقًا أن الشبان الذين كانوا يقودونها من جهاز أمن مجمع السمايا المحاذي لكنيسة سيدة النجاة.

وصلنا إلى مستشفى سيدة لبنان وكان الوضع هستيريا. جرحى يصلون تباعًا، صراخ وبلبلة وهلع وخوف. دخلنا من بوابة قسم الطوارئ فوضعوا ميراي على نقالة في رواق القسم.

في هذا الوقت خرج المسعفون لمعالجة الجرحى الذين كانوا يتوافدون وكان من بينهم الأباتي الراحل أنطوان صفير. كان مضرّجًا بالدماء وبالكاد تسمع أنينه.

في هذه الأثناء اقترب مسعف من النقالة التي وُضعت عليها ميراي، ووضع لها قناع الأوكسيجين لمساعدتها على التنفس. طيلة الوقت كنت أقف إلى جانبها وأتأمل في وجهها. كنت شبه مخدّرة. بعد مرور حوالى خمس دقائق أصيبت ميراي بنوبة عصبية. حاولت أن تنزع قناع الأوكسيجين وكانت تنتفض مثل العصفور الجريح. على الفور هرع المسعفون وعملوا على نقلها إلى قسم العناية الفائقة.

تصمت رولا. تحاول أن تلتقط أنفاسها. بصعوبة تعود إلى تلك اللحظات التروما. وقبل أن تكمل تقول “هاي أول مرة بحكي وتأكدي إنو ميراي حدي. أصلاً ميراي ما بتفارقني لحظة. بحس بوجودا معي وبروحا من خلال الرسائل السماوية اللي بتوصلني”…

وتضيف: “قبل إدخالها إلى غرفة العناية الفائقة حاولت الممرضات نزع ملابس ميراي لإلباسها الروب الأزرق، وهنا كانت الصدمة. فعندما نزعوا عنها البنطلون تبيّن أن قدمها مهشمة بالكامل بسبب ضغط الانفجار والعظام بارزة. أما المفاجأة فكانت بعد نزع الكنزة والملابس السميكة التي كانت ترتديها بسبب البرد، إذ تبيّن أنها أصيبت بشظية في خاصرتها اليسرى، علمًا أن الانفجار وقع من جهة اليمين حيث كانت تقف إلى جانبي. وعندما رفعوا شعرها بعد نزع الشال الصوفي بدأ الدم ينفر من رقبتها بسبب اختراق شظية الوريد في منطقة الرقبة. واللافت بحسب رولا أن الدماء لم تظهر إلا بعد نزع ملابسها. “بس حملتا ع المستشفى ما كان في نقطة دم ع ثيابا. بس أصابيع إيديا كانو مفلّعين ومش باقي إلا العظم”.

بعد ربع ساعة على وجودها في غرفة العناية الفائقة خرج الممرض، نادى على رولا وقال لها: “ميراي طلبت تشوفك”.

دخلتُ وكانت ميراي ممدة على السرير. فجأة أمسكت بيدي وشدّت عليها بقوة وقالت: “كان عنا رحلة بوكرا التنين ع الثلج قبل ما نروح ع الفحص يوم الثلاثا. دقّي لرفقاتي وقوليلن ما ينطروني… ولفظت أنفاسها الأخيرة”.

خرجت رولا من غرفة العناية الفائقة من دون أن تدرك أو تستوعب ما حصل لميراي ولا ماذا يجري من حولها. لم يكن على لسانها إلا عبارة واحدة “راحت ميراي… راحت ميراي”. فكانت ترددها وحيدة. واستدركت في حينه أنها لم تتصل بعد بوالديها. فاستعارت هاتف أحد الموجودين في رواق قسم العناية الفائقة واتصلت بهم وطلبت منهم موافاتها إلى مستشفى سيدة لبنان.

