قصة اختلاف التقويم.. الصوم والعبور الى القيامة “أرثوذكسياً”

حجم الخط

الصوم والقيامة #صومنا_صلاة #صليبنا_قيامة

1. مقدّمة:

لا شكّ أنّ الصوم الكبير المقدَّس هو من أهمّ الأصوام لدى المسيحيين عامّة، ولدى الكنيسة الأرثوذكسيّة خاصّة، كونه تحضير وتهيئة “لعيد الأعياد وموسم المواسم”، عنيت به قيامة الرّبّ يسوع بالجسد من بين الأموات. يقسم هذا الصوم إلى قسمين، الأوّل هو الصوم الأربعيني المقدَّس الَّذي ينتهي بسبت لعازر، وصوم الأسبوع العظيم المقدَّس الَّذي يبدأ في أحد الشّعانين وينتهي في أحد الفصح المقدَّس أو أحد القيامة.

 

2. كيفية تحديد تاريخ عيد الفصح المسيحي

إن المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية عام 325 م. برئاسة الإمبراطور قسطنطين الكبير، حدَّد كيفية تحديد تاريخ الاحتفال بعيد الفصح، وأقرّ القاعدة التي كانت تعتمدها كنيسة الإسكندريّة للاحتفال بالعيد، فيقع عيد الفصح يوم الأحد بعد أول بدر يلي الاعتدال الربيعي في 21 آذار (حساب شرقي)، ولا يجوز أن يأتي عيد قيامة المسيح بالتزامن مع عيد الفصح لدى اليهود أو قبله لذلك يُحتَفَل به في الأحد الذي يلي سبت الفصح اليهودي مباشرة، وذلك لأنّ المسيح قام بعد سبت الفصح اليهودي (راجع يوحنّا 19: 31).

 

3. ما أين يأتي الفرق بين تاريخ الفصح الشرقي والغربي؟

كانت الدولة الرومانية تستخدم تقويمًا يتألف من عشرة أشهر، ومنه جاءت تسمية أكثر الأشهر. عندما احتلت الإمبراطورية الرومانية مصر استفاد الرومان من علوم المصريين الفراعنة الفلكية، فقام يوليوس قيصر بتعديل التقويم الروماني القديم بالاستعانة بأحد الفلكيين الإسكندريين ويدعى سوسيجنيو، وقد تمثل تعديله في جعل السنة العادية 365 يومًا والكبيسة 366 يومًا، وتكون سنة كبيسة كل أربع سنوات. هذا التّقويم دُعيَ باسم التقويم اليولياني وقد بوشر استعماله في مدينة روما على يد يوليوس قيصر عام 47 ق. م.، واليوم يُدعى هذا التّقويم ايضًا باسم التقويم الشرقي.

السنة تتألف من 365 يوماً، و5 ساعات، و49 دقيقة (أي أنها تقل فعلاً 11 دقيقة عن السنة في التقويم اليولياني)، ويعني هذا أن يتقدم التقويم اليولياني عن الواقع يومًا واحدًا كل 131 سنة تقريبًا، ويتقدم 3 أيام كل 393 سنة (مع التقريب تصبح 400 سنة)، ولذلك قرر بابا الفاتيكان غريغوريوس الثالث عشر أن يتبنى نصيحة الفلكي أليسيوس ليليوس، وبعد وفاة الأخير خلفه الفلكي كريستوفر كلافيوس في رأيه، خصوصاً وأنه خاف من تغير موسم عيد الفصح الذي يجب أن يكون في الربيع، وقد أصدر مرسومه البابوي بإصلاح التقويم اليولياني.

المشكلة في أيّامنا وجود فرق 13 يومًا بين التقويمين الغربي والشرقي، فعندما نكون في 21 آذار (حسب التقويم الغربي) فهذا يعني أنّنا في 8 آذار بحسب التقويم الشرقي. وهكذا إذا جاء البدر في 28 آذار، مثلًا، يكون هذا التاريخ 15 آذار حسب التقويم الشرقي وتاليًا لم يبدأ فصل الربيع بعد، لذا يجب انتظار البدر التالي (بعد 28 يومًا). وهذا هو ما يسبب الفروقات بين تواريخ الفصح على الحساب الشرقي والغربي حين تُستعمل القاعدة التي أقرّها المجمع المسكوني الأوّل لحساب تاريخ الفصح.

