سوء الحظ يلاحق المتقاعدين حتى الشارع.. ما كُتب قد كُتب؟!
قضية المتقاعدين كقضية المودعين، هي مسألة حق ضاع في هوّة فساد بعض السلطة وجهل بعضها الآخر. فمن خرجوا إلى التقاعد بعد العام 2019 وبدء انهيار العملة الوطنية، تآكلت تعويضاتهم أو معاشاتهم التقاعدية، فما عادت تساوي فاتورة استشفاء أو لائحة دواء. هذا عدا المصاريف البالغة الارتفاع على العائلات خصوصًا من باتوا في سن لا يسمح للكثر منهم بالعمل والجهد اليومي. وعندما ارتفع الألم رفع هؤلاء الصوت مطالبين بحقوقهم وشكّلوا لجانًا للعمل بمنهجيّة لرفع الظلم. لكن جواب المسؤولين، سواء من أعطوا أملاً وأبدو تجاوبًا للمساعدة بهذه القضية أو من اعتبروا أن ليس باليد حيلة، كل هؤلاء وصفوا هذه الشريحة بـ”السّيئي الحظ” لأن لا المعاش التقاعدي شملهم عندما كانوا في الخدمة ولا التحسينات التي أُدخِلت على قانون الضمان تطالهم اليوم… فما هي الخطوات التي يعملون عليها
بداية لا بد من الإشارة إلى الفروقات بين أوضاع هذه الشريحة التي انضمت إلى شرائح المظلومين وفاقدي الحقوق في هذا البلد. فهناك متقاعدو القطاع الخاص الذين يحصلون على تعويضاتهم من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهؤلاء ظُلموا مرّتين: عندما تم تسجيلهم في الضمان على أنهم يتقاضون الحد الأدنى فيما كانت أجورهم أعلى بكثير فتقاضوا تعويضًا على ما هو مسجل في الضمان أي أقل بكثير مما يستحقون. ومرة عندما قبضوا هذا التعويض بشيكات مؤخرة فما بقي منه بعد تراجع قيمة الليرة وصولاً إلى ما يوازي 2 في المئة من قيمته.
وهناك متقاعدو القطاع العام من مياومين ومستخدمين وأجراء الخارجون من مختلف إدارات الدولة ومؤسساتها العامة والذين يتشابه وضعهم مع زملائهم المتقاعدين من القطاع الخاص. كما أن هناك المتقاعدين من الموظفين، وهؤلاء يتقاضون معاشًا تقاعديًّا تراجعت قيمته الشرائية مع انهيار الليرة، ثم بات مشمولاً بالقرار الأخير لمجلس الوزراء الذي أقر إضافة ثلاثة أضعاف على هذا الراتب.
وهناك المتقاعدون من متعاقدي القطاع العام ممن تخضع عقودهم لموافقة مجلس الخدمة المدنية وكانوا يستفيدون من تقديمات تعاونية موظفي الدولة أثناء خدمتهم أسوة بالموظفين المثبّتين داخل الملاك العام. وأسطع مثال على حال هؤلاء هم متعاقدو وزارة الإعلام الذين كان بند إدخالهم الملاك أُدرِج على جدول أعمال جلسات سابقة لمجلس النواب، وكان يتم سحبه في كل مرّة تحت حجج مختلفة. وهؤلاء يتقاضون بعد التقاعد تعويضًا من الضمان لا معاشًا تقاعديًّا. ومنذ العام 2020 تتآكل قيمة تعويضاتهم حتى باتت أدنى من أجر شهر واحد مما يتقاضونه لو كانوا حاليًّا يعملون في مؤسسة خاصة.
وأخيرًا هناك فئة العسكريين وأفراد القوى الأمنية كافة، وهؤلاء يتقاضون تعويض نهاية خدمة ومعاشًا تقاعديًّا معًا. ولكنهم دخلوا شريحة المنتفضين والمطالبين برفع قيمة ما يتقاضونه لأنهم كما سائر المتقاعدين ما عادت هذه الأموال تكفي متطلبات عائلاتهم المعيشية والصحية.