عندما وصل والدا ميراي ورولا كانت الأخيرة في انتظارهم عند مدخل المستشفى. فصعدوا إلى طابق قسم العناية الفائقة. نظر الوالدان من وراء الزجاج ورأوا ميراي ممددة على السرير.. فتمتم والدها: “الحمدالله بشكرك يا ربي لأنو تركت بناتي عايشين”، علمًا أن وجه ميراي كان شاحبًا إلا أنهما لم يدركا في اللحظة أنه شحوب الموت، أو ربما رفضا أن يصدقا أن ميراي رحلت بالجسد إلى الأبد وصارت حاضرة فقط، بالروح بفعل الحاقدين والمجرمين.

ما هي إلا لحظات حتى طلب الطبيب المناوب من رولا إبعاد أهلها عن الطابق لأنهم سيخرجون ميراي من الغرفة لوضعها في البراد! نعم في براد الموتى هي التي كانت تلتحف قبل ساعات ملابس الشتاء بسبب برد شباط القارس وكانت تتحضر لرحلة الثلج في اليوم التالي ولفحصها لنيل علامات التفوّق التي كانت تتميّز بها. “كانت من المتفوّقين بصفا (المتوسط الثاني) وكان عندا أحلام كتير”…

أمسكت رولا بيد والدتها ودخلتا معًا إلى إحدى غرف المرضى. فبادرتها والدتها “ليش نزّلوا ميراي لتحت؟ شو بها ميراي؟ ليش هيك لونها…”. وما هي إلا لحظات حتى وصلت الرسالة الأخيرة إلى قلب الأم… “راحت ميراي… صارت عند يسوع”! وانهارت الوالدة.أما الوالد، فعلمت ميراي لاحقًا أنه استدرك منذ اللحظات الأولى التي شاهد فيها وجه رولا عندما وصل إلى المستشفى وصعد إلى قسم العناية الفائقة أن “نومة” غنوجة البيت وحبيبة قلب والدها رحلت قبل أن يودعها!

عندما عادت رولا ووالديها وشقيقها إلى المنزل كان المعزون بالعشرات. “بس وصلت ع البيت كانوا الجيران والأهل وصلوا للتعزية والمواساة. حسيت إنو ما بقا قادرا أوقف انهرت ووقعت ع الأرض. عطيوني حبة مهدئ. وكنت كل ما أوعا يعطوني حبة تانيي حتى إقدر ضاين لليوم التالي، خصوصًا بعد ما تقرر موعد الدفن الجماعي”.

في اليوم التالي توجّه الوالد وابنه وعدد من الأقارب للمشاركة في الصلاة الجنائزية التي ترأسها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير. فيما بقيت رولا التي كانت لا تزال تحت الصدمة ووالدتها والنسوة في المنزل وتابعن مراسم صلاة الجنازة عبر شاشة التلفزيون.

بعد انتهاء مراسم الدفن حمل الأحياء شهداءهم كل إلى مسقط رأسه. وحدها ميراي بقيت في الكنيسة التي صارت شهيدتها. وتروي رولا: “عند انتهاء المراسم طلب والدي أن يفتح نعش ميراي ليلقي عليها النظرة الأخيرة، خصوصًا أنه لم يكن رآها في اليومين الماضيين بسبب فارق الوقت بين دخولها إلى السرير وخروجها إلى المدرسة وموعد عودته وخروجه من المنزل. وحصلت مشادة مع الكهنة الذين كانوا أعطوا تعليماتهم بعدم فتح أي نعش بسبب التشوّه اللاحق بالضحايا. إلا ميراي… ما كان وجّا مشوّه. كانت نايمة متل الملاك…” وتضيف رولا: “بعد إصرار والدي رضخ الكهنة وفُتح النعش وألقى عليها والدي وشقيقي النظرة الأخيرة قبل أن يحضر أعضاء الحركة الرسولية المريمية التي كانت تنتسب إليها رولا ونسوة الأخوية لتلاوة المسبحة ووداعها. وفي تمام الساعة الرابعة مشى الجميع وراء نعش ميراي في الموكب الجنائزي الذي توجّه إلى مسقط رأسها في صليما في المتن الأعلى لترقد بسلام في الثرى لكن باكرًا وباكرًا جدًا”.

