دماء على مذبح الكنيسة.. حين تروي “سيدة النجاة” حكاية العدالة الشهيدة

حجم الخط

كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” ـ العدد 1750

وفي الأسبوع الثالث من زمن الصوم الكبير، دوى الانفجار في كنيسة سيدة النجاة، لتصوم الحياة عن 11 شهيدًا وعشرات الجرحى كانوا ليكونوا بالمئات لو انفجرت العبوة الثانية التي زُرعت عند أقدام العذراء مريم.

مذبحة على مذبح الرب. طارت الأشلاء وعبقت رائحة الدماء. “من يدّعي حماية الكنيسة فجّر في ذاك الـ27 شباط من العام 1994 كنيسة سيدة النجاة الذوق”. وُضع في قفص الاتهام “القوات اللبنانية” ورئيسها سمير جعجع. هكذا أشاعت سلطة الاحتلال السوري وعملاؤها الخبر، وهكذا حاولت أن تقنع الرأي العام والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير تحديدًا.

ثمة من يقول إن الملف طُوي وانتهى الأمر. لكن الواقع مختلف تمامًا، سواء في ملف تفجير كنيسة سيدة النجاة، أو حتى في ملف تفجير مرفأ بيروت، كما في ملفات اغتيال أبطال من ثورة الأرز وسواهم. هنا تُغتال العدالة على مر الثواني، وملف الكنيسة تحديدًا، طُوي منذ زمن وبالكامل، وطوى الأهالي جروحاتهم العميقة وسكنوا وجعهم الصامت، وبقيت الذكرى تنغِّص عليهم حياتهم، وبقي الشهداء أحياء حائرون بين البقاء والرحيل، يحومون حول أشلائهم في الكنيسة عند مذبح الرب، ولا من يستجيب لصوتهم المنادي بالعدالة.

مات ملف الكنيسة في المقابر الجماعية لسلطة الاحتلال السوري بداية، والآن في مقبرة الاحتلال الايراني، الى أن… الى أن شاء المصوّر جوني الزغبي انتشال التفجير من كعب التناسي القاتل، ليدخل في مغامرة البحث عن الحقيقة، وليكون لكنيسة سيدة النجاة فيلم وثائقي يحكي الحكاية بلسان أبطالها المتهمين، وأهالي الشهداء المتهمين أيضًا بجريمة عدم التنكّر لشهدائهم، وأيضًا بلسان الأباتي الراحل أنطوان صفير الذي كان الشاهد الأبرز على ما حصل بعدما تضرّج بالجروح البليغة، حين كان يصلي فوق مذبح الكنيسة قبل دقائق قليلة من دوي الإرهاب عند أقدام العذراء مريم، وأيضًا قبل أن يرحل عن الحياة ومعه الشهادة الموجعة التي لم تفارقه حتى آخر أنفاسه.

 

لماذا قرر جوني الزغبي الآن إعادة فتح الملف الدامي؟

“بلشت القصة بالـ2018 وقت سافرت على أستراليا حيث تعرّفت الى المتهم الرئيس بتفجير الكنيسة، الرفيق طوني عبيد. لم ألتقِ به سابقًا وكنت أسمع عن أخبار بطولاته وشجاعته. وفي إحدى الجلسات الاجتماعية التي جمعتنا صدفة، أخبرني ما حصل معه، تأثرت كثيرًا وقررت مذ تلك اللحظة أن اوثّق فيلمًا عن تفجير كنيسة سيدة النجاة” يقول الزغبي.

على مدى نحو ساعة والنصف، تتوالى مشاهد وشهادات مدوّية عن تفجير الكنيسة، “كان المطلوب إلغاء أي قوى سيادية لبنانية، وبخبرتي الأمنية أقول إن التفجير من تركيب قوى الأمر الواقع”، يقول اللواء أشرف ريفي في شهادته. “سوريا هي التي حاكمت الحكيم وليس لبنان”، تقول ستريدا جعجع. “كان بلّش العد العكسي لمحاولة تصفية القوات اللبنانية”، يقول الصحافي أمجد اسكندر في شهادته في الفيلم. “كان كل همّن يوصلوا للحكيم”، يقول المناضل شربل أبي عقل. “يللي بيدافع عن الكنيسة ما بيفجّرها” يقول أحد أهالي الشهداء… وتتوالى الشهادات، جورج عقيص، الرفيقان بيار جبور وجهاد سليمان، محامون وسواهم، ولعل أبرز تلك الشهادات كانت من أبرز المتهمين المفترضين الذين بنى على أساسه الجهاز الأمني اللبناني ـ السوري ملف اتهاماته بتفجير الكنيسة، وهو المناضل طوني عبيد.

