“كنت مراهقًا في الخامسة عشرة، كان أحد النازفة من زمن الصوم، بيتنا قريب من كنيسة سيدة النجاة، ذهبت الى القداس ككل أحد أنا وصديقتي، جلسنا في الصفوف الأمامية، وفيما الأبونا يقول قاديشات آلوهو”…
“دوى شيء ما لم نفهمه بداية، كان عصف قوي جدًا، واذ بي أرى دخانًا وغبارًا وأشلاء وجثثًا متناثرة على الأرض ودماء في كل مكان، واسمع صراخًا وعويلًا والناس تهرب باتجاه المدخل، واطفال يصرخون… التفتُ وصديقتي فرأينا فتاة صغيرة مصابة بقدمها ملقية على الأرض، حملناها الى الخارج حيث كان الصليب الأحمر وصل والجيش انتشر في المكان… أذكر تمامًا حين تقدّمت مني فتاة بعمر العشر سنوات تقريبًا، حلوة شعرها مجدول اسمها ميراي، مصابة بشظية في رقبتها وسألتني “دخلك شفت اختي رولا”؟ أجبتها لا، وخرجت مسرعة، وعرفت لاحقًا أنها ماتت نتيجة نزيف داخلي… يا الله ثلاثون عامًا ولا أنسى تفصيلًا مما حصل. كان المخطط أن ما إن تنفجر العبوة الأولى التي كانت مزروعة على يمين المذبح، حتى تنفجر القنابل المسمارية الأخرى التي كانت مزروعة داخل أورغ قديم على يسار المذبح، لحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا، لكن العناية الإلهية عطّلت مفعول تلك العبوات. أذكر أني بقيت لفترة لا أذهب الى الكنيسة من خوفي، وبقيت لنحو شهر لا أنام من دون إنارة بسبب المشاهد المروِعة التي رأيتها. اتهموا يومذاك سمير جعجع بالجريمة، ولكن كانت النتيجة أن أبرياء رووا بدمائهم أرض الكنيسة”…
هذا بعض مما ورد في شهادة الممثل أسعد حطاب، أحد الناجين من مجزرة تفجير كنيسة سيدة النجاة الذوق، في ذاك الـ 27 شباط العام 1994.
ترى ماذا يمكن أن يُكتب بعد عن تلك الذكرى المضرّجة بالوحشية الإنسانية التي تقارب تفجير مرفأ بيروت؟! هذه حكايتنا مع الزمن…مع أزمان الاحتلال، عملاء للاحتلال، ولبنانيون يستشهدون، يُغتالون فداء المحتل الذي يكره لبنان ويحقد عليه، ويصلي ليتدمّر وليكون شعبه عبدًا ذليلًا في بلاط الديكتاتوريين المتخلفين الإرهابيين.
ثلاثون عامًا ونحن نكتب ونكتب، ونناشد العدالة الميتة في لبنان أن تحيا من جديد، لأجل العدالة نفسها، ولأجل كرامة الانسان، ولأجل الشهداء والأحياء، ولا شيء يحصل، وكأن نضال كل تلك السنين، يتحوّل الى طواحين هواء تغزل الفراغ والخيبة حتى اليأس.
ثلاثون عامًا وأقلامنا تتلوّى في حبرها وهي تكتب عما يبدو أنه لن يتحقق أبدًا، وكلما كتبنا عن الكنيسة، يبدو الشهداء وكأنهم في اجتماع طارئ يدورون من حولنا، يحاصرون أقلامنا المغمسة من أرواحهم، وأيضًا من غضبها وسخطها من سلطات الاغتيال المتعاقبة، ومن زعلها على من راحوا، بهدف اتهام رجل كبير مناضل وإدخاله السجن الى الأبد، وأسر طائفة وشعب بكامله، ليُحكم المحتل السوري قبضته على أنفاس لبنان، ولم يجدوا مكانًا أفضل من الكنيسة ليتفجّر كل ذاك الحقد غير الموصوف على لبنان ومقاوميه وأحراره، وليحققوا سعادة بقائهم على كراسي الدم.
ثلاثون عاًما ونحن ندور في الحلقة المفرغة، نعرف هدفنا تمامًا لكن تلك اللا ـ دولة، تلك الدويلة، اولئك الأسرى في سلطة خارجة عن حكم الدولة، وهي تتحكم بمقابض أنفاس الحرية فينا، تمنع عنا العدالة والحق والحقيقة. ولكن، ولسخرية القدر تلك، انهم ومنذ ثلاثين عامًا، حين حاولوا اتهام سمير جعجع بالمجزرة، وحتى في عز مرحلة الجنون والشك والخوف التي تلت تفجير الكنيسة، لم ينجحوا بغسل دماغ اللبنانيين، وجعلهم يصدقون أن ابن الكنيسة فجّرها، لم يصدق الناس، حتى من كانوا من كارهي الحكيم، أن من عاش وناضل وقاوم ليدافع عن الكنيسة والأرض هو من يفجّرها. وهنا كان سقوطهم الكبير، حتى ولو ظنوا لوهلة أنهم نجحوا وحلّقوا، لكن غلبهم الرأي العام اللبناني الحر، الذي ولد حرًا، ويبقى حرًا للأبد وهم يبقون في بلاط أسيادهم عملاء عبيدًا للأبد. وتبقى كلمة. عذراً شهداء كنيسة سيدة النجاة، لم نحقق لكم العدالة حتى الآن، لكن حسبنا أننا نحاول، نناضل، والله يعرف ويرانا.