وعادت أجراس سيدة النجاة لتدق!

صحيح أن المآسي تزيد من ترسّخنا وتقوي مناعتنا لنبقى ونستمر. لكن هل يصدق أهالي 11 ضحية سقطوا على مذبح سيدة النجاة ذاك الـ27 من شباط 1994 أنها إرادة الله ومشيئته وامتحانه المستمر لنا في بيوتنا وعلى الطرقات وحتى في دور العبادة والصلاة وبيت الله؟؟؟

ما ذنب ميراي والأباتي صفير والشماس والطفلة إليان بطيش وأندريه وألفرد وماري ومنصور وتوفيق؟ لماذا أرادوا اغتيال وطن وترهيب المسيحيين آنذاك؟ لمن أراد الحاقدون والمجرمون توجيه الرسالة المغمّسة بدماء أبرياء؟ إلى اللبنانيين عمومًا؟ أم أن المقصود ترهيب وتيئيس المسيحيين؟ هل أرادوا أن يروّعوا المسيحيين فلا تدوس أقدامهم الكنائس بعد هذه الجريمة؟ هل أرادوا أن يتوقف قرع الأجراس أيام الأعياد والآحاد في كنائسنا وأديرتنا؟ أم أن الهدف كما بدا بعد ساعات إسكات صوت المعارضة في وجه الاحتلال والسلطة الخاضعة له وذلك من خلال حل حزب القوات اللبنانية واعتقال سمير جعجع؟

أسئلة عديدة كانت تدور في رأس رولا كما في رؤوس كل أهالي الضحايا، ولا تزال من دون أجوبة بعد ثلاثين عامًا أقلّه على المستوى القضائي، أما على المستوى الشعبي فالكل أدرك أن المطلوب كان قطع رأس حزب “القوات اللبنانية” وإسكات صوت رئيس الحزب سمير جعجع لأنه رفض أن يخضع لسلطة الوصاية والاحتلال، فرفض الوزارة ومغادرة البلاد “لإراحتهم” فكان مصيره السجن تحت سابع أرض مدة 11 عامًا.

كثيرة هي الأسئلة التي طرحتها رولا إلا أنها لم تشك لحظة كما والدها الذي طلب منه أحد القضاة ـ وكان صديقًا مقربًا من العائلة – خلال تعزيته باستشهاد ميراي أن يتقدم بدعوى على حزب القوات اللبنانية وشخص سمير جعجع، فكان جواب الوالد المفجوع: “تكرم عينك بيصير متل ما بدك”، علمًا أنه لم يكن مقتنعًا بأن يقدم مطلق أي شخص مسيحي على تفجير كنيسة، فكيف بالحري سمير جعجع الذي دفع هو وشبابه ثمن الوجود المسيحي على هذه الأرض من عمرهم وشبابهم وحتى حياتهم؟

في اليوم التالي توجّه الوالد لتقديم شكوى لكن وفق قناعاته وإيمانه. فالدعوى التي تقدم بها كانت على مجهول وكل من يظهره التحقيق. وعندما علم “صديق العائلة” بمضمون الدعوى من خلال المخبرين المندسين في أروقة العدلية، قرّر أن يزور الوالد مرة ثانية وهذه المرة بصفة “قاضي مأجور” وليس بصفة صديق للعائلة.

خلال الجلسة قال القاضي “الصديق” للوالد: “خربتللي بيتي. قلتلك تتقدم بدعوى على حزب القوات وشخص سمير جعجع، بتروح بترفع دعوى على مجهول وكل من يظهره التحقيق؟”. فانتفض الوالد المفجوع وأجابه قائلا: “بس مش قد ما اخترب بيتي بعد ما استشهدت ميراي. ما تحاول تقنعني وتحطللي براسي إنو زعيم مسيحي مؤمن بالكنيسة بيفجّر كنيسة”. عندها انتفض “القاضي المأجور” فوقف وخرج من الباب الذي دخله كصديق ذات يوم وكانت المرة الأخيرة التي يلتقيان بها.