ويتابع الزغبي: “لما عدت من أستراليا، قرأت صدفة تحقيقاً عن تفجير الكنيسة، فكان القرار بإعداد وثائقي، وبدأت بجمع الملفات والشهادات ليكون لنا فيلم موضوعي يوثِّق الحقيقة كما هي، وليس كما تريد سلطات الاحتلال، وليكون بمثابة تكريم للشهداء، وإلقاء الضوء على العدالة الميتة في لبنان. بدأت أبحاثي ووضعت تصوّرًا للفيديو وعرضته على رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي شجعني كثيرًا. ولما انطلقت كانت وصلت موجة وباء كورونا، مما أدى الى وضع عراقيل بسبب ظروف الإغلاق العام، إضافة الى وضع الأباتي صفير، الذي كان مريضًا وكان يخشى الاختلاط خوفًا من الإصابة بالعدوى، الى أن توصلت أخيرًا لأخذ شهادته قبل أن ينتقل الى أحضان الآب بفترة قصيرة، كما تواصلت مع الرفاق في الخارج، وصارت القصص تفتح على أخرى، واستمر التحضير الصعب نحو ثلاث سنوات ونصف.

لم يوفِر جهاز الانتشار في “القوات اللبنانية” سواء في لبنان أو في الانتشار، أي جهد لمساعدة الزغبي لإنجاز فيلمه الوثائقي، وكان له الدور الرئيس بتأمين التواصل بين الزغبي وبعض الرفاق في الخارج وتحديدًا طوني عبيد، “لولاهم لما تمكنت من إنجاز فيلمي” يقول الزغبي الذي فوجئ بالكثير من الحقائق التي تعمّدت سلطة الاحتلال وعملاؤها في لبنان بطمسها.

ويقول سعيدًا أنه حقق إنجازًا بإلقاء الضوء على الكثير من تلك الحقائق “ثمة تفاصيل كثيرة عُتِم عليها وفوجئت بها بصراحة، لم نتهم أحدا في الفيديو، ولم نكن أساسًا بحاجة لذلك، لأن الحقيقة كانت واضحة. أهالي الشهداء أخبروا ما حصل معهم، وكذلك الأباتي صفير، والشباب الذين أوقفوا تكلموا عما حصل معهم في التحقيقات، وكيف أبدعت السلطة بتركيب الملفات لكل واحد منهم، وفي النهاية تأتي الخلاصة منها لوحدها واضحة، ومَن المجرم الذي ارتكب هذه المجزرة” يقول الزغبي.

تعب الزغبي للملمة كل تلك الشهادات، وكل منها يروي حقيقة ناصعة لا لبس فيها، وضّبها كما يجب ليخرج الفيلم الوثائقي الى العلن، وليكون وثيقة للأيام الآتية في دولة ترفض الحقيقة وتقتل العدالة ومن ينادي بهما، ومع ذلك لن يكون للفيلم محطة عرض في لبنان، وسيقتصر على الخارج لاطلاع الجيل الجديد على الظلم الذي لحق بـ”القوات” والرفاق في تلك الحقبة، خصوصًا أن المتهمين الأساسيين في التفجير موجودون في الاغتراب. لذلك سيُعرض في أستراليا وكندا وأميركا، وممكن جدا في أوروبا” كما يتمنى الزغبي.

لم يرافق العمل على تحضير الفيلم أي ضوضاء، بل تم بهدوء تام من دون شوشرة إعلامية وما شابه. فريق العمل كان محدودًا وعمل بسرية تامة. والمفارقة الصعبة أن كثرًا ممن شاركوا في الفيلم وأعطوا شهاداتهم، باتوا في مقلب الحياة الآخر، مثل الإعلامية جيزيل خوري، والأباتي صفير، والمحامي سمير الزغريني الذي كشف للمرة الأولى عما رآه قبل يوم من التفجير. كما خسر الزغبي أثناء الإعداد للفيلم رفيق دربه وصديقه المصوّر روجيه درغام أيضًا بسبب المرض، وتولّى أخوه روي إكمال مهمة التصوير. والأهم في كل تلك الشهادات كانت إطلالة المناضل طوني عبيد الذي أطل للمرة الأولى ليكشف حقائق جديدة، عن تفجير جعله أبرز طريدة لعدالة الاحتلال، التي من المعروف أنها فبركت التفجير كله لتلقي بسمير جعجع في السجن وتلغي “القوات اللبنانية”.

ثلاثون عاما مرّت فماذا تريد “القوات اللبنانية” بعد، لتشارك عبر شهادات بعض من مناضليها في فيلم وثائقي عن تفجير سيدة النجاة؟ “لا نريد أن ينسى أحد تلك المجزرة، لا نريد أن ننسى الشهداء، لا يجب على الضمير العالمي أن يتناسى الإرهابيين المعروفين الذين ارتكبوها من دون أن يُحاكموا. الفيلم لا يتهم أحدًا بالأسماء، إنما الإتهام واضح جدًا من خلال الشهادات والأحداث التي تُكشف للمرة الأولى. الفيلم لأجل الشهداء ولأجل العدالة ولأجل “القوات اللبنانية” أيضًا التي اتُهمت زورًا واعتُقل الحكيم بسبب إتهام باطل أكثر من 11 عامًا. يجب أن لا ننسى، هذا هو الهدف الرئيس من الفيلم” يقول الزغبي، الذي يبدو سعيدًا بما أنجزه على رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته.

“دماء على مذبح الكنيسة”، التوقيع شهداء الكنيسة، الإمضاء العدالة الشهيدة، صالات العرض قلوب أهالي الشهداء، والعرض مفتوح طالما دماء المذبحة على مذبح الرب لم تجف بعد.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل