القوات أم الصبي من خلف المدفع إلى “بوز” المدفع
مقاومة مستمرة لاحتلال النفوس وإلغاء النصوص
قدر “القوات اللبنانية” أن تسدد غالبًا وغاليًا، أثمان أخطاء وخطايا ارتكبها سواها، بخلفية القناعة بأنها أم الصبي. فالمرتكبون في العادة، إما حاقدون أو قصيرو النظر أو ممن يقدمون حساباتهم الخاصة والضيقة على المصلحة العامة، سواء ارتبطت هذه المصلحة بوطن أو جماعة أو قضية محقة.
عندما انطلقت الرصاصة الأولى في 13 نيسان 1975، كان الجميع يدرك أنها ليست فعليًا الأولى ولن تكون الأخيرة. فبذور الحرب زُرعت ونبتت في الظلال السياسية قبل ذلك بكثير، وعلى مراحل وفي فصول عدة. وثمة من يقول إن قدر الأحرار أن يكونوا دائمًا في الواجهة للمواجهة، وأن يكونوا دائما “في بوز المدفع” أو أحياناً واضطرارًا خلف المدفع.
بل إن انطباعًا تكوّن على مر التجارب، بأن الحروب والخضّات والصراعات التي لم تتوقف يومًا في لبنان على مر تاريخه الحديث، إلا في استراحات لا تتخطى في العادة الخمسة عشر عامًا تقريبًا، تعود في جذورها السببية إلى أصل التركيبة اللبنانية للدولة الراهنة.
لقد آمن معظم اللبنانيين على مدى أكثر من مئة عام، بلبنان الواحد المتنوّع، وسعوا طويلاً إلى حمايته أو تعويمه بعد غرقه أو إغراقه في نزاعات خارجية أو داخلية، لكن تكرار التوترات وتبلورها أحياناً باللجوء إلى منطق القوة والسلاح، كان دائمًا يجد طريقه إلى مخارج وتسويات معقولة، حتى بعد الحرب التي انتهت نظريًا في العام 1990. ولكن ما نشهد اليوم من استقواء وأحادية ومحاولات لإلغاء الآخر، يمثل حالة شاذة تحولت تدريجًا إلى قاعدة غير مسبوقة وتستدعي مقاربة مختلفة.
فقبل اندلاع الحرب العام 1975، تجلّت روح المقاومة التي تجسدها “القوات اللبنانية” كحالة وقضية، في محطات عدة كان عنوانها رفض المساس بسيادة لبنان من جهة وبواقعه التعددي المرتكز إلى الحرية من جهة أخرى. وقد برز هذا الواقع في العام 1973 مع باكورة الصدامات الواسعة مع الفدائيين الفلسطينيين، وصولاً إلى الحرب.
بالطبع لا بد من الإشارة إلى أن الخلفية التي كانت وراء إطلاق شرارة الحرب، تحولت لاحقاً إلى أكثر من اعتراف بأنها كانت خاطئة لا سيما بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أقرّ رئيسها التاريخي ياسر عرفات بأنه كان يراهن على احتلال لبنان وتحويله وطناً بديلاً، كما أن القوى المسمّاة في حينه وطنية وتقدمية والتي تحالفت مع “المقاومة الفلسطينية” لدعم طروحاتها المطلبية، أقرّت بنسبة أو بأخرى بأن المسألة لم تكن تستحق تلك الحرب المجنونة، بل إن بعض أبرز رموز تلك القوى، عاد وتحالف مع من كان في موقع الخصم له، لا سيما في إطار قوى 14 آذار.
لقد قاوم اللبنانيون، ولا سيما المسيحيون منهم، الاندفاعة الفلسطينية بشراسة و”باللحم الحي” في مرحلة أولى، فلم يجبنوا أو يستكينوا بحجة الخلل في ميزان القوى، وكانت شرائح من المسلمين بمختلف طوائفهم تتعاطف مع المقاومة المسيحية آنذاك، من دون أن تستطيع التعبير براحة عن هذا التعاطف، بسبب هيمنة التحالف الفلسطيني اليساري على الساحة الإسلامية.