تحركات وأكثر من خطة
نتيجة لهذا الواقع، ارتفعت وتيرة التحركات والاعتصامات وحتى اللقاءات البعيدة عن الأضواء مع المسؤولين، للمطالبة بتحسين أوضاعهم وبحثًا عن مخرج يُنصف هذه الشرائح ممن قضوا عمرًا في خدمة وظيفتهم وخرجوا ليجدوا أنفسهم فجأة بمواجهة مصير صعب في فترة من أعمارهم ليست أقل صعوبة، سواء على الصعيد النفسي أو الاجتماعي أو الصحي. قاد العسكريون إحدى أكثر هذه المطالبات صخبًا ما وضعهم وجهًا لوجه في التدافع والتضارب بينهم وبين زملائهم في الخدمة الفعلية. وهذا الموقف بدا الأكثر تعبيرًا عن حال الإثنين معًا، بين من هو مدفوع بعامل الفقر ويطالب بحقه، وبين من هو مأمور بعامل حتمية التنفيذ تجنّبًا للعقوبة!
كما بدأ هؤلاء ينتظمون في تجمّعات واتحادات لحشد القوى وتنظيم الملفات إظهارًا لحقوقهم وإقناعًا لبعض الجهات المعنية بالحلول التي يقترحونها للحصول على هذه الحقوق. فظهر مثلاً إلى التداول تجمّع المتقاعدين في الإدارات العامة وتجمّع متقاعدي وزارة الإعلام وسواهما. وحملت هذه التجمعات أكثر من خارطة طريق تقدّمت بها أو تتحضّر لتقديمها إلى أكثر من جهة حكومية أو نيابية أو قضائية.
فريق وزارة الإعلام يعمل على خطّين رئيسيّين:
أولاً، إعادة إحياء اقتراح قانون استفادتهم من المعاش التقاعدي وتقديمات تعاونية موظفي الدولة كأولوية على المطالبة بتحسين قيمة التعويضات. واقتراح القانون هذا كان تم درسه في اللجان النيابية المختصّة واللجان المشتركة وعُرف بقانون روبير غانم وكان يومها النائب الراحل من المهتمين بهذه القضية. وجولة بعد جولة تم إدخال تعديلات على المشروع الأساسي الذي كان يَشترِط عدم التثبيت، وكذلك حجب مسألة الترفيع بين الفئات، باعتبار أن القانون لا يسمح بمساواة هذه المجموعة مع الموظفين الثابتين لأكثر من سبب، الأمر الذي رفضه المتعاقدون يومها مطالبين بكامل الحقوق. لكن بعد إدخال تعديلات مقبولة على الاقتراح بحيث بات مقبولاً نسبيًا، عاد واصطدم بعوائق سياسية وطائفية كانت تُسقِطُه كل مرّة من جدول أعمال مجلس النواب قبل التصويت عليه مباشرة.
ومسودّة الاقتراح المعدّل الذي يجري العمل عليه حاليًّا تطالِب بشموله جميع المتعاقدين الذين ما زالوا في الخدمة الفعلية، والمتقاعدين الذين خرجوا ابتداءً من 1 كانون الثاني 2020، أي منذ بدء الانهيار الكبير. وطبعًا هناك تفاصيل عملية لمسودة الاقتراح هذه يجري العمل عليها مع عدد من النواب والقانونيين ليكون المشروع جاهزًا لإعادة طرحه على الهيئة العامة لمجلس النواب.
ثانيًا، وكخطّة باء في حال لم يتم السير باقتراح قانون الاستفادة من المعاش التقاعدي وتقديمات تعاونية موظفي الدولة، الضغط باتجاه احتساب التعويضات على معدّل سعر للدولار أعلى من 1500 ليرة. ويطالب المتقاعدون بأن يتم اعتماد سعر السوق مثلما باتت الدولة تستوفي رسومها على هذا السعر. كما أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بات يستوفي اشتراكاته بسعر السوق ويدفع التعويضات على سعر 1500 ليرة، فكيف للمتقاعد المضمون الذي لا بديل لديه عن البقاء تحت التغطية الصحية إلا تسديد اشتراكاته، أن يسدِّدها وتعويضه كاملاً لا يكفيها لبضع سنوات؟
إلى التدرّج التصعيدي
بالتوازي كان تجمّع الأجراء والمتعاقدين في الإدارات العامّة حدد مطالبهم بثلاثة: أولها الحصول على تقاعد مريح وذلك بالاستفادة من معاش تقاعدي كافٍ للعيش في الظروف الراهنة. والثاني هو العمل الجاد على إعادة احتساب تعويض نهاية الخدمة لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بما يتناسب وسعر صرف الدولار في السوق. وهم الذين دفعوا اشتراكاتهم على سعر السوق يومها فما ذنبهم إن كان الضمان لم يستثمر هذه الأموال أو لم يحافظ على حقوق المضمونين؟ أمّا الثالث فإعفاء هذه الفئة من اشتراكات الضمان الصحي. على أن يستفيد من التعديلات تلك كلّ من تقاعد أو قبض تعويضًا منذ 17 تشرين الأول 2019 حتى الآن، حيث أنّ التعويضات التي صرفت وسوف تصرف لاحقًا فقدت كامل قيمتها. ويعمل التجمّع على التنسيق مع التجمّعات الأخرى خصوصا تجمّع متقاعدي وزارة الإعلام بهدف حشد الجهود والطاقات لتحقيق المطالب.
