التجنب الضريبي: هكذا تُغيّر الضرائب العشوائية وجه الاقتصاد

حجم الخط

كتب البروفسور نيكول بَلّوز بايكر باحثة في الشؤون الاقتصاديَّة والبروفسور مارون خاطر الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة:

كَرَّسَت مُوازنة 2024 البالغة السوء واقِعاً ضرائبياً عشوائياً جديداً سَتَكون لَهُ تداعيات اقتصاديَّة بنيويَّة وهيكليَّة كامِنَة وخَطيِرة. في الشَّكل، أقَرَّ مَجلِس النُّواب المُوازنة تَحتَ تَهديد تَمريرِها بِمَرسوم في مَجلِس الوزراء في سَابقةٍ وَضَعَت المَجلِس أمام خيارين كلاهما مُرّ دون أن يُشكل ذلك مُبرراً للإقرار. في المَضمون، أُقرَّت الموازنة دون قَطع حساب وأتَت ضرائبية عَبَثيَّة ولا ترتكز إلى أي من النظريّات الاقتصاديَّة بل تعتمد “القاعِدَة الثُلاثية” لاحتساب مجموع الضَّرائب اللازِمَة لِتَغطية ما أَورَدَته مِن نَفَقات. مِن البَديهي، بَل مِن المُوجِب، أن تُقَلد الحكومات في سياساتها الماليَّة إحدى النظريّات الاقتصاديَّة التي تُشَكل أساسيات عِلم الاقتصاد فَتَجنَحَ إمَّا الى تَحفيز العَرض أو الى تَحفيز الطلب ثَمَّ تَبني سِياسَتَها الضرائبيَّة تِبعاً لهذا الاختيار. في المُوازاة، تَضَعُ الحُكومَات خِططاً استثماريَّة وإصلاحيَّة تُمكّنها مِن تَنفيذ ما تَصبو إليه. تُشَكّل مُجمل هذه العناصر الرؤية الاقتصاديَّة للموازنة التي يَجِب أن تتناغم مع الرؤية الماليَّة للبلد. بالعودة الى موازنة 2024، يتَبيَّنَ أنَّ “قَطع الحِسَاب” شِعار ظَرفي يَبيعُهُ تُجَّار السياسة في سوق الصَّفقات وأنَّ غِياب جَميع عَناصر الرُّؤيا الماليَّة والاقتصاديَّة للبلد واقع مَريرٌ ومقصود!

يُحَوّل هذا الواقع السياسة الضرائبيَّة من عامِلٍ مؤثر في السياسة الماليَّة إلى أداةٍ بدائيةٍ لِجَني الإيرادات بَل لاحتِساب إيرادات دَفتريَّة لَن تُجبى. فَمِنَ الطَّبيعي الَّا تُجبى الضرائب حينَما تُفرض جُزافاً على اقتصادٍ يَنكَمِش وفي بلدٍ حدوده سائِبَة ومُواطنوه فِئاتٌ غَيرُ مُتساوية أمام ما تبَقَّى من دولتهم. حينَما تَغيبُ الرؤيا الاقتصاديَّة ويَحكُمُ ضِعافُ القوم مِمَّن لا يَملكون قرار الحُكم، تَفقِدُ الضَّرائب بُعدَها الاقتصادي الإستراتيجي وتَتَحَوَّلُ أُفقيةً عَبَثيةً، جامِدَة ومُضلِّلة! يُشَكّل التَّهريب والتَّهَرُّب الضَّريبيَّن أبرز النتائج والتَّداعيات المُباشرة لِفَرضِ الضرائب العشوائيَّة كما هو مَعلوم. إلا أنَّ لهذه الضَّرائب نَتائِجَ غَيرَ مُباشرة صامِتَة، فَتَّاكة وغير مُتَداوَلة. يأتي “التَّجَنُّب الضَّريبي” Tax avoidance أو بالفرنسيَّة L’évitement fiscal على رأس قائِمَة هذه النَّتائج المُضمَرَة والمَخفيَّة. يُمكن تَعريف “التَّجَنُّب الضَّريبي” بأنَّه “تخطيط ضَريبي سيئ النيَّة” يَرتكِزُ الى وَسائل قانونيَّة تَهدِفُ إلى عَدَم دَفع الضَّرائب أو بالحَدّ الأدنى إلى تَخفيضِ أرقامِها. عَملياً، يَدفَع “التَّجَنُّب الضَّريبي” الافراد والمؤسسات الى تغيير طبيعة نشاطاتهم والتَّوَجُه نحو القطاعات والأعمال ذات الضرائب المُنخَفِضَة. على الرُّغم من مَشروعيَّة هذه الخطوة نظرياً، إلَّا أنَّها تَتَعَارَضُ مع روحيَّة القانون وتُلحق ضرراً كبيراً باستِدَامَة مَدَاخيل الدَّولة (إستدامة الإيرادات الضَّريبيَّة)، بالعَدالة الضَّريبيَّة (أو التوزيع العادل للعِبء الضَّريبي الذي يؤمن المُنافسة المُتكافئة) وبفعاليَّة النّظام الضَرَائبي كَكُلّ (بِسَبَب خسارة الضريبة لمبادئ العدالة والكفاية والشفافية والبساطة والسهولة وتحولها من ضريبة “جيدة” إلى ضَريبة غَير مُوَحَّدَة و”موَجِّهَة” لخيارات المُكَلَّفين). لِذَلِك بدأت الدُّوَل بِمُكافحة “التَّجَنُّب الضَّريبي” في قَوانينِها الداخليَّة وفي عَلاقاتها الثنائيَّة وبات يُعتَبَر مُرادِفاً “مُقَونَناً” للتَّهرُب.