وشيئاً فشيئاً تحولت المقاومة اللبنانية إلى كيان جمع الحالات الحزبية بالحالة الشعبية المستقلة في إطار “القوات اللبنانية”، بدفع قوي من بشير الجميل الذي أدرك أن ثمة حاجة إلى توحيد القوة الميدانية لوقف تداعيات الصراعات والتنافس الضيق، مع الحفاظ على التنوّع السياسي في إطار الجبهة اللبنانية.
لقد أجبرت المقاومة في المناطق الحرة جميع الذين راهنوا على سقوطها عاجلاً أم آجلاً على إعادة قراءة الواقع اللبناني، إذ فشل مشروع الوطن البديل، علمًا بأن استعمال الفدائيين الفلسطينيين لبنان كمنصة لشن عمليات على الجليل انطلاقًا من الجنوب دفع بإسرائيل إلى شن أول هجوم احتلت على أثره الشريط الحدودي مباشرة أو عبر قوة محلية، ما أدى إلى إقحام إسرائيل في الوحول اللبنانية.
على أن التطورات استجلبت من ناحية أخرى جيش النظام السوري إلى لبنان، بغض نظر دولي، وسرعان ما حظي هذا التدخل بغطاء تحت عنوان قوات الردع العربية، والذي استغله النظام السوري لفرض هيمنته، ما دفع بسائر الدول العربية المشاركة إلى الانسحاب تدريجًا، لتبقى القوات السورية كواقع احتلالي واجهته “القوات اللبنانية” وأجبرت قوات النظام السوري مرتين على التراجع عن رهان السيطرة على المناطق الجرة.
المرة الأولى تمثلت بطرد القوات السورية من الأشرفية ومحيطها في حرب المئة يوم بعد معارك ضارية كرّست الدور القيادي لبشير الجميل. والمرة الثانية تمثلت بمعركة زحلة التي تمكنت خلالها “القوات اللبنانية” مع أهالي زحلة من الصمود ومنع القوات السورية من الدخول إلى المدينة، كما فرضت تلك المقاومة استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف النار والاعتراف عمليًا بـ”القوات اللبنانية” ومشروعية مقاومتها. فكرّست حرب زحلة بشير الجميل المرشح الأقوى لرئاسة الجمهورية.
وقد شكل الاجتياح الإسرائيلي في صيف العام 1982 فرصة لاختبار “القوات اللبنانية”، فعرف بشير الجميل كيف يتمايز، فلم يماشِ إسرائيل في رهانها وأصرّ على سيادة لبنان، وهو ما أبلغه أيضًا للعرب الذين سعوا إلى التوسط لتعويم منظمة التحرير في لبنان.
وكان على “القوات اللبنانية” لاحقاً، ومع الانسحاب الإسرائيلي الملتبس والمفخخ في رأي البعض، أن تواجه تداعيات هذا الانسحاب واستغلاله من قبل النظام السوري وحلفائه، في ما يشبه تقاطع مصالح مع إسرائيل، فكانت حرب الجبل وصولاً في مرحلة ثانية إلى بيروت، علمًا أن نجم سمير جعجع كان بدأ يتخطى الشمال ليسطع على مستوى “القوات اللبنانية” بعامة، فقاد معركة الجبل التي أريد له أن يدفع ثمنها وثمن التلكؤ في مواجهة الهجمة السورية بدعم من الفصائل الفلسطينية الموالية لدمشق، فصمد في دير القمر وعمل تدريجًا على الحفاظ على الخط التاريخي لـ”القوات اللبنانية” في مواجهة محاولات النظام السوري تطويع “القوات” عبر الاختراق الداخلي على غرار الاتفاق الثلاثي.