يقول عضو الهيئة التأسيسية لتجمّع الأجراء والمتعاقدين في الإدارات العامّة عبد الله مشيمش: “من حقنا الحصول على تقاعد كريم نحن الذين لم نتوانَ يومًا عن القيام بواجبنا الوظيفي على أكمل وجه. ويشير إلى أنه علاوة على المطالبة بمعاش تقاعدي كحق مكتسب تأخرت الدولة في إحقاقه، فإننا وفي حال لم يتحقق هذا المطلب لأي سبب، نطالب باحتساب تعويضاتنا على سعر السوق”. ويضيف: “نحن منذ بداية الطريق نعرف أنّنا نواجه سلطة فاسدة، وهم اتخذوا قرارهم بأنّ التعويضات ستكون على سعر دولار 1500. من هنا كان خيارنا أن نواجه هذا الظلم الذي لحق بنا وبأمثالنا. فحتى الزملاء الذين سينهون خدمتهم لحين تنفيذ المشروع التقاعدي، هم أيضًا سيقبضون تعويضهم على سعر دولار 1500 ليرة”.
ويشدد على أن خيار التجمّع واحد وهو التدرّج التصعيدي بتحرّكنا حتى الوصول إلى الاعتصام أمام مجلس النوّاب، للحصول على حقنا المشروع وكي لا نتحوّل إلى متسوّلين. ويضيف أن ثمّة خيارًا ثالثًا يجري التنسيق بشأنه مع تجمّع متقاعدي وزارات وإدارات أخرى، وهو التقدم بدعوى ربط نزاع مع الصندوق الوطني للضمان يجري العمل عليها بالتعاون مع قانونيين، ما يُتيح لأصحاب الحقوق التقدّم بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة في حال رفضت إدارة الضمان تلبية المطالب.
عَودٌ إلى بناء الدولة
شكل مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2024 في مادته 93 أملًا لهذه الفئة من الأجراء إذ لحظ معالجة استثنائية لتعويضات نهاية الخدمة وفقًا لأحكام المادة 51 من قانون الضمان الاجتماعي. وبموجب هذه المادة يتم احتساب التعويضات عن سنوات الخدمة لما قبل 31/12/2023 على أساس 15 ألف ليرة للدولار الواحد. إلّا أنّ قانون الموازنة أقرّ فيما تمّ سحب هذه المادة تحت حجّة المزيد من الدرس وتأمين الأموال اللازمة لها.
الأكيد أن أي حل يتطلب أموالاً والأموال غير متوفّرة. وإذا كان على الدولة أن تدفع للضمان ما له في ذمتها من مبالغ، وهي باهظة جدًا، كي يتمكن من رفع قيمة تعويضات نهاية الخدمة، فإن الأسهل لديها أن تقسِّط هذه المبالغ كمعاش تقاعدي فيما يُعيد المتقاعدون للضمان ما تقاضوه من تعويضات ويتخلى عنها من لم يقبضوها بعد لقاء حصولهم على معاشات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أمرين مبدئي واقتصادي: فهذه الشريحة المظلومة أو سيئة الحظ من المتقاعدين تواجه أيضا ظلم عدم المساواة مع من خرج قبلها أو من سيخرج بعدها من العاملين. فهي لم تحظَ بمساواتها مع الموظفين بمعاش تقاعدي، ولم تتساوَ مع المتقاعدين والأجراء الآخرين برفع قيمة التعويضات.
حقوق المتقاعدين مقدّسة، لكن منح هذا الحق يتطلّب مبالغ عالية، والدولة مفلسة. والمخرج هو بإعادة تشغيل عجلة الاقتصاد لتوليد المال، لكن تشغيل هذه العجلة يتطلّب دولة سيّدة وسلطة فاعلة وإدارة رشيدة، جميعها غير متوفرة الآن مع السلطة الحالية. وأي مسار صحيح ليكون الجميع بأمان ومكتفٍ، يبدأ حكمًا من إصلاح الدولة الذي يبدأ بدوره من تصويب خيارات المواطنين!
“المسيرة” ـ العدد 1750
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]