أمَّا في لبنان، فَخَطَرُ “التَّجَنُّب الضَّريبي” الذي تَتَسَبَّبُ به الضرائب العشوائيَّة مُضَاعَفٌ بِسَبَبِ العَوامل السياسيَّة والاقتصاديَّة التي تَتَحَكَّمُ في مُستقبل البَلَد وشَعبِهِ. فَلِهَذِهِ الضَّرائب تَداعياتٌ سَتَطال دُون شَكّ مَرحلة ما بَعد التَّهرب والتَّهريب وَحَقَبة ما بعدَ زَمَن الاقتصاد النَّقدي التي يَعيشُهُ لبنان. عملياً، يَدفع “التَّجَنُّب الضَّريبي” بالمُكَلَّفين الى:

١- إيجاد وَسائِلَ “تَهَرُّبيَّة” يُغطيها القانون دُونَ أن يُبَرِّرَها. هذا النَّوع من “التَّجَنُّب” والذي يُعرف أيضاً بـ “التَّهَرُّب القانوني” غالباً ما يَكونُ مُتاحاً لأصحاب المَال والسُّلطة والنُّفوذ وليس لكل المُكَلَّفين. يؤدّي ذَلك الى مَزيدٍ مِن “اللاعدالة” وإلى نموٍ غيرِ مُتوازن للاقتصِاد ولِقطاعاتِهِ الإنتاجيَّة عَبر الاحتِكار غَير المُعلَن من جِهة، والى تَقلُّص الاقتصاد المُنَظَّم كَنَتيجة لِعَدَم تَكافُؤ الفُرَص. فإذا كان أقل من 45% من مُجمل الحركة الاقتصاديَّة يَمُرُّ عبر الشركات والمؤسسات بِحَسَب التَّقرير الأخير للبنك الدولي الصَّادر قبل إقرار هذه المُوازنة، فَماذا سَيَبقى من الإطار المؤسَّسي بَعدَ كُلّ ما ذَكَرنا؟ إستطرداً نسأل: ألا يُمَهد هذا المَنحى إلى تَكريس الاقتصاد النَّقدي وغِياب التَّنظيم؟ إلَّا أنَّ أكثر ما نَخشاهُ في هذا الإطار هو أن يَسلُك التَّشريع، عَمداً أم سَهواً، طَريقَ التَّجنُب أو ألَّا يَسلُك طَريق مُكافَحَتِهِ.

٢- التَّحَوُّل نَحو القِطاعات الأقَلّ تأثراً بالضَّرائِب. في غِياب المُخطَّطات التَّوجيهيَّة، يَتَّسِم هذا التَّحَول بالعشوائيَّة مما يؤدي إلى تغيراتٍ جَذرية في بُنية الاقتصاد. على الرُّغم من أنَّه، وفي الشَّكل، لا تَفرُض موازنة 2024 ضرائب مباشرة على الشركات والمؤسسات بطريقة “قِطاعيَّة”، إلَّا أنَّ الرُّسوم والضرائب غير المُباشرةُ الوارِدَة فيها تَطَالُ القِطاعات الحَيَويَّة الأكثر إنتاجيَّة والمُلزَمَة بالتَّنظيم لأسباب تَشغيليَّة كالسياحة والصناعة. كَنَتيجةٍ لذلك، تَتَحَوَّل الضَّريبة من “جَيدة” إلى “سَيئة” بلَ إلى “مُدَمِّرة”.  يُفضي ذَلك الى ضَرب مبدأ “العدالة الضَّريبيَّة الأفقيَّة” الذي يَضمن المُساواة الضرائبيةَّ لِلمُكُلَّفين في الحالات المُتشابهة. يَتَسَبَّبُ ذَلِك في خَسارة لُبنان لِميزَتَيهِ التَّفضيليَّة والتَنافَسيَّة وفي ذَهاب الاقتصاد نَحو مَجهول جديد يُغيّر مَلامِحَهُ وتَوَجُّهاتِهِ ويَعزله عن اقتصادات العالم! بالإضافة إلى ما تَقَدَّم، يَنتُجُ مِن هذا التَّحَول عَدَم قُدرة لبنان على استقطاب الشركات النَّاشِئة التي تُشكل العَصَب الأساسي الذي يُؤَمن استِدامَة النُّمو الاقتصادي بَعد إرساء استقرار سياسيّ مُستدام.

بناءً على ما تَقَدَّم، يَتَبَيَّن أنَّ ما تُسَببه الضرائب العشوائيَّة من تَداعيات ونَتائج تَجعَلُ مِنها أداةً تدميريَّةً إستراتيجيةً خَطيرَة تَزرَعُ التَّخَبُّط لِتَحصُدَ تغييراً مُمَنهجاً لِوَجه اقتصاد لبنان يُقصيه عن موقعه المُتَميِّز على خريطة العالم!

“التَّجَنُّب الضَّريبي” هو أداة هذه الضرائب العَشوائيَّة القاتِلة! هذا ما يَقوله العِلم! فَهَل يَفقَهُ من يَحكمون لبنان خطورَةَ ما يُقررون؟

إنَّ العَبَثَ بِوَجه الاقتصاد قَد يَكونُ جِزءاً من مُخططٍ مُمنهجٍ لتكريس لُبنان “مِنطَقَةً حُدوديَّة”، بل “مُستنقعاً لِلّاجئين”!

ومَن لَه أُذنان سامِعَتان وضميرٌ حَيٌّ فَليَسمَع!

مصلحة أساتذة الجامعيين في حزب القوات اللبنانية ـ نيكول بَلّوز

المصدر:
النهار

خبر عاجل