والمؤسف أن الخطوط الحمر التي كرّستها “القوات اللبنانية” بالدم حول المناطق الحرة، وانتزعت من خلال ذلك ضمانات دولية بعدم اختراقها، تسببت الحربان العبثيتان اللتان قادهما العماد ميشال عون في إسقاط تلك الخطوط وفرض أمر واقع جديد، كانت “القوات اللبنانية” مجددًا رأس الحربة في مواجهته.
وتكرارًا كان على سمير جعجع أن يخوض المواجهة السياسية، فأربك حسابات النظام الأمني المشترك، بالمعارضة التي قادتها “القوات”، ما حوّل انتخابات 1992 إلى مهزلة في ظل المقاطعة العارمة، فضلاً عن رفض “القوات” المشاركة في الحكومات على رغم بعض الإغراءات، فكان تركيب الملفات الأمنية القضائية مع تفجير الكنيسة وحل حزب “القوات” واعتقال قائدها منذ ثلاثين عامًا بالتمام.
وقد أثبتت “القوات” بقيادة سمير جعجع أن المقاومة يمكن أن تستمر في الحرب كما في السياسة، في السلم كما في زمن القمع والاعتقال، وصولاً إلى استعادة سمير جعجع الحرية مع استعادة لبنان سيادته نسبيًا مع الانسحاب السوري.
وكان على “القوات اللبنانية” أن تخوض معارك سياسية أخرى ومريرة أحياناً، وهي تعي أنه لا يمكن لها التفريط بتضحيات الشهداء في الحرب كما في زمن السلم الخادع، على الرغم من محاولات جرّها إلى صفقات ومقايضات من قبل الوصاية البديلة التي مثلتها وتمثلها جماعة الممانعة بقيادة “حزب الله”.
لقد خاضت “القوات اللبنانية” مواجهات قاسية لتثبيت مفهوم الدولة السيدة الحرة التي تؤمن بالحرية والتنوّع والإصلاح، وقدمت نماذج معبّرة عبر مشاركاتها شبه الرمزية والمحدودة نسبيًا في السلطة التنفيذية، على الرغم من محاولات تحجيمها وحصارها والتفاف التيار الوطني الحر عليها مع إسقاط إتفاق معراب لمصلحة الحلف مع “حزب الله” بخلفيته الإيرانية.
اليوم تخوض “القوات” في السياسة ما هو أكبر من معركة وأقل من حرب بقليل، تحت عنوان التصدي لسعي إيران من خلال “حزب الله”، لاستكمال الهيمنة على لبنان وفرض منطق القوة على منطق الحق والدستور والميثاق والشراكة، وصولاً إلى الدولة والمؤسسات والاستحقاقات.
بل إن سمير جعجع مضطر راهناً لخوض أكثر من مواجهة على أكثر من جبهة، إن بالنسبة لسعي جماعة الممانعة الى رهن لبنان للقرار الإيراني حربًا وسلمًا، أو بالنسبة للتعاطي الصعب مع المعادلة المسيحية والوطنية، لا سيما في ما خص الاستحقاق الرئاسي، وصولاً إلى مواجهة عمليات الخداع والاستدراج التي يتعرض لها المجتمع الدولي لجرّه إلى التسليم بالخلل القائم في لبنان، وهو ما كان صريحًا وصلبًا حياله رئيس “القوات” خلال اللقاء الأخير مع اللجنة الخماسية، تأكيدًا على أن السياسة في مفهوم “القوات اللبنانية” هي مبدأ والتزام بالمواثيق والدساتير، وليست مجرد ترقيع وتدوير زوايا، وأن لا مجال للتسليم بهيمنة المشروع الإيراني، انطلاقًا من الإيمان بضرورة الحفاظ على مساحة الحرية في لبنان، ولو بتطوير التركيبة تحت سقف الشراكة.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
“المسيرة” ـ العدد 1751
للإشتراك في “لمسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]