في الأيام الأولى على الجريمة لم يكن أهالي الضحايا في وضعية تسمح لهم بتحليل الوقائع وقراءتها، لا سيما تلك المتعلقة بالجهة التي فجّرت كنيسة سيدة النجاة وقتلت فلذات أكبادهم. ثمة من صدقوا بأن “القوات اللبنانية” فجّرت الكنيسة واعتبروا أن القاتل نال جزاءه باعتقال جعجع. لكن حتى هؤلاء كانوا يدركون في قرارة أنفسهم أن الهدف من التفجير كان هذا السيناريو الذي كتبت سلطة الوصاية تفاصيله وحاكت الحبكة بعناية وإجرام.

وعلى رغم مصابهم استمرت التهديدات التي لم تقتصر على الأهالي الذين ادعوا على “مجهول وكل من يظهره التحقيق”. ويروي بعض الأهالي الذين رفضوا ذكر أسمائهم أنهم كانوا يتلقون تباعًا تهديدات من قبل جهاز أمني تابع لسلطة الوصاية. أما بالنسبة إلى عائلة رولا، فالتهديد وصل مباشرة إلى شقيقها الذي كان يعمل كمسؤول مبيعات في أحد محال الألبسة في منطقة الكسليك قرب كنيسة سيدة النجاة. إذ دخل عليه ذات يوم شبان بلباس مدني وتوجهوا إليه مباشرة وأفرغوا حقدهم في وجهه “بتروح بتخبر بيّك إنو يسحب الدعوى اللي تقدم فيا ضد مجهول أو بدو يصير في جريمة تانيي ببيتكن”.

مساء أخبر شقيق رولا والده بما حصل فكان جواب الأخير: “بتكملّ حياتك عادي وبتروح ع الشغل وكأنو ما صار شي. أنا مش خايف من حدا وأساسًا ما راح يقدروا يعملوا شي”. إلا أن صلابة الوالد المفجوع وإيمانه لم تحولا دون أن يفكر بسلامة ابنه، هو الذي كان ودع ابنه البكر الذي هاجر إلى كندا قبل أعوام من الجريمة، فقرّر أن يجهّز أوراق الهجرة لابنه الثاني للسفر إلى لندن ويبعده عن لبنان. وهكذا كان ولم يعد يحضر الوالد أي جلسة محاكمة بعد هذه الواقعة.

بتاريخ 17 تشرين الثاني 2001 حزم والدا رولا حقائب الهجرة إلى كندا بعدما كان الابن البكر قام بكل المعاملات المطلوبة. أما قرار الهجرة فجاء على إثر توقف سوق العمل حيث كان يعمل الوالد كمتعهد ورش بناء وسيطرة اليد العاملة السورية نتيجة النزوح الذي بدأ عام 2001، وبنتيجة التوتر أصيب بعارض صحي وخضع لعملية فتح شرايين في القدم.

ثمة من اعتبر أن الحياة تكمل على رغم المرارة وفقدان الغالي. ربما. لكن في منزل آل بشعلاني كل شيء توقف على آخر ورقة روزنامة انتزعتها العائلة من دفاتر العمر، تلك الورقة حُفر عليها تاريخ 27 شباط 1994. وقد يكون الوضع كذلك في منازل أهالي وعائلات الـ11 ضحية المحفورة على بلاطة رخام عند مدخل الكنيسة لتبقى الذكرى في الذاكرة. لكن في منزل ميراي حتى عقارب الساعة توقفت على ذاك الموعد الذي صادف في اللحظة التي كانت تقف فيها ميراي استعدادًا للتوجّه نحو المذبح لقراءة الرسالة على أنغام ترتيلة قاديشات آلوهو… فقرأ لبنان والعالم رسالة المحتل في أحد النازفة.