 

4. الصوم

الصوم تدريب وترويض للنفس على الطّاعة لله عبر طاعة الكنيسة في تحديدها لمتطلّباته (أي للصوم) على الصعد الروحيَّة والجسديّة. هو تشوُّق إلى القربى من الله عبر الجهادات المختلفة في الصلاة المكثّفة والانقطاع عن الزفرَين والصوم لفترة معيّنة من دون طعام أو شراب، لكي يتحرَّك القلب في طلب الرّبّ إذ يُدرك أنّه فقير إليه وبه ومنه إلى الآخَرين. إنّه عودة إلى روح الفردوس، إلى روح الشركة والسّلام بين الله والإنسان وبين البشر مع أنفسهم ومع بعضهم البعض وبينهم وبين الخليقة. لذلك يدخل المؤمن الصوم بالاستغفار والمسامحة. من هنا، ومع دخولنا هذه الفترة النّسكيَّة نستغفر الآخرين “في طقوس كنيستي لأنهم إن غفروا لنا يؤذنون لنا بدخول الصوم فقراء، ذلك أننا إن جعنا نروّض أنفسنا على أنّنا جائعون إلى رحمة الله. لا معنى للصوم الا إذا مارسته إقرارًا بخطيئتك” (عن مقالة للمطران جورج خضر، السبت 21 شباط 2015). من هنا، جوهر الصّوم عيش التواضع فضيلةَ طاعة وإنكار للمشيئة الذّاتيَّة من خلال الجهادات النسكيّة الّتي حدّدتها الكنيسة وليس بناء على مشيئة واختيار كلّ واحد.

لا يصوم الإنسان ليحقِّق مشيئته بل ليتحرَّر منها. الصوم مسيرة إنكارٍ للذّات وحمل للصّليب وراء المسيح. والصّليب المحمول هو طاعة الوصيَّة الإلهيَّة ورفض كلّ ما يخالفها. إّنه عيش مع الله وبه وله وفيه من خلال قبول التّبنّي الإلهيّ لنا في المسيح أي بواسطة حفظ وصاياه، “اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي” (يوحنّا 14: 21، راجع أيضًا يوحنّا 14: 15، 23 و24).

 

5. الصوم والقيامة

الصوم تاليًا موت وقيامة، هو موت عن العالم المتمثّل بالانقطاع عن الطعام والشراب لوقت معيَّن كما بالانقطاع عن الزّفرَين، وموت عن النّفس بإنكار المشيئة الذّاتيّة وصنع مشيئة الله تطبيقًا للصلاة الرّبّيّة “لتكن مشيئتك…”. لكن الصّوم لا يستقيم من دون صلاة، ولهذا تكثّف الكنيسة في هذا الزّمن الصلوات وتُشبعها بالمعاني الخشوعيَّة وتحثّ فيها المؤمن على التوبة والمسامحة وعيش روح الشركة والعطاء والخدمة، لأنّ الصوم لا نفع له ما لم يربطني من خلال طاعة الله بالآخَر… مسيرة الصوم هي مسيرة تطهُّر لاقتناء قلب نقيّ يفيض حبًّا لله وخدمة للآخَر، حتّى يصير الله في الآخَر حياتي ويصير الآخَر حياتي في الله…

هكذا نبتدئ باختبار الحياة الجديدة في المسيح، نختبر القيامة إذ لا يعود “الآخرون هم الجحيم” كما يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بل يصير “أخي هو حياتي” كما يعلّم القديس سلوان الآثوسي (+1938 م.). فالصوم هو عبور من عادات وخطايا وتعلّقات الإنسان العتيق إلى حرّيّة وفضائلِ وبرِّ المحبَّة الإلهيَّة المنسكبة علينا بنور القائم من بين الأموات بروحه القدّوس.

غايتنا أن نتجدَّد بالروح القدس عبر مسيرة التّحرُّر والتّعفُّف الّتي هي الصوم، عابرين مع المسيح يسوع في مسيرة تدبيره الخلاصيّ من خلال أسرار الكنيسة وليتورجيّتها إلى بنوّة الله وحرّيّة أبنائه حاملين شهادتنا للناهض من بين الأموات عبر الحياة الجديدة الّتي تظهَرُ فينا بقوّته في تغيّرنا عن أشكالنا وأذهاننا العتيقة إذ نقدّم حياتنا ذبيحة حيّة مرضيّة لله، في كلّ فكر أو قول أو فعل، الّتي هي عبادتنا العقليَّة (راجع رومية 12: 1 – 2)، كون حياتنا صارت هي الليتورجية الدائمة والمستمرَّة في كياننا عبر تقديم الشكر لله في خدمة مذبح الأخ.

 

6. خاتمة

الرّبّ لم يخلقنا للموت بل للحياة الأبديَّة، لكن تعلّقنا بخطايانا وبشهواتنا يبقينا تحت سلطان الموت وعبوديّة إبليس، لذلك وضعت الكنيسة الأصوام، وخاصّة الصوم الكبير المقدَّس، كفترة تدريبيَّة نتعلّم فيها أن نتنقّى من أهوائنا ونحبّ إخوتنا ونسامح أعداءنا، ونغيِّر حياتنا بنعمة الله عبر استنزالها واستمطارها علينا بالصوم والصلاة والتوبة والمشاركة والمسامحة…

فلنستعدّ لولوج الصيام بروح الاتّضاع والطاعة للرّبّ لكي يمنحنا غلبته على الموت الَّذي فينا وتفيض بواسطتنا نعمته على طالبيه والمتألمين والحزانى…

فلنتقوَّ ولنتشجّع… ولنستعدّ لاستقبال الرّبّ…

#صومنا_صلاة
#صليبنا_قيامة​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل