في القرية صوت الله أقرب. على الأقل هكذا نشعر أولاد الضيعة المنحازون لترابنا. قد يزعل أهل المدينة، لكن الضجيج هناك يحجب صوت الحب الهادر ذاك. في القرية نعيش أنانية امتلاك المسيح، نعتبره ابن الضيعة، ولد هنا وشاركنا جميعًا بليلة خميس الأسرار حين غسل أقدام تلامذته، وكنا هناك فوق في جبل الزيتون نتفرّج، وصلب هنا على رأس التلة، وذهبنا جميعًا لنضع الطيوب على جسده، ورأينا بأم العين الحجر المتدحرج عن قبره ولكن فاتنا مشهد واحد فقط، القيامة!!
في القرية كأن المسيح يتمشّى شخصيًا بين أزقة البيوت، ويعيش معنا يومًا يومَ تفاصيل عادات الصوم وطقوسها، ويراقبنا، وأحيانًا يشاركنا ما نفعل. قد تكون المدينة غلبتنا في الكثير من المظاهر البرّاقة والابتعاد عن روح الضيعة، ولكن ما زلنا أقوياء صامدون في عاداتنا اللبنانية القروية الرائعة، التي تتجلّى خصوصًا في زمن الصوم.
أربعون يومًا من زمن الصوم، تعبر كالوميض الحلو الجميل المملوء شجنًا سعيدًا. كل منا يصوم عن بعض ما يحب، الغالبية عن أكل اللحوم، بعضهم عن القهوة، آخرون عن الكحول والحلوى، “هيدي إماتة بسيطة لربنا تـ نشاركو آلامو ويرد عن ولادنا وأحفادنا”، تقول جدتي التي تصوم أربعين يومًا عن اللحوم كافة وعن البيض، ولكنها ما استطاعت يومًا أن تصوم عن قهوة الظهر حين يقرع جرس الكنيسة، معلنًا انتهاء الصوم. “بقدرش يا ستي بيوجعني راسي وبيقشط ضغطي إذا ما شربتش قهوتي الساعة 12” تقول ضاحكة، وتذهب لتصلي مسبحتها طالبة المغفرة! ما زال هناك فوق بعض قليل من براءة الإيمان العتيق، من جيل تعتّق بالحب الخالص لمسيح، ما زال في بالهم الابن الذي لا يكبر، لا يخافون منه، بل يخافون عليه من قسوة الجلاد.
أحلا ما في القرية حين تلتقي نساء الحي ليفطرن معًا، وهذه عادة قديمة تجددها بعض نساء القرية، وأطيب مأكولات الصوم تحديدًا، تبولة بعدس والبلعصون مع البيض، وهي عشبة قاسية تنبت في أول آذار، تُطهى مع البيض أو الهندباء البريّة المتبّلة بالثوم والحامض، وما شابه من أكل “قاطع” يصبح موائد فاخرة في مرحلة الصوم الكبير. ومساء كل يوم جمعة، نتلحّف بالبرد الدافئ ونذهب الى رتبة درب الصليب ونتماهى هناك مع آلام المصلوب، وعند باب الكنيسة نتواعد على فنجان قهوة الظهر ليوم الغد. هي تفاصيل بسيطة جدًا، ولكنها تصنع ذاك الفرح الداخلي البسيط الرقراق الشفاف الحنون، الذي لا يجد له مكانًا في الصخب، بل ينبت هناك فوق في القرية الصغيرة وعاداتها وتفاصيلها الحنونة المتبقية الراسخة فينا.
أجمل أيام الصوم هي أسبوع الآلام الأخير، تستنفر الضيعة، تشعر أن البيوت في حال طوارئ ما، ربما هي حال حب ما، حال تماهي مع المسيح في آخر أيامه بيننا على الأرض، حال انصياع لذلك الشجن السعيد الذي يجتاحنا في كل تفاصيلنا، وتجعل من قلوبنا واحة سلام وإن كانت معجوقة بالتحضيرات والاستعدادات لليوم العظيم، يوم القيامة.
قبل أحد الشعانين بيوم، تعبق في أرجاء الضيعة رائحة كعك الشعانين، هي عادة لا يمكن التخلي عنها، وذاك الكعك الشهي متوارث منذ زمن الأجداد، “أخدوا الكعك منا البيارتة ونحنا أخدنا منن المعمول” تقول نساء القرية. مساء أحد الشعنينة، وبعد أن تخلع القرية أثوابها الجديدة، تطفئ شموعها وتذهب الى رتبة درب الصليب، بدأ المسيح طريق جلجلته الفعلية، دخل أورشليم على أغصان الزيتون والنخيل، وفي المساء بدأ صليب جلجلته يشق طريقه على دروب الإنسانية.
لكل يوم في أسبوع الآلام حكاية ومعنى. ممنوع اللحوم على أنواعها، وباعة اللحوم يدخلون في بطالة موقتة، “وقّفنا الدبيحة هاليومين حرام لازم نصوم مع ربنا”، يقول المعلم جوزف، علمًا أن الأمر لا يخلو من بعض الخروقات، خصوصًا أن بعض رجال القرية تحديدًا لا يلتزمون، ويبقى صحن الكبة النيئة وكأس العرق اكسير موائدهم.
يوم اربعاء ايوب تفوح رائحة معمول العيد “ما بيقطع العيد بلا البركة، بس ممنوع الدواق قبل سبت النور”، هذا أمر لا يحتمل أي خرق من أهل البيت مهما بلغت سطوتهم!
يوم خميس الأسرار، يأتي البيارتة الى الضيعة، أي أهل القرية الذين يسكنون بيروت. بدأت عطلة الفصح، الكنيسة تتحضّر لرتبة الغسل، إما التلامذة وإما رجال الضيعة الكبار وأحيانًا الشباب، ومرات أخرى الأطفال، بحسب ما يطلب كاهن الرعية، نذهب ليلًا الى الكنيسة لنشارك بطرس وهو يسأل ألمسيح لماذا يغسل له قدميه، وعند انتهاء الرتبة نتناول النبيذ جميعًا، ونشرب مع المسيح كأس دمه التي ستهرق لأجلنا على الصليب.
يوم الجمعة العظيمة، عظيم. عظيم بتفاصيله كافة، نستيقظ على صوت فيروز عبر مكبر الصوت، وهي ترتل “انا الأم الحزينة”. منذ ساعات الصباح يهرع الأولاد الى الجبل القريب لقطف تلك الزهرة التي لا تنبت الا في زمن الصوم، ديك الحجل، نقطفها حزمًا لنضعها عند قبر المسيح. مطبخ الضيعة واحد موحد على طبق رئيس لا سواه، الزنكل، وهي عجينة مصنوعة من اللقطين المسلوق والبرغل، يصنع منها كريات صغيرة، وتسلق مع الحمص وحامض الحصرم ويضاف اليها الخل، والضيعة كلها من دون استثناء، تأكل الزنكل، وعندما يقرع جرس الظهر، وقبل الغداء، نرتشف جميعًا فنجان قهوة من خل التفاح، تماهيًا مع المسيح العطشان الذي حين طلب الماء سقوه خلًا ومرًا.
بعد الظهر نذهب الى رتبة المصلوب، نحمل الصليب ونعش المسيح في شوارع الضيعة، غالبًا لا نجد رؤوس رجال الضيعة منحنية الا يوم الجمعة العظيمة، تخشع القرية لآلام الرب، تركع عند قبره الممتلئ من زهورنا، ونذهب معه الى الشجن الرامش على فرح القيامة.
سبت النور، “صار فينا ندوق المعمولات؟”، تفوح روائح البيض المسلوق الملون بالنعنع الأخضر أو قشور البصل، او التلوينات الطارئة على مطبخ الضيعة، ونجهزها للعيد الكبير لنتفاقس البيض، دلالة على قيامة المسيح وولادتنا الجديدة.
12 ليلًا يقرع الجرس بقوة، المسيح قام من بين الاموات…
المسيح قام، المسيح قام… يوم الأحد نلبس القيامة بثيابنا الجديدة ونتلاقى عن باب الكنيسة. عجقة، يقف المسيح تحت صليبه الموشح بالشال الأبيض، يعايدنا بقيامته في قلوبنا، لا تغيروا عاداتكم وتقاليدكم، إبقوا في الأصالة ولكن لتكن قيامتي في قلوبكم أولًا لنذهب معًا الى الرجاء…