العبور إلى القيامة يفترض وجود جلجلة وصلب وموت. بيدَ أن العبورَ الى القيامة يحتّم وجود إنسانٍ صاحب قلب أسدٍ يقفز فوق كلّ أشكال الإحباط والخوف كما لا يهاب الصلب ولا الموت ولا يضع ثقته سوى بكلمة الله الآب. عبَرَ الربّ يسوع تلك الجلجلة يوم الجمعة العظيمة وقام من بين الأموات يوم الأحد، لا بقلب إنسانٍ وحسب، بل لأنّه حقّق مشيئة الله. ومنذ تلك الواقعة، مهما كانت الجلجلة طويلة وقاسية ومظلمة، فمشيئة الله آتيةٌ حكمًا على الأرض قيامةً وانتصارًا.
حملَ الربّ صليبه يومها، ومشى باتّجاه نور الله المشعّ في آخر نفق الآلام. لم يتراجع أمام نكران رؤساء المحفل ومعهم سكّان أورشليم له، ولم يهرب من مسؤوليّته مع تهكّم لُصّ الشمال عليه، بل صرخ كي لا يتركه اللهُ وسلَّمه كلّ شيءٍ، حتّى روحه وضعها لتحقيق كلمته ووعده بالقيامة والخلاص. تتكوّن الجلجلة عادةً في نوايا البشر الشرّيرة، ويأتي الموت نتيجةً لتلك الأفكار البشريّة، ولكنّ القيامة تأتي دائمًا بقوّة الله، إذ لا يستطيع بشرٌ الوقوفَ أو الصمودَ أمام عَصفِ انفجار ضوئها وحرارة نورها. كثُرٌ على مرّ التاريخ حاولوا مواجهة مشيئة الله وعاثوا فسادًا في الأرض وقَتَلوا وشَرّدوا الكثيرين، لكنّهم غرقوا في وحول جلجلة صنعوها بأيديهم، لذا لم يتعرّفوا إلى لون ضوء القيامة ولم يَنتَشوا من نَصرِهم، بينما البشرّية رفضت التعزية بهم لأنّهم زالوا من الوجود بيدَ أنّها لا تعترف سوى بالقيامة والحياة.
كما اعتقد البعض أنّهم بتحوير كلمة الله يستطيعون السيطرة على قلوب الناس ويستميلونَهم إلى الخضوع تحت قبضتهم واستعبادهم، لكنّ كلمة الله تتجدّد دائمًا في قلوب المؤمنين وتخاطبُهم في واقِعِهم اليوميّ، لا تحتملُ التحوير لأنّها صادقةٌ وخارجةٌ من قلبِ آبٍ يخَافُ على أولاده، وهو راعٍ لا يترك حظيرته عرضة لغريزةِ الوحوشِ الضارية. وهذا ما عبّر عنه البابا فرنسيس في رسالة الصوم هذه السنة تحت عنوان: “من البرّيّة يقودُنا الله إلى الحرّيّة”: “الله هو الّذي يرى، ويتحرّك، ويحرّر وليس بنو إسرائيل هم الّذين سألوه… شهادة العديد من الإخوة الأساقفة وعدد كبير من العاملين في مجال السّلام والعدل تقنعني أكثر فأكثر أنّ ما يجب أن نندّد به هو فقدان الأمل. هناك من يمنعون الأحلام، هناك صراخ صامت يصِل إلى السماء ويحرّك قلب الله”.
بالتوازي مع هذا النداء ومن أجل الانطلاق في عبورنا إلى القيامة، يُفتَرض بنا الوقوفُ أوّلًا والخروجُ من واقعٍ مفروضٍ علينا، ويجب أيضًا رفضُ كلّ تفكيرٍ يتعارض مع إرادة الله، وأن نصرخ إلى الله سائلينَه قوّتَه لنحلمَ بغدٍ أفضل لأنّ حلمنا معه يعطينا الأمل بيومِ أحد قيامة آتٍ، لا محالة. ويضيفُ قداسة البابا: “إنّه زمن العمل، وفي زمن الصوم الأربعينيّ العمل هو أيضًا أن نتوقّف لنصلّي، لنتقبّل كلمة الله، ونتوقّف مثل السّامريّ الصالح، أمام أخينا الجريح. محبّة الله ومحبّة القريب هي محبّة واحدة”. فكما مات الربّ على الصليب وحيدًا يوم الجمعة، ولكنّه أقام الجميع معه يوم الأحد، هذه هي حالنا، ممكن أن نكون أفرادًا على الجلجلة، ولكن يجب أن نعبر جميعًا إلى القيامة بقلبٍ واحدٍ حتّى لو اقتضى الأمر أن نحمل معنا من كان يوم الجمعة عَدوًا لأنّه لم يكن يدري ما يفعل. بالتالي علينا العمل مع البابا فرنسيس في سبيل أُخوّة إنسانيّة تَسير معًا نحو حرّيّة القيامة، يدًا بيدٍ، حتّى يكون الله الكُلّ في الكلّ.
نعيشُ في حروبٍ على إسم الله، ونشاهد الألوف من الجثث قُتل أصحَابها إرضاءً لمشيئة الله، بيدَ أنّه مات على الصليب كي لا يموتَ إنسان من بعده. إنّها إرادة الإنسان الشرّيرة القاضية بقتل الناس لإرهاب الفقراء والمغلوب على أمرهم في سبيل التسلّط عليهم وترهيبهم وتطويعهم تحت رحمتهم. بينما لم يطلب الله سوى الدخول إلى قلب الإنسان ليملأه بحبّه وحنانه الأبويّ. إنّها إرادة الله الدائمة بأن يعيش كلّ إنسان أينما وجد أو سكن مسبّحًا له بحسب عاداته وتقاليد بيئته، ولم تكن هذه الإرادة يومًا موت الإنسان، لأنّ الله محبّة، والمحبّة لا تنمو ولا تعيش سوى في قلوب بشرٍ أحياء تخفق لقلب الله في صيرورتهم اليوميّة.
تحاول قلّة قليلة من الناس سوق الأكثريّة مثل الغنمِ إلى الذبحِ، لكنّهم يتناسَون أنّ راعي الغنم هو الربّ يسوع الواقفُ على باب الحظيرة ليضربَ بعصًا من حديد، كلّ من ساورته نفسُه اقتحام الحظيرة. تعتقدُ هذه القلّة أنّها ستنجح لأنّ الكثير من الناس لا يحبّون المجازفة في تغيير واقعهم، وهذا ما عبّر عنه البابا فرنسيس في رسالته: “عولمة اللامبالاة”، لذا يجب أن ننزع رداء الاستعباد والخوف عنّا ونقفز فوق الجلجلة متّكلين على إرادة الله في الحياة، كي نلاقيَ يسوع المسيح في حرّيّة القيامة. إنّهم جماعة قليلة لا تقوى على الوقوف أمام مشيئة الله، فيجب علينا إذًا، أن نسعى لتحقيق مشيئته القدّوسة كي نقوى عليهم ونسحَقَهم. إنّها حقيقة ثابتة أن تقدر الأكثريّة على دحر القلّة الشريرة عندما تكون قلبًا واحدًا ويدًا واحدةً في تعزيز روابط الأخوّة الإنسانيّة والعمل في سبيل حرّيّة الإنسان الدينيّة أولًا، وحماية كرامته الإنسانيّة والحفاظ عليها ثانيًا.
إنّها إرادة الله أن يتمحّصّ الإنسان يوم الجمعة العظيمة كي يَعبُر ذهبًا مصفًّى يوم القيامة فيتمجّد به. لن تقوى إرادة بشرٍ على إرادته القدّوسة، لأنّ قوّته قوّة راعٍ يجود بنفسه من أجل أحبّائه. أحد القيامة آتٍ، مهما طالت ساعات يوم جمعة الجلجلة، وقوّة الله ستعبر فوق تلك الواقعةِ الشرّيرة القاتلة، بكلّ من سلّمها قلبه واتّكل عليها، ولكن سيبقى هناك أناس غارقين في وحول جلجلتهم، لأنّهم رفضوا كلمة الله، وكانوا قساة القلوب ولم يجرؤوا على العبور إلى القيامة.
“المسيرة” ـ العدد 1751
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]