في ما خص رولا التي كانت تتعلّم في ثانوية أبو شبكة، فهي ما عادت قادرة على الإمساك بكتاب أو التركيز، ولم تعد إلى مقاعدها الدراسية، علمًا أنها كانت في المرحلة الثانوية. وعلى رغم المسعى الذي قام به المطران غي بولس نجيم بتقديم طلب حرّ لها ليتسنّى لها الخضوع للامتحانات الرسمية، إلا أنها لم تعد قادرة على التركيز أو القراءة. “ما كنت قادرة افتح كتاب أو إقرا صفحة. وما عدت قريت إلا الرسالة بالكنيسة أيام الآحاد والأعياد. ولأول مرة بعترف إنو كل مرة بطلع ع المذبح تا إقرا الرسالة برجع بعيش نفس اللحظات وبشوف ميراي قدامي”.

خضعت رولا لجلسات علاج نفسي، “بس ما قدرت طلّع اللي بداخلي إلا عندما قابلت الدكتور سمير جعجع خلال زيارة قمت بها إلى لبنان عام 2016، حسيت إنو تحررت من التروما بنسبة 70 في المئة، لأنو قدرت قول كل اللي كنت حاسي فيه وعبّرت عن حقيقة ما كان حدا قادر ينقلا للشخص اللي اتُهم بتفجير الكنيسة”. وللمرة الأولى تروي رولا بعض الحقائق كما شهدت عليها في اللحظات الأولى على وقوع الإنفجار وتقول: “كان في عبوات ناسفة أخرى موصولة مباشرة بالأورغ اللي كنا واقفين ميراي وأنا وكل أطفال الجوقة حدّو. بس في أعجوبة حصلت لأنو الأسلاك الممدودة تحت السجادة كانت مقطوعة وكأنو حدا ماسك مقص وقطعها. ولو انفجرت كانت الكارثة لأنو كل أعضاء الكورال من فئة الأطفال عدا عن الضحايا من المصلين. سيدة النجاة نجتنا من الشرير مع أنو دفعنا الثمن غالي”.

في 29 تشرين الأول 2000 تزوجت رولا من شريك العمر إيلي عقيقي ورزقا بثلاثة أولاد مارون (مواليد العام 2001) وميراي (2003) وشربل (2009). وفي كل 27 شباط كانت تجلس في مقعدها في كنيسة سيدة النجاة تصلّي عن أنفس كل الضحايا، وتتشارك مع ميراي تلك اللحظة وتتذكر يدها التي أمسكت بها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

2011 دقت ساعة الهجرة إلى كندا. هناك تسنّى لها الوقت لتجلس مع والدها وتستذكر ميراي. “كان يقللّي لو بعدا عايشة كان اليوم بيكون عمرا… وكنت بكون عن بتمشا معا بكندا”. وبقيت سردة الجلسات تلك إلى أن رحل في 26 آب 2017 وفي قلبه غصة وسؤال ليش فجّروا الكنيسة ومين فجّرا؟

27 شباط 1994. كان يُفترض أن يشبه أي يوم من أيام الصوم باستثناء أنه كان أحد النازفة في زمن صومنا. فكان أحد النازفين والنازفات.

27 شباط 1994 كان يُفترض أن تعود ميراي والطفلة إليان والضحايا الذين لوّنوا كأس القربان الذي كان يرفعه الأباتي صفير على المذبح بدمائهم إلى أسرّتهم المرتبة كالعادة… عادوا لكن إلى أسرّة باردة مدفونة في الثرى، وغرفهم لا تزال مرتبة لكن في ثناياها صمت طويل. صمت عمره 30 عامًا وقد يطول!

27 شباط 1994 أراد المجرم الجلاد أن يسكت صدى قاديشات آلوهو، فكان الجواب بقاديشات آلوهو بعد يومين على تفجير الكنيسة وبعد 30 عامًا، حيث لا يزال جرس كنيسة سيدة النجاة يدق والضحايا المحفورة أسماؤهم على اللوحة عند المدخل ترنم… حقا قام!

 

في العدد القادم:

“أنا رشدي رعد المتهم الرئيسي زورًا في تفجير كنيسة سيدة النجاة”

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل